أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > المكتبة

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 21/06/2008   #181
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : اسبيرانزا عرض المشاركة
قريت مرة دراسة موجود فيها رسائل من تولستوى الى الشيخ محمد عبده والعكس
اعتقد كان فى فترة الصراع الروحى لتولستوى ...كان يأمل التعرف على الاسلام مثلما تعرف على ديانات اخرى كثيرة
لكنه فى النهاية اثر ان تكون علاقته بالله صوفية كاملة مع عدم الانتساب الصريح لدين معين
جايكي بالحديث..

لا أحتاجُ لتوقيعٍ .. فالصفحةُ بيضا
وتاريخُ اليوم ليس يعاد ..

اللحظةُ عندي توقيعٌ ..
إن جسمكِ كانَ ليَّ الصفحات
  رد مع اقتباس
قديم 22/06/2008   #182
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


عادت أسرة أندريفنا إلى مزرعتها، ولم يكن أحد يتوقّع أن يلحق بها الكونت ليو تولستوي بعد يومين اثنين فقط من زيارتهم له! وكتبت تانيا شقيقة صوفيا في مذكراتها:

«أحسست بأن تولستوي لم يأت بهذه السرعة لزيارتنا إلا ليطلب الزواج بأختي (صوفيا) ولكنه لم يفعل، وأدركت بعد ساعات من الزيارة أنه يتحين الفرص ليخلو بها. يريد أن يخلو بصوفيا، وأن يصارحها بحبه، ويسألها عما تكنه ناحيته من عاطفة.! غريبٌ أمر تولستوي هذا. كيف لم يفهم مدى تعلّق وشغف صوفيا به، وهو الذي يعالج في رواياته أشد العلاقات الإنسانية تعقيداً، خاصةً بين الرجل والمرأة؟! حاولت جهدي أن أمكنها من لقاءٍ بعيد عن رقابة أمي وشقيقتي ليزا!»

أما تولستوي نفسه، فقد كتب في يومياته عن تلك الليلة القدرية في حياته:

«كنت أريد أن أعرف حقيقة عواطف صوفيا نحوي! إنها لا تفارقني بنظراتها! ولكن هذا لا يعني الكثير! فالفتيات في مثل سنها يتخبطن عادةً في دوامة الانفعالات إذا أحسسن باهتمام رجل بعينه! وهذه هي طبيعة المراهقة!
يا إلهي! ما أكبر الفارق في العمر بيني وبينها! إذا رفضتني فلن يكون ذلك إلا بسبب فارق السن! ولو كان في المزرعة القريبة من مزرعة أسرة أندريفنا شاب قريب منها في السن لما شغلت نفسها بي!
ثم، ماذا يدفع شابة جميلة رقيقة مثل صوفيا نحو رجلٍ أجمع الناس على بشاعة أنفه، وليس فيه أي شيء من سمات الوسامة؟! كان يجب أن أسألها وأعرف إجاباتها بوضوح وصراحة؟!».

ونتابع الموضوع نفسه فيما كتبته تانيا في مذكراتها عن الأحداث في ذلك اليوم:

«.. كنت قد ذهبت إلى غرفة الموسيقى في الطابق الثاني حتى أفسح المجال للكونت تولستوي ليخلو بصوفيا، ومن عجبي أنهما لم يختارا للقائهما غير غرفة الموسيقى! وما أن دخلا معاً، حتى اختبأتُ خلف البيانو بحيث لا يرياني، وتوقّعت أن يمسك بيدها أو يصارحها بمشاعره تجاهها! أن يكشف لها عن حقيقة عواطفه بأسلوبه الفني الذي اعتدناه منه في رواياته! ولكنه كان كالصبي المضطرب الذي يجلس لأول مرة في حياته مع صبيّة صغيرة! وقف أمام منضدةٍ كبيرة وسط القاعة وقال لها:
«آنسة صوفيا! هل تستطيعين تكوين جملةٍ كاملة إذا كتبت لك الحروف الأول من كل كلماتها؟!
فأجابته بمرح: لعبة الحروف؟! إنني أجيدها ياكونت، فأنا أتفوق على كل أفراد أسرتي في هذه اللعبة! وهاهو الورق والقلم أمامك.. واكتب ما بدا لك. ولكن ما هو الرهان؟! أجابها بصوتٍ مضطرب:
«إن الرهان هو.. حياتي! وإليك حروف الكلمات»، فكتبها لها وقال: «أتعرفين يا صوفيا أنك إذا توصلت إلى معرفة الكلمات التي تبدأ بهذه الحروف.. اذكري أن حياتي هي الرهان».

وتضيف تانيا في مذكراتها: «إن صوفيا كانت أبرعنا حقاً في هذه اللعبة، وبعد لحظات حلّت فيها لغز الحروف، قالت له بصوت مضطرب:»إن بدايات كل جملة من جمل الحروف التي كتبتها هي: (شبابك، وحقك في السعادة، يذكرانني بقسوة بفارق السن! سعادة كهذه.. هل تتحقّق لمثلي؟!).
كان صوت صوفيا مخنوقاً بطوفان من الانفعالات العاطفية التي غمرتها! أمسكت بيده ولم تقل شيئاً. وأخذ هو بناصية الكلام، فقال لها: صوفيا.. إن أسرتك تخطئ في فهم السبب وراء زياراتي لكم، والدتك على وجه الخصوص تظن أنني أريد ليزا.. في استطاعتك أن تصححي لها ما يدور خطأً في فكرها..».

أما صوفيا فقد دوّنت في مذكراتها: «أدركت أن تولستوي يحبني وحدي! كان قلبي يدق بعنف، وفقدت القدرة على التفرقة بين الحقيقة والوهم! كان شيء ما يصيح داخلي: «أيتها الغبية.. إنه يحبك أنتِ! أنتِ وحدك! أنت وحدك.. أنت ولا أحد سواك..!»، وأوشكتُ أن ألقي بنفسي بين ذراعيه، لكن أمي دخلت فجأةً إلى القاعة، وأمرتني بالذهاب إلى غرفتي على الفور فقد حانت ساعة النوم.. ولم أنم! وفي الصباح، صارحتُ أمي: «أماه.. أرجوك أن تستمعي إلي باهتمام! هناك من يظن أنني لست المقصودة بزيارات نيكولايفيتش تولستوي! أماه.. الحقيقة أنه لا يأتي إلا من أجلي! من أجلي أنا! إنه يريدني زوجةً له! ففاجأتني والدتي حينما قالت: صوفيا: لم أتوقّع أن أسمع منك هذا الهراء! أنت واهمة ياصغيرتي، إن تولستوي يرغب في أختك ليزا! وهذه رغبتي أيضاً، كما هي رغبة والدك!».
وعندما أتى تولستوي لزيارة أسرة أندريفنا.. لم تحدثه صوفي عمّا دار بينها وبين أمها، وبينما كانوا جميعاً على مائدة الطعام.. دس خلسةً رسالةً في يدها، فأسرعت إلى غرفتها، مزّقت المظروف في عصبية مرتعدة وقرأت:

«أخبريني بكل أمانة ويدك فوق قلبك! ودون عجلة.. أجل دون عجلة.. بحق السماء أخبريني يا صوفي! هل تقبلين أن تكوني زوجتي؟! إذا كنت تقبلين هذا من كل قلبك بأمانة ودون تردد، وبعد تفكيرٍ عميق، فقولي (نعم)، ولكن إذا داخلك أدنى شك في قدرتك على الحياة طول العمر مع شخص مثلي فقولي (لا)، فالموت أحب إليّ من الحياة مع إنسان أحبه كل هذا الحب الذي أحمله لك.. ولا يحبني..!». وفوجئ الجالسون على مائدة الطعام بصوفيا تقبل لاهثةً من غرفتها، وبيدها الرسالة ومظروفها.. يقف تولستوي للقائها.. يترامقان لحظة دون كلام.. فيقول تولستوي في بطءٍ وهدوء: صوفيا أندريفنا هل تقبلين أن تكوني زوجتي؟! نعم.. أم لا؟! وبصوتٍ متحشرج مضطرب، مغسول بدموعها ترد: نعم! نعم! نعم! هل سمعتم جميعاً؟! نعم، نعم، نعم. اثنان وأربعون عاماً من الحب الزوجي النادر بين عبقري الأدب الروسي ليو تولستوي وصوفيا أندريفنا..
  رد مع اقتباس
قديم 22/06/2008   #183
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


لماذا الفرار؟!

بعض مؤرّخي الأدب اجتهدوا في تفسير ما قام به تولستوي: أن تصرفه بالفرار من مزرعته، وهو العجوز ابن الثانية والثمانين، في ليلة قارسة، دون أن يكون قد حدد مكاناً لإقامته، لهو من بعض أعراض أمراض الشيخوخة وما يصطحبها من قرارات ارتجالية. هذا ما قاله من لا يحبون تولستوي!

أما أنصاره وتلاميذه أمثال صديقه (تشيرتيكوف) فقد كتب يقول: «لقد تحمّل تولستوي الكثير من معارضات ومشاكسات زوجته صوفيا أندريفنا، ما لا يتحمّله القديسون! كانت سجّانته بكل ما في الكلمة من معنى! تريد أن تفرض عليه آراءها بشأن تنازله عن أملاكه للفلاحين! وبشأن علاقته بالقيصر! وبالإمبراطورة!
كانت تحدّد له من يجب أن يقابل أو لا يقابل من أصدقائه وتلاميذه! بل كانت تريد أن تعرف أفكاره الروائية! وتطلب أن يكون لها حق إقرار ورفض ما لا يتناسب مع أفكارها! كانت تحبه.. أجل..! ولكن حب التملك.. لا حب التضحية! لا أوجّه اللوم لصديقي تولستوي على فراره منها! ولولا أنه شديد الإيمان بالله لقتل نفسه يأساً منها منذ زمنٍ بعيد!».

وطلب تولستوي من رفيق رحلته الدكتور ماكوفيتسكي أن يستعد للرحيل من غرفة الدير! فيخبره الدكتور بأن نبضه غير مستقر، ولا يجوز أن يعرّض نفسه للإرهاق.
فيقول له: إنني بخير! ليس بي إلا التعب من قلة النوم، فالقطط كانت تموء طوال الليل!. وفي الغرفة السفلية أيضاً امرأةٌ كانت تبكي وهي تناشد الله أن يغفر لها ما ارتكبت من خطايا!
لقد ظننت أنني سأجد الهدوء هنا! لنغادر هذا الدير! لنغادره قبل أن تلحق بنا صوفيا!
فيسأله طبيبه: إلى أين يا ليو؟!..
يجيبه: سنسافر إلى مقاطعة (شاماردينو)، وهناك سنستأجر بيتاً ريفياً صغيراً بحديقةٍ مزهرة! إنني أعرف سيدة سبق لها أن عرضت علي بيتها لأقيم فيه شهور الشتاء في أي يوم أقرره! وقد أخفيت ذلك العرض عن صوفيا، وفي عزمي أن أحقّقه في يومٍ ما! وقد جاء هذا اليوم المناسب يا سيرجي! هيا.. هيا! لنرحل إلى شاماردينو فهو المكان الوحيد الذي لن تبحث فيه عني صوفيا..

وما أن استقر، حتى كتب إلى ابنته الرسالة التالية: «عزيزتي ساشا، إن ما يحدث عندكم يلقي على كاهلي عبئاً ثقيلاً، ورغم هذا فإنني أثق بقدرتك، وقدرة أختك تانيا وأخيك سيرجي على تهدئة والدتكم! المهم هو أن تُفهموها، وتُقنعوها بأنني لم أفعل ما فعلت إلا بسبب إصرارها على التجسس عليّ، وعلى رغبتها العنيدة في السيطرة على حياتي، وتحريكي في كل أموري الحياتية والفكرية حسب نظرتها الخاصة! حاولوا أن تقنعوها أن بغضها غير المنطقي لصديقي وجاري العزيز تشيرتيكوف، كان يسوّد كل لحظات حياتي! فهو مع إخلاصه الشديد لي، وتفهمه الذكي لكل أفكاري ومشروعاتي، لا يكنّ لها إلا كل احترام وتقدير!
اقنعوها بحق السماء بأنني أدرك الآن بوضوح أن الحب الذي تدّعي أنها تحمله لي، كذبةٌ كبيرةٌ، وخبثٌ خادعٌ، لم أعد قادراً على التسامح فيه لأن هدفه هو خنق حريتي! وقهر إرادتي! وإرغامي على التنازل عن أفكارٍ أؤمن بها!. بقوة إيماني بالخالق العظيم. إنها لا تفهم أن هذا الأسلوب في معاملتي سيؤدي بي في النهاية إلى الموت! كأنما هي تهدف إلى قتلي؟! حسناً أعتقد أنها ستنجح في الوصول إلى هذا الهدف قريباً!
فقد أكد لي الدكتور ماكوفيتسكي أنني إذا كنت قد نجوت من النوبة القلبية الثانية، فلن أنجو من الثالثة التي تسعى أمكم جاهدة إلى أن أصاب بها في أسرع وقت تتخيله! حسناً لتأتي النوبة الثالثة لتخلصها مني! وتخلصني في الوقت نفسه من هذا الجو المأساوي المروّع الذي تحملته لسنوات طويلة، والذي لا أريد أبداً مهما حدث أن أعود إليه!».
  رد مع اقتباس
قديم 22/06/2008   #184
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


صوفيا تكتشف فرار تولستوي!

عندما نرجع إلى ذلك اليوم الذي غادر فيه تولستوي مزرعته، نتتبع خطوات زوجته صوفيا التي تيقظت في الحادية عشرة صباحاً، ودخلت غرفة زوجها كالعادة بوجبة الإفطار فلم تجده! فأحست بأن شيئاً ما قد حدث، فاتجهت إلى حيث كانت ابنتها ساشا: أين أبوك؟!
أجابتها بحزم: لقد رحل! حاولت صوفيا السيطرة على نفسها وسألت: رحل؟! رحل إلى أين؟!

قالت ساشا: لا أعرف!
بدأت تباشير الغضب والتوتر تفرض نفسها على ملامح صوفيا، فصرخت في ابنتها: كيف لا تعرفين؟! أهذا معقول؟! أنت الوحيدة التي لا يخفي عنها شيئاً! فأبرزت لها ساشا تلك الرسالة التي تركها لها زوجها! اختطفتها من يد ابنتها خطفاً! وما أن قرأت مضمونها حتى صاحت في حزنٍ وبؤسٍ وغضب.. يا إلهي! ماذا فعلت بي يا ليو..؟!
وفجأةً انطلقت كالقذيفة تعدو نحو البركة العميقة في أقصى حديقة إيزيانا/ بوليانا وهي تصيح: سأُغرق نفسي.. سأموت.. ما معنى الحياة بعدك يا ليو.. سأموت.. وليعلم أينما كان في هذه اللحظات أنه قاتلي! ويسرعون خلفها، وكانت قد سبقتهم إلى البركة، فألقت بنفسها في الماء دون أدنى تردد! وكانت على وشك الموت غرقاً، لولا رئيس الخدم بولجاكوف وساشا اللذان استطاعا إخراجها من الماء وهي تقاومهما! أعادوها بصعوبةٍ بالغة إلى مخدعها! وبعد أن ألبستها ابنتها ثياباً جديدة، صاحت فيها في ثورةٍ وغضب: أبرقي إلى أبيك بأنني ألقيت نفسي في البركة لأغرق.. قولي له إنني سأفعل ذلك من جديد إذا لم يعد..؟!
فتهدئ ساشا من روعها: أعطه وقتاً يا أمي.. فأنت تعرفين أبي خيراً مني! فتصرخ بها: بل سيعود إذا عرف أنني سأقتل نفسي إذا لم يعد.. إنه يحبني! ثم تبكي في توسل كأنما تتحدث إلى نفسها: لمَ فعلت ذلك يا ليو؟ أنت تعلم بأنني أفديك بروحي! وأنت تحبني بأكثر مما تحب أحداً في الكون!! تحبني بأكثر ما تحب أبناءنا وبناتنا! وتجهش متوسلة.. عُد يا حبيبي! عُد يا ليو إلى حبيبتك! أغلقت عليها ابنتها ساشا باب المخدع، وذهبت لتعد لها شراباً ساخناً، فقد كانت ترتجف من البرد!
وبينما كانت في المطبخ، فوجئت ساشا برئيس الخدم بولجاكوف يصيح: أسرعي يا آنسة ساشا، لقد كسرت الباب وانطلقت تعدو نحو البركة مرة أخرى!! أعادوها هذه المرة قبل أن تلقي بنفسها في الماء. ولما وُضعت على سريرها أحيطت بكل من في المنزل، حتى لا تتكرر المحاولة! وعندما جاءها الطبيب، وجد أنها تعاني من نوبة هيستيرية! مما دفع ابنتها ساشا إلى الاعتقاد أن والدتها تعاني مرضاً عقلياً! لأنها كانت تمارس هذه التصرفات الهوجاء مع زوجها! لكن الطبيب يطمئنها أن ما تعانيه أمها ليس إلا نوبة هيستيرية خوفاً على مصير زوجها! وربما إحساسها بالذنب يدفعها إلى مثل هذه التصرفات! وبينما كانت ساشا تتحدث إلى الطبيب صاحت فيها من على سريرها في شدة: فيم تتهامسان؟! أبرقي يا ساشا إلى جميع إخوتك، وأخواتك، ليحضروا جميعاً، ليعرفوا ما فعل بي أبوكم.. أبرقي لهم كلهم.. كلهم. وما أن انتهت أوامرها ونواهيها حتى انخرطت في نوبة من البكاء! فاحتضنتها ساشا، فقامت هي بدورها باحتضانها وقالت: أتوسل إليك يا ابنتي اذكري لي مكانه لألحق به!!.. فأجابتها ابنتها: أماه! لو كنت أعرف إلى أين رحل أبي! لما أخبرتك! لقد وعدته بذلك! فأفلتت نفسها من حضن ابنتها ودفعت بها، وصاحت في وجهها وهي ثائرة: «أتحسبين أنني لن أعرف أين هو الآن؟! سأعرف، سأعرف، وسأفرّ من هذا السجن الذي وضعتموني فيه لألحق به.. سألقي بنفسي من النافذة. ثم تخنقها العبرات وتتشنج في نوبة من البكاء.. ليو.. ليو.. لماذا فعلت ذلك بي يا ليو؟! لماذا يا حبيبي؟!»
وكان أول من علم بفرار تولستوي من أهالي القرى المجاورة لمزرعة إيزيانا/ بوليانا، هو صديقه تشيرتيكوف، وكانت له وسائله في معرفة مكان صديقه الكبير! وما أن تأكد من مكانه حتى أرسل إليه مساعده سيرجينكو بتفاصيل ما حدث في مزرعته منذ رحيله! فعقب تولستوي على ما سمع قائلاً: يا للسماوات! لم أكن أدري أنها على هذه الدرجة من الحماقة! ثم سأل سيرجينكو:
ـ هل عرفت بمكاني؟!
ـ يا كونت! أنت تعرف أنها قادرة على أن تعرف مكانك، ودون شك أنها ستفعل!
واجتمع الإخوة والأخوات أولاد وبنات تولستوي، وانقسموا على أنفسهم في أمر الخلاف بين أمهم وأبيهم، وكانت ساشا أكثرهم شجاعةً، حيث واجهت أمها بصراحة وقالت لها:
«.. إذا شئت أن يعود زوجك إليك! فعليك أن تقنعيه بأنه سيعود إلى الحرية، وليس إلى السجن! إلى الزوجة التي يحبها، وليس إلى الزوجة التي يخشاها على أفكاره ومشروعاته! واذكري يا أماه أنك تتعاملين مع فنان كبير بلغ الثانية والثمانين من العمر!».
أما الباقون من الأشقاء، فقد أيّدوا والدتهم التي اقترحت عليهم أن يرسلوا برقية جماعية إلى الأب الهارب! لكن ساشا قالت لهم إنها لن تخبرهم عن مكانه! إلا أن صوفيا أعلنت جازمةً أنها تعرف مكانه وطلبت من أولادها أن يرسلوا البرقية إلى قرية شاماردينو، فصعقت ساشا.. وسألت أمها: ولماذا شماردينو تحديداً؟!
فأجابتها: حدثني مرة عن رغبته في استئجار بيتٍ ريفي هناك! ثم إنني اطلعت على أختام الرسالة التي بعث بها إليك وفيها كلمة شاماردينو! فأرسلوا إليه البرقية وناشدوه فيها بالعودة وقولوا له: إنني سأموت كمداً إذا لم يعد! وسيدخل هو التاريخ ليس بلقب الكاتب الكبير، بل بلقب قاتل زوجته!


يتبع..
  رد مع اقتباس
قديم 23/06/2008   #185
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


يزعم بعض المؤرّخين أن صوفيا عرفت أن تولستوي سينتهي به المطاف إلى شاماردينو! ويزعمون أن الدكتور سيرجي ماكوفيتسكي طبيبه وصديقه ومرافقه، هو الذي أرسل إليها سراً ببرقية أطلعها فيها على خطط زوجها! لكن ماكوفيتسكي قد كذّب هذه المزاعم في حوارٍ له مع أحد الصحفيين فيما بعد.أما البرقية التي أُرسلت من مزرعة إيزيانا/ بوليانا إلى شاماردينو فلا يزال نصها الأصلي، بخط صديقة الأسرة (فارفارا فيوريتوفا) محفوظة حتى يومنا هذا في متحف آثار تولستوي في مزرعة إيزيانا/ بوليانا، وقد جاء نصّها على لسان ابنه إيليا تولستوي نيابةً عن إخوته وأخواته.
ويقول فيها: «إننا نعرف يا أبي. كم كانت الحياة قاسية عليك هنا في إيزيانا/ بوليانا! ولكن ألا تدرك يا والدي العزيز أنك جعلت من حياتنا بدونك جحيماً لا يرحم؟! فأنت تعرف كم نحبك، ونخشى عليك متابعة الرحيل في شهور الشتاء! كأنك يا أبتي قد نسيت أنك في الثانية والثمانين من عمرك! إن أمي حزينة من أجلك، وكما تعرف، أنها في السابعة والستين من عمرها! وإنه لمن واجبنا أن نحميك من عنادك وإصرارك على متابعة الهرب الذي سيسرع بأمنا العزيزة إلى قبرها! واعلم يا أبتي أنه إذا حدث وماتت أمنا بسبب هذا العناد، فستغدو مسؤولاً أمامنا وأمام التاريخ! وقبل هذا وذاك أمام الله! عن هذا الخطأ•• الذي يصل إلى حد الجريمة! وقد اعترض بعض الإخوة على ما كتب إيليا لأبيه بتحريضٍ من أمه! فتراجع عن بعض السطور خوفاً من حكمٍ قاس بالعقوق يصدره عليه التاريخ...

وكتب: «إنني لا أدينك يا أبي. ولكنني أتوسل إليك أن تكون رحيماً بأمنا، فإن حالتها بعد الذي فعلته! لتدعو إلى الحزن والأسى!
التوقيع: أبناؤك المحبون».

وأصرّت صوفيا أن تكتب، بخطٍ مرتعش وفي صوت باكٍ، وهي تردد الكلمات التي تسطرها على الورق:

حبيبي ليوفوتشكا! على صدر من تضع رأسك الأشيب المحبوب؟! على صدر غير صدر حبيبتك، التي تفتديك بروحها؟ على صدر غير صدر صوفيا؟!
وقد وجدت رسالةٌ ـ في متحف تولستوي ـ كتبتها صوفيا إلى زوجها نكتفي منها بالعبارات التالية:
«ليوفوتشكا.. حبيبي.. عد إلى عشك يا عصفوري الجميل.. أنقذني من الانتحار.. فهذا هو مصيري إذا لم تعد.. لماذا تفرّ مني يا ليوفوتشكا؟!.. تفرُّ من رفيقة العمر كله؟! عُد.. ستجدني دائماً كما كنت.. سأكون طوع بنانك.. سأتنازل عن كل مظاهر الثراء والرفاهية.. أصدقاؤك سيصبحون أصدقائي،
سأكف عن التدخل في عملك وسؤالك عن أفكارك السياسية والدينية.. يا حبيبي ليوفوتشكا.. أعرف أن لك آراءك الخاصة في شأن التقاليد الأرثوذكسية.. ومع هذا فأنت تؤمن مثلي بالأساسيات والثوابت..
ألا يقول الإنجيل إنه لا يجب على الرجل أن يهجر زوجته؟!
عُد يا ليوفوتشكا، فلا حق لأحد غيري في إسبال جفنيك لحظة موتك..
ولا حق لغيرك في إسبال جفني حين يأتي أجلي!! ليوفوتشكا.. أين أنت؟! هل صحتك على ما يرام؟! بحق السماء ابعث لي ولو كلمة تدخل الطمأنينة إلى قلبي.. أبناؤنا كلهم حولي.. ولكنهم أعجز من أن يمنحوني لحظة واحدة من الطمأنينة والأمن وأنت بعيد عني.. أنت وحدك قادر على ذلك.. عُد يا حبيبي..».

ولم تنس صوفيا تهديدها له بالبحث عنه، إذ اختتمت رسالتها بالقول:

«إلى اللقاء يا حبيبي! فلن أكف أبداً عن البحث عنك وإعادتك إلى إيزيانا/ بوليانا».
حبٌ عجيب! حب الأنانية المفرطة! حب الاستحواذ المريض! بعد أن أخذت ساشا عهداً من أمها، بعدم اللحاق بها فيما لو ذهبت إلى مدينة شاماردينو للوقوف على أحوال أبيها، فوجدت صوفي أن في ذلك خطوة أولى تمهد لها الاتصال بعزيزها ليو.. وفي شاماردينو التقت ساشا بوالدها الذي كان تسلّم برقية ابنه إيليا، وكذلك قرأ خطاب زوجته••

ولأول مرة في تاريخ علاقتها بأبيها، تتحدث إليه في شيءٍ من التأنيب إذ قالت له: ـ أبتي، كلهم يجمعون على أنك ترتكب خطأً كبيراً في حق أُمنا، أيسعدك أن يحدث لها مكروه بسبب ما تفعل؟!»
ـ بل يتعسني كثيراً يا ساشا! ويتعسني أكثر أنك غيّرتِ من وجهة نظرك تجاهي! ألم تكوني تباركين مشروعي هذا؟!
ـ بلى يا أبي، ولكن لم أتصور أن يكون رد فعل والدتي بهذا الشكل المأساوي!
ـ كيفما كان الأمر يا ابنتي، فلم يعد في مقدوري أن أفعل غير ما فعلت! وسأحزن كثيراً إذا أصاب صوفيا أي مكروه بسببي!
ـ أبتي•• لو اتخذت القرار من تلقاء نفسك، وتعود إلى مزرعتك•• فتقارير الأطباء كلها تؤكد حاجتك إلى رعاية صحية مكثفة في إيزيانا/ بوليانا وقد تكون عودتك مصدر سعادةٍ للجميع، بعد أن تعلّمت والدتي الدرس وأدركت حجم الكارثة فيما لو ظللت في الوضع الذي أنت عليه الآن..!!
ـ «لعلك على حق في هذا يا ساشا! ولكن مجرّد عودتي على أي وضع سيقتلني الإحساس القاسي بالهزيمة النفسية!
ـ كلا يا ساشا، لن أعود حتى لو أجمع كل أطباء الدنيا على حاجتي إلى العودة إلى إيزيانا/ بوليانا! وقبل أن يخلد إلى النوم وجد نفسه مدفوعاً إلى كتابة الخطاب التالي:
«صوفيا حبيبتي، لن أعود! ولن أخبرك بالمكان الذي سأذهب إليه! وعليك يا رفيقة العمر أن تتعايشي مع الحقيقة الجديدة، وهي أن ليو تولستوي قد خرج من إيزيانا/ بوليانا إلى الأبد! لا تظني أبداً أنني فعلت ذلك لنقصٍ في حبي إليك! كلا! يعلم الله أن زهرة حبك في قلبي لا تزال نضارتها منذ رأيتك لأول مرة! إنني لم أغادر إيزيانا/ بوليانا إلا للإبقاء على نضارة زهرة حبنا! بحق السماء ألا تفهمين هذا يا صوفيا؟! وداعاً يا حبيبتي! وليرعاك الله، وليكن في عونك!••».
  رد مع اقتباس
قديم 23/06/2008   #186
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


المواجهة المأساوية:

أدركت ساشا أن أباها مضطربٌ أشد الاضطراب، وأنه قد عزم على متابعة مسيرة فراره المأساوية، وأنه لا فائدة من أية محاولة لإثنائه عن عزمه!

عندما قال لها: ساشا يجب أن أغادر شاماردينو، ولا أدري إلى أي مكان! ربما إلى القوقاز، فالحياة في الجبال تتناسب وصحتي، والجو هناك منعش وخال من الرطوبة.. لقد عشت طفولتي في جبال القوقاز!

لكن صديقه الطبيب، يسأله فيما إذا كان يقوى على مشاق الرحلة إلى القوقاز؟! فيجيبه:
ـ لم لا! وأنت معي؟! هيا! هيا! لننم مبكرين حتى نبدأ الرحلة غداً مع بزوغ ضوء الشمس.\
كان تولستوي سعيداً رغم رنة الحزن في صوته، ورغم إحساسه بما يشبه الأزمة الربوية! حاول جهده أن يخفي السعال ويمزجه بضحكات خفيفة، ولم يغب ذلك عن فطنة الطبيب الذي اقترح عليه تأجيل الرحلة لأسبوع على الأقل، فانتابه الذعر.. أسبوعاً؟!.. وهل تتركني صوفيا هنا أسبوعاً؟!.. وجاء الصباح.. ولم يكن يدور بخلد الدكتور ماكوفيتسكي أن الحمى قد أمسكت بالجسد الواهي للعجوز العنيد ابن الثانية والثمانين! وبينما هم في العربة، كان تولستوي يتحدث إلى ابنته عن القوقاز وكيف أنه سيقيم في الأيام الأولى عند صديقه العزيز دنيسنكو: إنه كاتب ممتاز يا ساشا! لا يعيبه إلا اهتمامه بالمحسّنات اللفظية! لو ترك قلمه على السجيّة، لاحتل مكانةً مرموقةً في قائمة كبار كُتّاب روسيا! لقد قلت له هذا مراراً، لكنه من مدرسة تورجنييف! وبينما هو مسترسل فيما يشبه الهذيان!

قالت له ساشا: أبتي، لا تجهد قواك بالكلام الكثير.. فإن أمامنا رحلة طويلة بالقطار! لكن هزّات العربة الصغيرة قد أتعبت جسده جداً، وما أن بلغوا محطة القطار حتى كان الكاتب الكبيرقد بدأ يهذي. وركبوا القطار، وبعد أن سار بهم، سأل الدكتور:
ـ كم المسافة التي سنقطعها حتى نصل القوقاز يا عزيزتي ساشا؟!، قالت: ـ حوالي 1000 كيلومتر.
فقال الدكتور:
ـ يا إلهي! ثلاثون ساعة؟! وليو على هذا المقعد الخشبي غير المريح؟!
فأجابه تولستوي:
ـ وماذا في ذلك؟! إنني في صحة جيدة! وإن كنت استشعر صداعاً شديداً بعض الشيء، ولكن بمقدوري مواصلة الرحلة!
فيطلب الدكتور من تولستوي أن يعطيه يده ليقيس ضغط دمه.. ومدّ له يده، وبعد ثوانٍ ظهرت ملامح القلق على وجه الدكتور فقال بحزم:
- يجب أن نغادر هذا القطار اللعين في أقرب محطة.. فالحمى ستكون لها عواقب وخيمة إذا لم نتلافاها!

وكانت أول محطةٍ مجهولةً ولم يسمع بها أحدٌ من قبل، ولكنها أصبحت من أشهر المحطات في روسيا بعد الأحداث التي وقعت فيها لكاتبهم الأشهر تولستوي وهي محطة (أستابوفو). نزل تولستوي من القطار يجر ساقيه مستنداً على كتفي ابنته وصديقه الطبيب.. وحين علم ناظر المحطة بالضيف الكبير للقرية النائية والمنسية!. جاء مسرعاً وهو يقول: اسمي أوزولين يا صاحب السعادة، يسعدني.. ويشرفني أن تقيم في داري المتواضعة إلى أن تستعيد صحتك وعافيتك.. ثم أعدّ سريراً مريحاً، وفراشاً ناعماً في أكبر غرفةٍ في بيته. رقد تولستوي وهو في حالةٍ من الهذيان!

ساشا، هاتي الشمعة وضعيها قرب فراشي! لماذا لا تأتي صوفيا؟! لا بأس لعلها تتفقد أحوال الخدم!! وأين كراسة مذكراتي يا ساشا؟!.. كان يظن وهو في هذيانه.. أنه ـ كالعادة ـ يعيش في إيزيانا/ بوليانا. ونام نوماً عميقاً بعد أن هبطت حرارته، وتناول شراباً من الشعير الساخن! في الصباح وكأنما أحس بخطورة الموقف، فنادى على ابنته:
- هاتي ورقة وقلماً واكتبي هذه البرقية إلى صديقي (تشيرتيكوف)، وأخذ يملي عليها: «عزيزي.. أصابتني وعكةٌ بينما كنت في القطار يوم أمس، أخشى أن تصل أخبار ذلك إلى الصحافة، وقد شاهدني الكثيرون أثناء نزولي من القطار، وسأتابع رحلتي إلى القوقاز.. أرجو أن تفعل المستحيل كي لا يتسرب خبر مرضي للصحف وبالتالي ينتشر خبر سفري.. أبرق لي بكل ما يستجد! صديقك ليو تولستوي..».

أرسلت ساشا برقية أبيها إلى صديقه وعادت إلى دار ناظر المحطة لتفاجأ بالاضطراب الشديد الذي استولى على الطبيب ماكوفيتسكي إذ فاجأها بقوله: لقد عادت الحمى يا آنسة ساشا، عادت هذه المرة بعنف، ولا أحب أن أتحمل المسؤولية وحدي، فأبرقي إلى موسكو لاستدعاء الدكتور (نيكيتيين). وما هي إلا فترة وجيزة حتى أُذيع الخبر في العالم: أن الكاتب الروسي الأشهر ليون تولستوي يرقد ليموت في دار محطة مجهولة على الخريطة الروسية تُدعى استابوفو.. وأمسك عشّاق تولستوي في العالم أنفاسهم وهم يسمعون تلك الأخبار.. في الغرفة البسيطة التي أعدها له على عجل في بيته ناظر محطة القطار، كان تولستوي يرقد بعد أن بلغ من الضعف أشدهّ! ويسأل ابنته: ساشا، أتحسبين أن أمك ستعرف مكاني؟!.. تجيبه في حدب وقلق: أبتاه! لا تشغل نفسك الآن بأمي، من المؤكد أنها ستفهم، ولن تحاول البحث عنك! أرجوك يا أبي لا تكثر من الكلام، فأنت متعب! وتغادر ساشا غرفة أبيها.. لتقول للطبيب:
ـ إنها رحلة القطار! نوافذه كلها محطمة، والعاصفة الثلجية اللعينة!
ـ وعناد أبيك، فما كان يجب أن نغادر شماردينو، ولكن سنتمكن بعون الله من اتقاء خطر الالتهاب الرئوي! فالغرفة دافئة وهو بحاجة إلى الهدوء!
وكتبت ساشا في دفتر يومياتها: «لقد أجلى السيد أوزولين ناظر المحطة وصاحب البيت الذي يرقد فيه والدي.. أجلى زوجته وأولاده، ولم يُبق إلا خادمة للمطبخ لتلبية طلباتنا.. وعندما حاولت أن أدفع له بعضاً من المال لمساعدته على التكاليف.. مال الرجل على يدي ولثمها وهو يبكي ويقول: بحق السماء! دعوني أقدم ما أستطيع للرجل العظيم الذي أسعد المئات من البشر حينما أطلق سراحهم من عبودية المزارع!».

يتبــع ..
  رد مع اقتباس
قديم 24/06/2008   #187
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


بعد أن انتشر خبر وجود تولستوي في تلك المحطة، وأصبح يحتل مكان الصدارة.. في معظم صحف العالم، ثارت ثائرة صوفيا مهددةً بكل الأسلحة التي تملكها، بالبكاء وبالتهديد بالانتحار، مستخدمة نفوذها في مقاطعة (تولا) إلى درجة أنها استطاعت أن ترغم مدير السكك الحديدية على إعداد قطارٍ خاص لينقلها إلى استابوفو!!.

وكان قد سبقها إلى تلك القرية، صديق تولستوي تشيرتيكوف، ومعه صديقه الثاني سيرجينكو، اللذين أدخلتهما ساشا على أبيها بإذن منه، بعد أن علم بوصولهما. وبلهجةٍ تدل على وهنٍ و ضعف قال تولستوي بما يشبه البكاء:
ـ «.. آه ياصديقي تشيرتيكوف، لشد ما افتقدتك.. أرجوك لا تقبل يدي."
فيشهق تشيرتيكوف بالبكاء!

ـ صديقي.. أستاذي.. كان يجب أن تطلعني على مشروعك هذا!
ـ أرجوك يا تشيرتيكوف، من أجلي كف عن البكاء! أنت أول من يعلم أنني لم أكن أستطيع المقاومة أكثر مما فعلت!

جاء ناظر المحطة السيد أوزولين مضطرباً، وانتحى بساشا جانباً حيث قال لها هامساً: «يا آنسة ساشا، علمت من برقية وصلتني منذ لحظات من زميلي ناظر محطة تشيشكينو، أن الكونتيسة صوفيا، أرغمت مدير السكة الحديدية في منطقة تولا، على أن يخصص لها قطاراً ينقلها إلى هنا! وقد تحرك القطار منذ ساعة و سيصل إلى هنا في الليل". وعلى الفور عقدت ساشا اجتماعاً ضم الدكتور ماكوفيتسكي وتشيرتيكوف..

فقال الطبيب: ـ إن وصول صوفيا في هذه الظروف سيحدث عاصفةً لن يحتملها قلبه الضعيف.. فلا بد من منعها منعاً باتاً من الدخول عليه..

ـ هذه مهمتك إذن يا دكتور، فأنت صاحب القرار الأول والأخير في هذا الأمر! إذا قلت لوالدتي إن مقابلتها له ستعجل بأجله، سنُساندك جميعاً مهما قالت أو فعلت!
ـ ولكنني أخشى أن تتغلب الكونتيسة علينا جميعاً، إنها حبه الأول وحبه الأخير، وأقترح يا ساشا أن تبرقوا إلى ولده سيرجي ليأتي حتى يكون إلى جانبنا في مواجهة الكونتيسة!
لكن ساشا لم تؤيد اقتراح تشيرتيكوف بالإبراق إلى سيرجي، لأنه يساند أمه دائماً في كل خلافاتها مع أبيه..! إلا أن سيرجي كان أول من عرف مكان أبيه من الصحف، وسبق أمه الكونتيسة إلى استابوف.. فتصدت له ساشا على الفور بألا يدخل على أبيه! فكان عنيفاً في رده.
ـ "بل لا بد أن أدخل عليه على الفور.. إنني لم آت كي أجلس في هذا البيت التعيس، بينما أبي العظيم ليو تولستوي يموت في غرفة حقيرة تافهة!
ـ "سيرجي أرجوك، سيغضب أبوك إذا عرف أن أحد أولاده قد عرف مكان عزلته، وجاء على غير إرادته..».
ـ «إذا لم تدخلوني على أبي في الحال•• ناديته بأعلى صوتي»..
ـ «دعني أسبقك إليه لأمهد للمقابلة، إذ أن المفاجأة برؤياك، قد تزيد من متاعبه الصحية!!».
ـ بل سأدخل معك ومع ساشا يادكتور!

ولم يكن هناك من مفرّ إلا النزول عند رغبة الابن الذي كان دائماً مصدر متاعب نفسية لأبيه. مال الدكتور ماكوفيتسكي على فراش الرجل المريض، وهمس قرب أذنه: كونت.. كونت! وفتح الرجل عينيه!

وتابع الدكتور: ولدك سيرجي معي الآن في الغرفة! لمعت نظرة خوف بائسة تبدت في عين الرجل الكبير، ولكنه ابتسم رغم ذلك لولده، الذي أمسك بيد أبيه وقبّلها في احترام بعد أن انسابت دموعه ساخنة: أبتي.. أبتي.. لماذا؟! فيتوجه إليه تولستوي بالسؤال مباشرةً:
ـ كيف عثرت على هذا البيت؟!
ـ مصادفة يا أبي!!.. كنت في القطار الذاهب إلى (جورباتشيفو)!!.. فأخبرني أحد الركاب أنه كان معك في القطار القادم إلى هنا!
ـ ومن أين كنت قادماً في طريقك إلى جورباتشيفو؟!
ـ من موسكو يا أبي!
ـ وأمك؟!
ـ لم أرها، إنها في إيزيانا/ بوليانا! إنها لاتريد أن تغضبك بالحضور إلى هنا!
ـ وكيف عرفت أنها عرفت بمكاني، وقد كنت في موسكو؟!
ـ اتصلت بها برقياً قبل حضوري إلى هنا يا أبي، وعلمت من أختي تاتيانا في برقية لها أن معها ممرضتين تسهران عليها، وقالت لي أختي في البرقية: إن أمي تفهم تماماً دوافعك إلى ما فعلت، وأنها استكانت إلى الموقف..! وكان تولستوي وهو الكاتب العبقري ذو الحوار الذكي البارع، الخبير كروائي بدوافع النفس البشرية، يعرف أن ولده سيرجي يكذب في كل ما قاله.. ومع هذا قال حينما أراد الطبيب أن يحكم الغطاء حوله:
«لقد سعدت جداً برؤية سيرجي يا ماكوفيتسكي.. لقد.. لقد.. قبّل يدي.. ولم يكن يفعل ذلك أبداً.. لكم أسعدني ذلك.. رغم يقيني أنه كان يكذب».
  رد مع اقتباس
قديم 24/06/2008   #188
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


وصول صوفيا إلى المحطة:

كان دخان القطار الذي يحمل صوفيا ينفث دون توقف!! كأنه نذير شر.. وكان على رصيف المحطة كل من سيرجي والطبيب ماكوفيتسكي الذي كان يدرك أن صوفيا ستصب عليه جام غضبها، لكنه أصرّ على استقبالها بالتعليمات التي تساعد على استعادة عافية مريضه العجوز! ونزلت الكونتيسة صوفيا أندريفنا! ونقرأ عن تلك اللحظات، ما كتبته ابنتها ساشا في مذكراتها: «كنت على ثقة بأنها ستتهمني بالتواطؤ مع أبي، وتدبير أمر فراره من القصر في غفلةٍ منها! وقفت من وراء النافذة أرقبها من خلال النور الخافت في المحطة وهي تعبر الطريق الحديدي نحو البيت! أشفقت عليها كل الإشفاق، وهي تسير مقوسة الظهر، مستندةً على ذراع أخي سيرجي، وكان خلفها كل أخوتي.. وأخواتي!

أحسست بأن الأسرة كلها ما جاءت لكي تعود برب البيت!!.. إلى قصره في إيزيانا/ بوليانا! وإنما لتشيعه من بيت ناظر محطة استابوفو إلى مثواه الأخير! أدركت أن ذبالة الحياة في جسد أبي لن تقوى على مقاومة عاصفة الغضب التي توشك أن تنطلق من صدر أمي! رغم حبها الجارف لأبي! أحسست بسعادةٍ غامرة، حين هرع نحوي الدكتور ماكوفيتسكي ليزف لي خبراً:
ـ اطمئني يا ساشا، جميع أفراد الأسرة يدركون خطر دخول الكونتيسة على أبيك! والغريب في هذا! أن أمي قد أقرّتهم جميعاً على ذلك مادام هذا سيعجّل بشفاء ليوفوتشكا العزيز!».

أعلن ناظر المحطة لكل من ساشا والطبيب أن قطارات كثيرة تتجه الآن إلى محطته!!.. ولم يعد أحد في روسيا كلها يجهل أن كاتبهم الكبير ليو تولستوي يرقد مريضاً في هذه القرية الصغيرة، فالصحف قد أبرزت هذا في صفحاتها الأولى! ومرت الليلة الأولى لوصول الكونتيسة! دون مفاجآت! ومع صباح اليوم الثاني جاء الدكتور نيكيتيين، وهو من أهم أخصائيّ الحميّات في موسكو.. وبعد الفحص، كتب: إن صديقنا الكاتب العظيم في حالة محزنة من الضعف الجسماني، النبض غير محسوس بسبب الالتهاب الرئوي.. ولكن لن نفقد الأمل، فهناك علامات مشجعة، وهي أن الحرارة قد هبطت إلى (37 درجة)، دخلت ساشا على أبيها! أذهلتها حالته! رأته لأول مرة منذ أن رقد على هذا الفراش البسيط، وقد اعتدل في رقدته، يدوّن شيئاً في ورقة صغيرة بقلمٍ من الرصاص، ويدير زر ساعته الفضية الكبيرة ذات السلسلة الطويلة.. استقبلها في مرحٍ طافحٍ على محياه:
ـ ساشا! أعتقد يا ابنتي أنني في حاجة إلى كوبٍ كبيرٍ من الحليب الساخن!
ـ ما أسعدني بما طلبت يا أبي.. سأعده لك حالاً!
ـ لا! ليس الآن يا ساشا! اجلسي بالقرب مني هنا على الفراش، وخبريني ماذا قال دكتور نيكيتيين عن حالتي؟! أنت تعرفين دكتور نيكيتيين هذا، كان له رأي خاص في روايتي(آنّا كارنينا)، وفي رأيه أن انتحار (آنّا) كان.. و..
ـ أبتي أنت في حاجة إلى الراحة بعيداً عن التفكير الأدبي المرهق!
ـ كنت أقبل أن أغادر القصر أفكر في رواية جديدة عن الشباب الرافض لتجاربنا! أعتقد أنكم معشر الشباب على حق! ولكن..
ـ مقاطعةً بحنان: أبتي! هذه الانفعالات ضارة بقلبك!
ـ كفّي عن هذا الهراء! متى سأغادر هذا البيت؟!
ـ ليس قبل أسبوعين يا أبتي..
ـ آه.. هاأنت تتعسينني بما تقولين! أسبوعان؟!
ـ حتى تسترد قواك كاملةً أيها البطل..!
ـ أنتِ على حق! الآن هاتي كوب الحليب الساخن!!..

وغدا بيت السيد أوزولين ناظر محطة قطار استابوفو مقراً لمن يقومون على رعاية كاتب روسيا العظيم! ابنته الآنسة ساشا، وطبيبه الدكتور ماكوفيستكي، والطبيب الكبير دكتور نيكيتيين الذي جاء من موسكو، رغم أنه من مشاهير الأطباء في كلية موسكو الطبية. فهو يرقد فوق خشبةٍ خشنة قريبة من الغرفة التي يرقد فيها الكاتب العظيم! أما زوجته الكونتيسة صوفيا والأولاد جميعاً، فإنها أجرت اتفاقاً مع مدير السكك الحديدية في منطقة تولا! يقضي بتحويل القطار الذي جاءت به لاستخدام عرباته لإيوائها وأفراد أسرتها، كما تستخدم بقية المقطورات! للصحفيين والكتاب، وأعداد كبيرة ممن جاءوا للاطمئنان على صحة كاتبهم! وكانت الكونتيسة داخل مقصورتها لا تكف عن البكاء، يحيط بها أولادها وبعض أقاربها من أسرة أندريفنا، والكل ملتزمٌ الصمت احتراماً لحزنها، بينما هي تصيح في عصبية شديدة: «من حق أي زوجة أن تكون مع زوجها المريض! وأنا لست أي زوجة، أنا الكونتيسة صوفيا أندريفنا.. زوجة ليو تولستوي! ثم تشهق في البكاء! وتقول: أنا زوجته، وأخته، وأمه! بل أنا حبيبته! لماذا لا تدخلوني إليه؟! أهو الذي أصدر هذا القرار القاسي؟! لا أظن! لا أظن! لقد كان رحيماً بي دائماً! حنوناً معي في كل وقت! إنه يتعذب الآن! لأنكم تمنعونني من الدخول عليه! أنا أعرف الناس بحبيبي.. ليو! فتتدخل ابنتها (تاتيانا) مواسيةً أمها:
ـ إنها تعليمات الأطباء.. إنهم يخشون على قلبه من الانفعالات الزائدة. فتنظر إلى ابنتها كالنمرة الشرسة، وتصيح فيها بكل الحقد:
ـ بل قولي إنها تعليمات ودسائس تشيرتيكوف! هو الذي يرغم دكتور ماكوفيستكي على قرار منعي من الدخول إلى حبيبي! وأنا بدوري سوف أُرغم ماكوفيستكي اللعين على اعتزال مهنة الطب إذا حدث مكروه لحبيبي ليوفوتشكا! هو الذي حرّضه على الفرار! وهو الآن الذي يحرمه مني، ويحرمني منه.. فتجيبها تاتيانا:
ـ أماه! إن عدم دخولك إليه قرار من الدكتور نيكيتيين! فتنظر إلى ابنتها بعينين متوسلتين:
ـ تاتيانا! أرجوك يا ابنتي اذهبي إلى غرفة ناظر محطة القطار اللعين وانظري من زجاج النافذة المطلة على غرفته، انظري إلى أبيك.. وعودي إليّ بأخباره! أهو بخير؟! هل تناول الحليب الدافئ كما تعوّد؟!.. هل يقرأ؟!.. هل يكتب؟!••.. بحق السماء!!.. بحق السماء! ليذهب أحدكم ويأتيني بأخبار ليوفوتشكا!

كان تولستوي بعد أن استرد شيئاً من قوته يرغب في رؤية صديقة تشيرتيكوف، وناشره (جوربونوف) الذي كان قد طلب إليه أن يحضره معه من قبل.. وبقي معه لحظات أراد لها تولستوي أن تطول•.. لكن الدكتور ماكوفيتسكي حذرهما من الحديث الطويل المجهد، إلا أن تولستوي تدخّل: دعهما يا ماكوفيتسكي! أريد أن أعرف! ماذا أعد جوربونوف بشأن نشر كتابي الأخير (طريق الحياة)..
ـ ليو! إنك تريد مغادرة هذا البيت أليس كذلك؟! حسناً لن يحدث هذا إذا أنهكت قواك في حديث طويل! أرجوك أن تستبقي قوتك حتى تغادر (استابوفو) في الغد إن شاء الله!!..
فيفزع تولستوي كالمذعور: أغادر؟!... إلى أين؟! إلى إيزيانا/بوليانا؟! مستحيل؟! مستحيل! بل سأعود إلى شاماردينو! كأنما فجأةً لاح له شيء:
ـ ماكو فيتسكي.. يخيل إلي أنني رأيت وجه سيدتين تنظران إلى داخل الغرفة من النافذة! من هما يا ماكوفيتسكي؟!
ـ لا أحد ينظر إلى الغرفة يا ليو..
ـ لعلها ابنتي تاتيانا؟! أو لعلها الكونتيسة زوجتي؟!
ـ أؤكد لك أن أحداً لم يقترب من النافذة! ربما تكون انعكاسات المارة في الطريق المجاور للمحطة!
ـ ربما.. ولكن.. من يدري.. قد تأتي صوفيا لتنظر من زجاج النافذة.. يجب تغطية الزجاج بستارة ثقيلة..
ـ قل لي بصدق يا ماكوفيتسكي: أين صوفيا الآن؟! فلا يجيبه..! فيواصل تولستوي حديثه: د\
ـ يجب أن تقنعوها بأن دخولها عليّ هنا يعني موتي، لن أحتمل الانفعال يا ماكوفيتسكي!!.. وأنت تعرف هذا جيداً!
رقد بعض الوقت، ثم استيقظ، ودون أن يحرك رأسه.. نادى على ساشا، التي اتخذت لها مكاناً على الأرض بالقرب من أبيها..
ـ ساشا؟! يخيل إلي أن أختك تاتيانا في الخارج!! هل جاءت إلى هنا؟! أيعني ذلك أن أمك أيضاً قد جاءت هي الأخرى؟!
ـ لم تأت غير تاتيانا يا أبتي!
ـ وهذه المخدّات الطرية تحت رأسي.. من جاء بها؟! إن عليها شارة قصري إيزيانا / بوليانا..!
ـ جاءت بها أختي بأمرٍ من والدتي!
ـ (كأنما يحدّث نفسه): الكونتيسة! كيف هي؟! ماذا تفعل؟! لا بد أنها مضطربة جداً، خاصةً إذا علمت بحالتي؟!..هل تتناول طعامها بانتظام؟!
ـ أبتي اطمئن.. أمنا بخيرّّ..
ـ (بصوتٍ باكٍ): ساشا! المهم أنها لن تحتمل رؤيتي وأنا على هذا الحال! وأنا أيضاً! قد أموت إذا بكت أمامي! تكلمي يا ساشا! أنت تعرفين أنه لا شيء أهم عندي من صوفيا!
ـ أرجوك يا أبتي! إنك تؤذي نفسك بهذه الانفعالات!!.. أمنا بخير، وهي تدرك سبب مغادرتك القصر!

يتبع ..
  رد مع اقتباس
قديم 25/06/2008   #189
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


ما نشرته الصحف يكذّب كل ما قالته ساشا لأبيها عن أمها! حيث نشرت تفاصيل قصة فرار الكاتب الأشهر من مزرعته، وقصة مغادرته قرية شاماردينو في قطار محطم النوافذ! وعن إصابته بالالتهاب الرئوي الحاد! وعن أحزان الأسرة كلها! وما أصابها في هذا الحادث! وتصدرت الصفحات الأولى صورة الكونتيسة وهي تبكي، وتحت تلك الصورة وضِع عنوان: (سأتبع حبيبي ليوفوتشكا ولو إلى الجحيم! معه دائماً في الحياة وفي الممات..) وبعد أن وصلت إلى محطة استابوفو، وفودٌ من الصحف والمجلات وشركات السينما! وكانت الكاميرات كلها مركّزة على بيت أوزولين ناظر المحطة! على الأبواب والنوافذ! بانتظار اللحظة الحاسمة لخروج الكاتب الكبير!!

وصارت قرية استابوفو الصغيرة مهبط الآلاف من محبّي الكاتب الكبير! آلاف البرقيات من الروس المقيمين في مختلف عواصم أوروبا! من باريس.. من لندن.. من برلين.. من ميونيخ.. تنهال على آلة البرق الصغيرة المتهالكة على مكتب ناظر محطة استابوفو! ورغم البرد الشديد والريح المثلجة.. القارصة! توافد الفلاحون من مختلف القرى والمزارع يحملون على عربات الجر! الأغطية والبطانيات، ونصبوا خياماً في كل مكان حول بيت ناظر المحطة! قساوسة ورهبان يركعون في الطين والجليد، يصلّون من أجل كاتبهم الكبير العجوز المريض! والناس من كافة المناطق والقرى القريبة باتت ترسل مئات الأغطية ومطابخ الحساء لخدمة القادمين إلى استابوفو من مختلف الجهات. لكن اللافت للنظر أن الحكومة القيصرية لم تتحرك مع كل هذا الفيض العاطفي للشعب الروسي تجاه كاتبهم العظيم! لسببٍ واضح! لأن القيصر والقيصرة يبغضون تولستوي أشد البغض، فهو كان يطالب في كل مقالاته وكتبه و رواياته بإطلاق حرية العبادة للمسلمين الموجودين في نطاق الدولة الروسية، وخاصةً مسلمي المناطق التي احتلت بالقوة! كما كان تولستوي يسلّط في كتاباته الضوء على الظلم الذي كان يتعرض له المسلمون!

أما الإمبراطورة فإنها كانت تكره كاتب روسيا الكبير تبعاً لكراهية الأفّاق المشعوذ راسبوتين له! من هنا! لم نجد الحكومة القيصرية قد تحركت فيما يجري في تلك القرية التي يرقد فيها ليو تولستوي، اللهم إلا تلك البرقية التي أرسلها وزير الداخلية إلى عمدة استابوفو وجاء فيها:
«اتخذ إجراءات مناسبة في القرية والقرى المجاورة بالتنسيق مع من سنرسل من ضباط الوزارة! تحسباً للمظاهرات التي قد يقودها الفلاحون والأجراء أنصار تولستوي والداعون مثله إلى توزيع أراضي النبلاء على الفلاحين والعاملين فيها! اقبضوا فوراً على أية عناصر شغب!». والرجل المريض لاهٍ عن كل هذا الذي يدور خارج غرفته! تدور أفكاره كلها حول هموم مرضه، والهموم الأدبية! فيكتب بيدٍ مرتجفة:

«تركت لصديقي تشيرتيكوف الإشراف على نشر كتابي الأخير (طريق الحياة).. لاتزال فكرة روايتي الجديدة عن الشباب غير مكتملة في رأسي! قضيت ليلةً سيئة أمس! هاأنذا منذ ثلاثة أيام والحمّى تفتك بي! تفترسني افتراساً! أعتقد أن صوفيا وأولادي جميعاً قد جاءوا إلى قرية استابوفو، وإن كان الجميع يخفون عني ذلك.. لا أستطيع أن أكتب أكثر من هذا! فالقلم يرتعد في يدي من فرط إحساسي بالحرارة!»

في اليوم الرابع.. أسفرت النهاية الحتمية عن وجهها! وهذا آخر ما كتبه تولستوي في كراسته:
أليس هكذا يموت الفلاح الروسي؟! وشرع يهذي.. حين أمسك الدكتور ماكوفيتسكي بيده، قال له هامساً:
يا صديقي.. أعتقد أنني سأموت..؟! وهذا أمر طبيعي.. ولكن من يدري.. لعل الموت شيء غير هذا الذي أشعر به يقترب مني.. ثم أخذ يهذي.. ابحث! ابحث! هذا ما يجب أن يفعله كل إنسان عاقل.. أن يبحث، ويفكّر.. ابحث دائماً يا دكتور ماكوفيتسكي! حينما علمت صوفيا أنه بدأ يهذي! غادرت عربة القطار! وهي في حالةٍ أشبه ما تكون بالجنون! فمنعوها من الدخول إليه، فأسرعت إلى النافذة المجاورة للسور! فرأته من خلال الزجاج.. راقداً ووجهه إلى سقف الغرفة! طرقت الزجاج بأصابعها في عصبية! فلم يتحرك! أسرع ماكوفيتسكي وأرخى الستارة من الداخل، فشرعت تصرخ مناديةً! ليوفوتشكا.. ليوفوتشكا.. ليوفوتشكا! فهرع أبناؤها إليها وحملوها بعيداً عن البيت! التقط المصورون ورجال السينما صوراً كثيرة لها وهي تصبّ اللعنات عليهم! أعادوها إلى عربة القطار!!.. التي كانت محاطة بالكثير من رجال الصحافة والإعلام! ممن امتلأت بهم الطرق والحقول القريبة من المحطة، وعلى طول الشريط الحديدي الذي افترشه الفلاحون! الصحفيون يتشممون الأخبار عن صحة الكاتب الكبير، ويترقبون لحظات موته! شائعات كثيرة عن مظاهرات قامت في القرى المجاورة، وعن إطلاق النار على المتظاهرين من قبل الشرطة! المئات من رجال المخابرات القيصرية يندسون وسط الجموع! برقياتٌ مشبوهة تصل إلى جهاز البرق في المحطة! كُتب في بعضها التالي:
ـ اطلبوا إلى تولستوي أن يتوب عن أخطائه..
ـ تُب إلى خالقك يا تولستوي! قبل أن تمثل أمام المحكمة الربانية!


والعشرات من هذه النماذج التي ثبت فيما بعد أنها قد أُرسلت من عملاء القيصر! ولم يجسر أحد على ذكرها أمام الرجل المسجّى في غرفة الموت! في صباح اليوم التالي يقدم إلى استابوفو الأب (فارسونوفي) رئيس القساوسة، ومعه تكليف من القيصر بالدخول إلى الكونت ليتلقى اعترافاته في ساعاته الأخيرة! وما أن سمعت صوفيا بذلك حتى تركت مقصورتها متجهةً نحو مكتب ناظر المحطة! لن أسمح لأحد أن يدخل على زوجي ليزوّر عنه فيما بعد ما لم يقُل.. اطردوا هذا القسيس من (استابوفو).. ولولا حماية الشرطة القيصرية، لما نجا القسيس القيصري من الشنق بأيدي الفلاحين على شجرة من أشجار الطريق، لكن محافظ منطقة تولا جاء محاطاً بحماية الشرطة ومعه القسيس الذي طلب أن يدخل ليتلقى اعترافات تولستوي قبل موته. لكن ساشا خرجت بكراسة أبيها وهي تصيح في وجه الجميع:
«اللعنة على من يريد أن يرغم أبي على ما لا يريد•• إليك أيها المحافظ ما كتب أبي عن ذلك حين اشتد به المرض.. واسمع أنت أيها القس المأجور•• اسمعوا ماذا كتب أبي لتريحوا أنفسكم من تلقي اعترافاته.. ثم أخذت تقرأ أمام الحشود التي صمتت احتراماً لكلمات الكاتب الكبير..
«حين يحوم الموت حول رأسي فلا أريد أن يقتحم لقائي مع ربي أحدٌ من رجال الدين... أريد أن أقترب من خالقي في فيضٍ من نور المحبة.. وليس مع ثرثرة كهنوتية... ثم رفعت رأسها من على الكراسة وقالت: أسمعت أيها المحافظ؟! أسمعت أيها القس المأجور؟! والآن عودا من حيث جئتما قبل أن يندم من أرسلكما بسبب ما سيحدث في هذه القرية من مذابح...! في الحادية عشرة مساءً، ظن من حول سرير تولستوي! أن الحياة قد فارقت الجسد!!.. ولكنه تحرك قرب الفجر!!.. سمعته ابنته يهمس:
ـ ساشا.. الآن أود أن تكون صوفيا بجانبي..
هرعت ساشا لأمها:
ـ أماه أرجوك لا تبكي أمامه.. لقد كان يهذي باسمك بأرق صوت سمعته من أبي.. كان مغمض العينين! ما أن شعر بوجودها.. حتى علت البسمة وجهه!!.. مدّ يده نحوها! أسرعت تجثو إلى جانب فراشه! قبّلت يده.. لثمتها! أغرقتها بالدموع الصامتة! أخذت تناغيه.. وتناديه..
ـ حبيبي! ليو تولستوي.. ليوفوتشكا! أحبك! أحست فجأةً ببرودة الموت في اليد المحبوبة!
وإذا بساشا وفي صوتها ضراعة باكية:
ـ أماه.. إن أبي..الآن مع خالقه..

لم تعلم الجموع في استابوفو بموت الكاتب الكبير إلا حين أرسل الدكتور ماكوفيستكي بأوامر أوصاه بها الكونت بنصّ البرقية التالية: «إلى مزرعة تولستوي في إيزيانا/ بوليانا أرسلوا صندوقاً لامعاً من خشب الجوز، مبطناً بالزنك وبمقابض من الفضة الخالصة..».
وكتبت صوفيا أندريفنا في كراستها: في السابع من نوفمبر مات حبيبي ليو تولستوي، في السادسة صباحاً! لن أنسى لهم أبداً أنهم أدخلوني عليه في اللحظة الأخيرة! بينما كان يجب أن أكون معه قبلها بأربعة أيام! يا لهم من قساة! غلاظ القلوب!
  رد مع اقتباس
قديم 25/06/2008   #190
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


جنازة الراحل العظيم:

كانت جنازة ليو تولستوي في استابوفو حدثاً قد جعل من تلك القرية الصغيرة المنسية تغدو واحدةً من أشهر القرى الروسية بعد أن كانت لا يعرفها أحد على خارطة روسيا.
تأثير الأديب العملاق ليو تولستوي في الأداب العالمية، لهو تأثير كبير، إنه عالمي الاتجاه! إنساني النزعة! فبينما تقوقع ديستوفسكي، وبوشكين، وتورجنيف، وجوجول في التركيز على الحياة الروسية!لم يشغلوا أنفسهم بالحياة خارجها، كان تولستوي يقول في روايته (الحرب والسلام): «إن من لا يشغل نفسه بحال البشر في كل أنحاء العالم، ويحصر فكره في بلده، لا يعتبر منتمياً انتماءً حقيقاً للمجموعة البشرية!! إن مشكلات روسيا الاجتماعية في الريف تمثلها قرية واحدة! كما تمثلها في الحضر مدينةٌ واحدة! فماذا عن العالم الخارجي كله؟! ماذا عن آسيا؟! وماذا عن أفريقيا؟! ماذا عن جزر المحيطات؟! نحن نعرف المسيحية ونتعايش مع رجالها ليل نهار، ولكن ما أقل ما نعرفه عن الإسلام والبوذية وغيرهما من العبادات الأخرى!!..

هذه الفقرة على وجه التحديد في حوار أبطاله في روايته الشهيرة (الحرب والسلام) استثارت حفيظة القيصر الروسي. فتولستوي أول كاتب يتعرض لإنصاف المسلمين ممن يقعون تحت حكم الهيمنة الروسية، ولهذا فقد رفض القيصر نقولا الثاني وزوجته القيصرة ـ التي تؤمن بشعوذة راسبوتين- رفضا أن يرسلا مندوباً عنهما أو عن الحكومة القيصرية للاشتراك في جنازة أكبر كاتب روائي عرفته الإنسانية، وواحد من كبار محاربي التفرقة العنصرية بسبب الأديان أو الأعراق.. أجل رفض القيصر والقيصرة الاشتراك مع الشعب الروسي، بل مع شعوب كثيرة أخرى في تكريم ذكرى الكاتب العالمي، وكان تولستوي وهو في رقدته الأخيرة، يدرك أن هذا ما سوف يحدث! فقال همساً لطبيبه وصديقه ماكوفيتسكي: «احذروا أن يجركم راسبوتين بأمر من القيصر إلى المحاكم الجنائية بانتقاد أي تصرفٍ تجاه جثماني..». لأنه كان يتوقع أن زوجته الكونتيسة صوفيا ستوجه نقداً جارحاً بأسلوبها العنيف للإجراءات التي قد تلجأ إليها الحكومة القيصرية في تشييع جنازته، لأنها تبغض القيصرة وتنتقدها دائماً بسبب علاقاتها المخزية براسبوتين، وكانت انتقاداتها هذه تُنقل إلى القصر الإمبراطوري الذي لم يكن ينظر إلى تصرفات تولستوي في توزيع أملاكه على الفلاحين إلا بعين السخط وعدم الرضا! وملاحظة تولستوي تلك قبل وفاته، لأنه كان يدرك أن راسبوتين يحقد عليه بسبب إشاراته الصريحة إلى شعوذته ودجله، وعبثه في القصر الإمبراطوري، وهذا الذي دفع راسبوتين يوماً لأن يقترح على القيصر تجريد ليو تولستوي من كل أملاكه ومزارعه ووضع اليد على إيزيانا/ بوليانا.

ولكن كانت جنازة تولستوي من استابوفو في السابع من نوفمبر عام 1910 قد تركت بعدها أحداثاً جساماً،

كانت أحد الأسباب المباشرة لانقضاء أجل القيصرية في روسيا التي انتهت بعد ستة أعوام من جنازة تولستوي في7 1/1/1917

هذه الحلقات أوردها الكاتب / نجم عبد الكريم و نقلتها ايلاف ..
  رد مع اقتباس
قديم 25/06/2008   #191
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


أعماله..


التحق تولستوي بجامعة كازان {University of Kazan} . إلا أنه سرعان ما ضَجِر من الطريقة، التي يشرح بها أساتذته الموضوعات العلميةفترك الدراسة، قبل أن يتخرج، وعاد إلى مسقط رأسه عام 1847. وبدأ تولستوي يعلم نفسه بنفسه. فصار يقضي الساعات الطوال، ينهل من مصادر العلم والمعرفة.
وعن هذه الفترة من حياته، كتب تولستوي ثلاث روايات هي: الطفولة {Childhood}،والصبا {Boyhood}، والشباب {Youth}.
::



وفي عام 1853، وعمره خمسة وعشرون عاماً، تطوع تولستوي في الجيش الروسي، العامل في منطقة القوقاز واشترك في حرب القرم، في الفترة ما بين عامي 1853 و1856. وأظهر تولستوى شجاعة فائقة في معركة عرفت باسم معركة "سيفا ستوبول" (Battle of Sevastopol).
وأثرت فيه حياة شعوب القفقاس وكتب عن تجاربه تلك موضوعات نُشرت في الصحف، وألَّف عنها كتابه القوزاك) 1863 م الذي يحتوي على عدة قصص.


واصفاً فيها تجربته أثناء المعارك الحربية. وفي القصة، يُكنُّ الأرستقراطي المهذب، أوليفيه (Olevia)، وهو الشخصية المحورية في القصة، كل الإعجاب لحياة الحرية والتوحش التي تحياها قبائل القوزاق (Cossaks).



وتعد رواية "الحرب والسلام" {War & Peaceمن أشهر أعمال تولستوي، ويتناول هذا الكتاب مراحل الحياة المختلفة، كما يصف الحوادث السياسية والعسكرية التي حدثت في أوروبا في الفترة مابين 1805 و1820م. وتناول غزو نابليون لروسيا عام 1812م.وقد نشرت كاملة، في شكلها النهائي، عام 1869.وهي تحكي التسلسل التاريخي لحياة خمس أسر روسية ، تمر بخضم التجارب الإنسانيةومراحل الحياة المختلفة، التي طالما استهوت تولستوي، وهي:
الولادة، والنمو، والنضج،والزواج، وإنجاب الأطفال، وتقدم العمر حتى الكهولة، وأخيراً الموت.
::
ثم نُشرت التحفة الثانية رواية "آنا كارنينا"{Anna Karenina} مسلسلة من عام 1875 إلى عام 1877. وتدور الرواية حول خيانة أميرة روسية "آنا" لزوجها "كارنين".
وتتأمل الرواية، العلاقة الرومانسية بين آنا والكونت فيرونسكي {Vronsky}
وتأتي نهاية الرواية بانتحار البطلة، نتيجة الصعوبات الكبيرة، التي واجهت ارتباطها بمن أحبت.
ولكن رواية آنا كارنينا، لم تكن فقط قصة حب، تحوي عناصر مأساويةبل كانت سرداً لأغوار القضايا الاجتماعية والفلسفية والأخلاقية لروسيا القيصرية، وطبقتها الأرستقراطية.
وتُطرح الرواية عدداً من هذه القضايا من خلال أفكار وأفعال ليفين {Levin}
وهو الشخصية المحورية الثانية في الرواية، والذي يعبر، في الوقت ذاته، عن أفكار وآراء تولستوي.
::
وفي عام 1898، كتب تولستوي "ما هو الفن؟ {What is Art}
وفي هذا الكتاب، وضع نظرية الفنللحياة"، التي تضفي على الفن بعداً دينياً أو أخلاقياً أو اجتماعياً. وبهذه المعايير، حكم تولستوي، بنفسه، على معظم أعماله الأولىبأنها "فن أرستقراطي"، كتبت بغير غرض، وبأنها كانت بعيدة عن إدراك وفهم، الإنسان البسيط.
::
ثم بدأ تولستوى في كتابة أعمال روائية جديدة، تناولت معنى الحياة.
وفيها، كان أبطاله من الفقراء البسطاء، بدلاً من النبلاء والأمراء، الذين طالما كتب عنهم من قبل.
ففي عام 1886، نشر تولستوى قصة بعنوان "وفاة إيفان أليش" {The Death of Ivan Ilyich}
وفيها حكى قصة فلاح فقير، سقط فريسة لمرض مميت، وبينما هو في سكرات الموت..بدأ يستعرض حياته، وكم كانت فارغة من الأعمال الجيدة.
::
وتأتي رواية "البعث" (Resurrection)، كأعظم أعمال وإنجازات الفترة الأخيرة من حياة تولستويوهي قصة امرأة أُخذت بجريمة لم ترتكبها، ورجل نبيل ينشد التكفير عن خطاياه.
::
وتأتي بعدها رواية "الشيطان1889" (Devil)، وهي تركز على الحب والغيرة.



كربوتزسوناتا 1891
::
ورواية "الحاج مراد" (Hadji Murad)، التي نشرت بعد موت تولستوي
وهي تحكي قصة زعيم إحدى القبائل في جبال القوقاز.
وفي هذه الرواية يسطع نجم تولستوي، مرة أخرى بوصفة محللاً نفسياً قديراً.
(يتبع..

  رد مع اقتباس
قديم 26/06/2008   #192
صبيّة و ست الصبايا ليندا
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ ليندا
ليندا is offline
 
نورنا ب:
Sep 2006
مشاركات:
1,130

افتراضي


تسجيــــل متابعة
شكراً achelious

لا تحلموا بعالم جديد
فخلف كل قيصر يموت
قيصر اخر جديد
وخلف كل ثائر يموت
احزان بلا جدوى
ودمعة سدى

،،أمــل دنقل
:
((We ask the Syrian government to stop banning Akhawia ))
  رد مع اقتباس
قديم 26/06/2008   #193
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : achelious عرض المشاركة
هذه الحلقات أوردها الكاتب / نجم عبد الكريم و نقلتها ايلاف ..
كثير اسلوبو ادبى ومشوق فى عرض الحلقات
بشكرك ايسيليوس على هذا الموضوع الرائع

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
قديم 26/06/2008   #194
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


اعتراف ليو تولستوي ..


كُتب قبل حوالي مائة عام لكنه كتاب للمستقبل

هذا كتاب له خصوصيته التي لا تقارن بأي من كتابات تولستوي الأخرى على عظمتها. لم يأخذ هذا الكتاب -ضمن كتابات تولستوي الدينية - ما يستحقه من شهرة مثل أعماله الأدبية لا لأنه أقل قيمة بل لأنه وهذه الكتب يحوي مفاهيم ومعرفة روحية عالية القيمة لم يمكن أن تقدر في الوقت الذي كتبها فيه وهو أواخر القرن التاسع عشر ولا على مدى القرن العشرين كله، حيث سواد المادية لا يعطي الفرصة لفهم هذا الكتاب وتقديره إلا بين القليلين في عصره ممن يقدرون التجربة الروحية.‏

اخترنا كتاب اعتراف الذي كتب قبل حوالي مائة عام لأننا ندرك أن قيمته ستظهر أكثر في المستقبل القريب، حيث أن العالم بدأ عصرا جديدا يبحث فيه الإنسان عن معناه ك"روح" .. كتاب اعتراف لتولستوي كتاب للمستقبل وليس من الماضي .. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة فليس هناك في الكتابات الروحية الأصيلة ماض ولا مستقبل .. إنما هناك حقيقة يكتشفها الباحث عن الحقيقة .. حقيقة قبل وبعد الزمان والمكان .. وفوق أي لغة أو جنس أو ظاهر دين .. حقيقة الإنسان.‏

نشأ الفتى الصغير في بيئة مسيحية متدينة وكان يتلقى دروسه الدينية في مدرسته ويقوم بطقوسها في استسلام. في سن 18 بدأ يشعر بأن إشارات الصليب التي يؤديها وانحناءات الركبة تعبدا واحتراما في صلاته ليس لها أي مدلول عنده وأنه غير قادر على الاستمرار في "الكذب" فتوقف عن أدائها تماما. لكن - كما يقول-"كان داخلي شعور ما بأني أؤمن بشئ ما، أؤمن بإله أو بمعنى آخر لا أنكر وجوده، ولكن أي إ له؟ لم أكن أدرك على وجه التحديد. أذكر أيضا أني لم أكن أنكر تعاليم المسيح؟ لكن ماذا كانت تعني لي هذه التعاليم وقتها؟ لا أستطيع أن أعرف تماما.‏".‏

ينطلق الشاب ينشد الكمال والاكتمال في كل شئ، في علومه، في المعرفة العامة، في صحته ولياقته البدنية، ومع هذا كله وفوقه ينشد "الكمال الأخلاقي" .. فماذا يجد؟ يقول في اعترافه: "كلما حاولت أن أعبر عن رغبتي العميقة وطموحاتي الأخلاقية، كنت أّقابل ممن حولي بالازدراء والاحتقار، وبمجرد ما أسلم نفسي للرغبات الوضيعة أّقابل بالمدح والتشجيع‏".‏

وبدأ الشاب الصغير يستبدل طموحاته الأخلاقية بطموحات أخرى يقرها المجتمع. يعبر هو عن هذا المجتمع الذي نشأ فيه بقوله إنه مجتمع يعتبر أن " الطموح، شهوة القوة، المصلحة الذاتية، الانغماس في الشهوات، التكبر، الغضب، الانتقام" هي الصفات التي يجب أن تحترم. صار طموحه الأساسي أن يكون أكثر شهرة وأكثر أهمية وأكثر ثراء من أي إنسان آخر حتى لو كان ذلك -كما يقول- من خلال ارتكاب أي خطأ أخلاقي.‏

ويبدأ تولستوي في سن 26 الاختلاط مع طبقة الكتاب والشعراء والمثقفين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم هم رواد "التعليم" في ذلك الزمن-النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث أصبح "التطور" أو "التقدم" هو الدين الجديد للمجتمع. ويتذكر تولستوي هذه الفترة قائلا: كنا نتحدث جميعا في وقت واحد ولا يستمع أحد للآخر.. أحيانا يمتدح واحد منا صاحبه انتظارا لمدحه في المقابل وأحيانا تتعالى صرخات الاعتراض فيما بيننا كما لو كنا في مستشفى للأمراض العقلية.‏

في إحدى رحلاته لباريس يرى شبابا تجتث رؤؤسهم من قبل السلطة بحجة أنهم من أعداء "التقدم" .. المشهد يحرك أعماقه فيقول في نفسه: "لو كان كل الناس منذ بدأ الخليقة وحتى الآن تحت أي مزاعم يقتنعون بأن مثل هذا العمل ضروري فأنا أعرف تماما أنه ليس ضروريا وأنه خاطئ. من هنا فالحكم على أي شئ بأنه ضروري وصواب يجب ألا يأتي من أي مصدر خارجي مهما كان ولو كان هذا يتعلق ب "التقدم" ،لكن يجب أن ينبع مما تستشعره الروح ". في موقف آخر يموت أخوه الأكبر بعد معاناة مع المرض فيقول تولستوي في نفسه وهو يعتصره الحزن: "مات دون أن يفهم لماذا كان يعيش أو لماذا مات". لكن الأمر كله عند تولستوي كان لا يزال مرهونا بما سيأتي به "التطور" فيقول: ما لا أفهمه الآن سأفهمه غدا من خلال‏ التطور.‏

بعد هذين الموقفين يشعر بأن هناك سؤالا في أعماقه عن المعنى الحقيقي للحياة يؤرقه، وهو لا يملك إزاءه إلا الهروب بالانغماس في العمل. كان في بداية الثلاثينات من عمره ففكر أن تكوين أسرة قد يهدئ من نفسه هذه المؤرقة بلا سبب معروف. وتمضي الحياة به مع زوجة حبيبة وأطفال رائعين لمدة خمسة عشر عاما يضع فيها الأولوية القصوى والهدف من الحياة : توفير أفضل حياة لهذه الأسرة.‏

وفي وقت كان فيه تولستوي يتمتع بكل ما يمكن أن يرنو إليه إنسان في حياته المادية تحدث له أشياء غريبة -من وجهة نظره في ذلك الوقت. كان في بداية العقد الخامس من عمره ..يتمتع بصحة ممتازة.. يلقى شهرة ونجاحا فائقا.. لديه أموال وأموال..حياة أسرية ناجحة بكل المقاييس .. فيفاجئه سؤال من الداخل "وماذا بعد؟" ..يهرب من السؤال ويقول لنفسه: حين أفرغ من هذا العمل سأفكر في إجابة.. لكن السؤال لا يبقى مجرد سؤال أو خاطر عابر ..إنه يأخذه إلى حالة نفسية من الاكتئاب والرغبة في الانعزال.. إنه يفرض نفسه عليه وهو يعمل أي شئ قائلا: "حسن سيكون عندك 6000 فدانا في أرقى منطقة و300 حصان وماذا بعد؟" " حسن ستكون أكثر شهرة من جوجال وبوشكين وشكسبير وموليير بل وكل كتاب العالم وماذا بعد؟"

تبدأ مرحلة في حياة تولستوي أقل ما يقال فيها أنها عذاب متواصل .. عدم قدرة على الحياة بسبب الإحساس بأن أي سعادة أو تعاسة في هذه الحياة ما هي إلا خدعة كبيرة ..والسؤال بداخله عن معنى أعمق وأدوم لا يفارق كيانه .. فلا هو يستطيع أن يتجاهله.. ولا هو قادر على مواصلة الحياة كما كانت باستبعاده ولا هو قادر على الإجابة عليه. "ما نتيجة أي فعل أقوم به اليوم أو غدا؟ ما هي نتيجة حياتي كلها؟ هل هناك أي معنى للحياة سيبقى ولا يفنى بقدوم الموت المحقق الذي ينتظرني؟" يعبر عن هذا بقوله: "بحثت عن إجابة لأسئلتي في كل فروع المعرفة التي اكتشفها البشر. بحثت لفترة طويلة وبكد عظيم. لم أبحث بقلب فاتر أو لمجرد حب الاستطلاع ولكن كنت أبحث وأنا يشملني العذاب ولايفارقني الإصرار ليل نهار كإنسان يحتضر ويبحث عن أي مخرج للنجاة. لكني لم أجد شيئا". هنا يلخص تولستوي إجابات العلم عن ظاهرة الحياة وهي أنها تصف هذه الظاهرة وتصف ظاهرة توقف الحياة من خلال توقف أجهزة الإنسان جميعا ومعها تختفي من هذه الحياة تساؤلاته وكل ما كان العقل يفكر فيه. أما الفلسفة- كما يقول- فإنها تقول إن الوجود كله هو وجود مطلق ولا يمكن الإحاطة به والإنسان نفسه هو جزء غامض من هذا الوجود الغامض.‏

لكن شيئا من هذه العلوم لا يعطي إجابة عن تساؤلاته: ما معنى الحياة؟ وما الذي لا ينتهي بقدوم الموت؟ "فلأحاول أن أجد الإجابة من الناس حولي طالما أني لم أجدها في الكتب" هكذا قال تولستوي لنفسه بعد ثلاث سنوات متواصلة من القراءة الدؤوب في كل العلوم .. ليست مجرد قراءة.. كان كصريع من الظمأ يبحث عن نقطة ماء وسط الصحراء. بنفس الروح التفت إلى الناس.. علّه يجد دليلا.. فوجد معظم الناس في حالة من "الهروب" من الإجابة عن السؤال عن معنى الحياة وهم حسب تصنيفه ينقسمون إلى أربعة أنواع.. الأول يهرب من خلال الاكتفاء بالجهل ولا يسعى للمعرفة، النوع الثاني يهرب من خلال منهج في الحياة يجعل الهدف منها هو اللذة Epicurianism ، النوع الثالث يتسم-كما يقول- بالشجاعة والقوة لأنه يعرف أن الحياة كلها شر ولا طائل من ورائها فيرفضها ويقدم على التخلص منها، أما الصنف الرابع فهو "ضعيف" لأنه يعرف أن الحياة كلها "عبث وعدم" ورغم ذلك فإنه يفتقد الشجاعة للتخلص منها. تولستوي صنّف نفسه في النوع الرابع لأنه يتعذب ولا يجد معنى للحياة لكنه أيضا لا ينتحر. في هذا الوقت من تجربته كان تولستوي لا يعرف حتى لماذا لا يقدم على الانتحار.. رغم أن الفكرة راودته كثيرا، وكان كل العذاب واليأس داخله يدفعه لأن يمسك بحبل ليخنق نفسه أو يمسك مسدسه ويطلق رصاصة واحدة فينهي بها عذابه.. فكان يتجنب التواجد مع "حبل أو مسدس" في أي مكان

تحوّل تولستوي من البحث في الكتب، ومن البحث بين أفراد طبقته، إلى العامة، لمس شيئا بينهم ما أشعره بأنهم يعيشون معنى الحياة حتى لو كانوا غير قادرين على التعبير عن هذا المعنى، يكفي أنهم سعداء راضين بالحياة رغم أنهم ينقصهم الكثير من رفاهية الماديات التي تتمتع بها طبقة المثقفين والأثرياء، وهم لا يرفضون الحياة ولا يرونها عبثا مثل الطبقات التي يعيش بينها. شعر تولستوي بالراحة للعيش وسط هؤلاء البسطاء. لكنه كان يشعر بأن هناك نوعا من المعرفة يحتاج إليه ولم يجده بعد.‏

من هنا بدأت مرحلة جديدة في حياته وجد فيها شيئا كان بمثابة اكتشاف عظيم .. أيقن أن الإجابة عن تساؤله الأساسي: ماهو المعنى الذي لا يحطمه الموت؟ لا يمكن أن توجد إلا في "العقيدة": المعنى الذي لا يموت هو توحد الإنسان مع مالا يموت .. مع الله. بعقله .. بفهمه .. أدرك تولستوي الآن بل أيقن أن هناك نوعا من المعرفة تختلف عن "معرفة العقل" أو الذهن .. لأن معرفة العقل تتعامل مع كل ما هو مؤقت .. وهي مصدر الحقيقة عن كل ما هو مؤقت .. لكنها لا يمكن أن تكون مصدرا للمعرفة عما هو خالد .. عما لا ينتهي بالموت ..
هنا يقول تولستوي: "إذا غاب عن الإنسان الفهم والبصيرة بأن كل ما هو مؤقت ليس إلا نوعا من الوهم، فإنه لن يؤمن إلا بما هو مؤقت، أما إذا رأى ببصيرته أن كل ما هو موقوت ليس إلا وهم فحينئذ سيؤمن بما هو باقي ودائم" .

بهذا اليقين انطلق يبحث في المعرفة الدينية المسيحية من خلال من حوله من رجال الدين، كان يسألهم عن إجابة لمعنى الحياة كما يعيشونها .. لكن لأن الأمر بالنسبة له لم يكن مجرد "كلام" أو "أشكال" فإن شيئا جوهريا جعل تولستوي يدرك أن نوع العقيدة والمعرفة التي يريد أن يحياها لا توجد عند هؤلاء فهم-كما رآهم لا يعيشون حياة يطبقون فيها ما يقولونه .. إنهم مثل كل من لا عقيدة لهم بل ربما أكثر حرصا على حياة المادة والثراء والشهوات وربما السلوك اللاأخلاقي. وهنا يخبو عند تولستوي الأمل الذي كان ولد داخله بأنه على وشك أن يجد إجابة لتساؤلاته .. بل حيرته .. بل بحثه بالروح والعقل والقلب والجوارح .. ليس بحثا عن إجابة سؤال بل بحث عن الحياة نفسها.‏

ماذا يفعل الآن وقد طرق كل الأبواب بشدة ولم يفتح له؟ مرحلة جديدة من العذاب .. استنفذ كل ما يستطيع أن يفعله بنفسه .. فإذا به يدعو الله، "أدعو من أبحث عنه علّه يساعدني. وكلما دعوته كلما بدا لي أنه لا يسمعني. ولا يوجد من ألجأ إليه أبدا". "وبقلب ملئ بالحزن توجهت من جديد أصرخ: يا إلهي! رحمتك! انقذني! أرني الطريق" .. بدا له أيضا أنه ليس هناك من مجيب وأن الحياة به قد وصلت إلى نهايتها.. وفي قمة اليأس يتطرق إلى ذهنه خاطر جديد: " إن المفهوم عن الله ليس هو الله " "أنا أبحث عن الله الذي بدون وجوده لا توجد حياة .. ها هو .. الله .. هو الحياة .. أن أعرف الله وأن أحيا هو معنى واحد ..الله هو معنى الحياة" "وبأقوى من أي لحظة أخرى في حياتي أشرق كل شئ داخلي ومن حولي بالنور .. ولم يفارقني هذا النور أبدا.‏"

كانت هذه لحظة رائعة وفاصلة في حياة تولستوي .. لحظة ميلاد حقي سبقتها آلام وآلام .. آلام المخاض .. كل لحظة منها كان يشعر بعقله الإنساني أنها تأخذه إلى مرحلة جديدة من اليأس والضياع .. وكانت في الواقع تقربه من لحظة الميلاد العظيم. وتبدأ رحلة جديدة لكشف رقائق أخرى من الزيف كانت تحيط بأشياء كثيرة حوله.. ومثل كل مرحلة في حياته يقتحم تولستوي دائرة المعرفة بحب وصدق وإخلاص.. وبنفس القوة يكتشف بنفسه ما هو حق وما هو زيف.‏

بكل الحب والنور وعنفوان الحياة الحقة المتدفقة يريد تولستوي أن تكون حياته كلها تعبيرا عن عقيدته .. وأول أساسيات العقيدة أن يكون في طلب لمدد من الحياة من أصل الحياة وذلك من خلال إقامة الصلاة .. فيذهب إلى الكنيسة بروح الحب والرغبة في الالتزام والاحترام لتعاليم الدين المسيحي .. لكنه يجد أشياء كثيرة في الطقوس لا يعرف لها معنى .. فيحاول هو بنقائه أن يضفي عليها معنى ومفهوما من داخله .. لكن الوقت يمضي به وهو داخله إحساس بأن هذه التعاليم يختلط فيها "الحق" بال"زيف" .. كيف يجد الخط الفاصل بينهما؟ لا أحد يستطيع أن يدله .. المفهوم الشائع هو إضفاء القدسية على الكنيسة ويبررون ذلك بأنهم يعتبرونها رمزا "للتجمع بالحب" .. لكنه ها هو يرى الطوائف المختلفة تتهم بعضها بعضا بالكفر ..فأين هو هذا الحب؟ وحين يسأل أحد عن معنى من معاني الطقوس يقال له أن الطاعة واجبة سواء أفهم أم لم يفهم. إجابة لم يسترح لها تولستوي وشعر أنه يكذب على نفسه إذا ما استمر في فعل أشياء حاول بكل طاقته أن يجد لها معنى فلم يجد. وبدأ رحلة جديدة يقرأ فيها الانجيل ويحاول أن يفهمه بنفسه. وكلما قرأ وبحث اكتشف أن هناك طبقات وطبقات من "الدين الخاطئ" الذي يروج له رجال الدين والذي يفرضون فيه سلطاتهم على الناس دون أن يكون لما يقولون سند حقيقي من تعاليم المسيح0 المنهج الذي اتبعه استطاع به فصل الغث عن الثمين في كل شئ حوله .. في نفسه أولا .. في مصادر المعرفة .. فيما يقول ويفعل الناس.‏

منهجه يبرز فيه نقاء القلب فلم يستطع أبدا أن يكون منافقا أو كاذبا فيما يعتقد .. حتى حين أخذته ثقافة المجتمع حوله وبريقها إلى طبقة من زيف الشهرة والمال فإن صوت الداخل أخذه إلى الحقيقة،
ومنهجه يحترم العقل ولا يقبل ما لا يقبله عقله،فينقذه صوت الداخل أيضا من أن يكون سجين "معرفة العقل" وحدها ..بل يفتح له مصدرا لمعرفة أخرى هي معرفة الروح التي تعلو معرفة العقل ولكن لا تتناقض معها.‏
ومنهجه العمل فلم يتخاذل عن البحث والكد والجهد.‏

كانت ثمار تجربته أن كل ما تعلمه حتى من قبل ميلاده الحقي ترجمه في النصف الأخير إلى سلوك يعبر فعلا عن معنى الحياة .. فبأمواله ساعد الكثيرين والكثيرين من الفقراء .. وبعقله ما تحولت العقيدة عنده إلى شئ ينافي العقل بل هو يؤكد على أنه من الدين القويم أن يلحق الإنسان بكل علوم عصره .. وبقدرته الأدبية ترك كتابات دينية يفيد منها أي إنسان يريد أن يفرق بين الحق والزيف.

ومن أهم ما يقدمهاعتراف تولستوي أن:‏

الحياة الروحية تُعاش لا تلقن.‏

وكسب الحياة يكون بخدمة الناس لا باعتزالهم.‏

وفهم الكتاب المقدس هو بحرية العقل ونقاء القلب لا بالترديد.


آخر تعديل achelious يوم 26/06/2008 في 22:21.
  رد مع اقتباس
قديم 26/06/2008   #195
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


قبل أن نتابع تحليل بعض أعماله الأدبية سوف نذكر بعض أقواله عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
في كتابه ( حكم محمد ) يقول تولستوي :

"إن حياة محمد وقوة تأمله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته وجاهلية شعبه وشهامته وجرأته وثباته على الدعوة ثلاثة عشر عاما في وسط أعدائه وتقبله سخرية الساخرين وحميته في نشر رسالته وإيمانه بالفوز والنجاح ونجاح دينه بعد موته ، كل ذلك أدلة على أنه كان يعيش على الحق ولم يكن يعيش على باطل 0"

( إنّ محمداً نبي الإسلام الذي آمن به الآن أكثر من مائتي مليون نفس ، قد قام بعمل عظيم جدّاً .. إنّه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الأهليّة وسفك الدماء وتقديم الضحايا البشريّة ، إلى معرفة الإله الواحد وأنار أبصارهم بنور الإيمان وأعلن أنّ جميع الناس متساوون أمام الله .
والحقّ الذي لا مراء فيه ، أنّ محمداً قام بعمل رائع وثورة كبيرة في العالم ) .

( من أراد أن يتحقق ممّا عليه الدين الإسلامي من يسر وتساهل ، فعليه أن يطالع القرآن بإمعان . ذلك الكتاب ، الذي أتى به محمد وقد جاءت فيه آيات تدلّ على روح الإسلام العالية فيها .. ومن هذه الآيات : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء ، فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرةمن النّار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون )


"يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة."

(يتبع..
  رد مع اقتباس
قديم 27/06/2008   #196
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


الحرب والسلام

إنها ملحمة كبيرة تتمحور حول غزو نابليون لروسيا العام 1812 وتعد خير مثالا لرؤية صاحبها أن التاريخ يسعى نحو غايته بعناد مع ظهور الإنسان كأداة طارئة لعملية تاريخية معينة ورغم صعوبة قبول الانحياز إلى محصلة فلسفة التاريخ اليوم باعتبارها احد موضوعات " الحرب والسلام" أعظم إنتاج تولستوي الاانها تضيف عمقا ورؤية إلى السردية الممتعة التي تنثر تفاعلا تاريخيا واجتماعيا وشخصيا.
تعج الرواية بما يفوق الخمسمائة شخصية يتم عرض وتقديم وتحريك كل منها على حدة!!الأمر الذي أمكن عرض لوحة ملونة متكاملة للمجتمع الروسي في زمن خارجي امتد من 1805 إلى 1820 شملت الأباطرة ووزرائهم وضباطهم الكبار إلى جانب أعداد لا تحصى من صغار الضباط والجنود والنبلاء والفلاحين الفقراء.
يمثل المشهد الافتتاحي سهرة بموسكو يدور جل حديثها حول الإعلان الأخير بنابليون إمبراطورا على فرنسا ثم يتلوه انتقالا طويلا يجرى خلاله تقديم الشخصيات الرئيسة الثلاث الشابة البريئة " ناتشا راسف" ،الأمير المتهكم المتعجرف " اندرو بولكونسكى" والمفكر " بيير بيزوكوف" الابن غير الشرعي للكونت بيزوكوف " هو صوت الروائي" إلى جانب مجموعة ضخمة من أصدقائهم وأقاربهم وأنجالهم حيث يجرى تناولهم ومتابعتهم طوال مجرى الحدث والسرد عبر تقادم أعمارهم ونضج أذهانهم وتطور رؤاهم للحياة من خلال نسج فريد معقد بارع تعجز المفردات عن تصويره يتقاطع فيه التاريخ والواقع بدرجة مدهشة كما يتقدم الكاتب ويتمدد في توسيع رؤيته للحياة بالرجوع إلى أحداث وأقوال شخصياته تلك العديدة مجبرا إمكانية تبنى مقدراته التي يحس بها في العالم مما حدا بالأمير المتعجرف المتهكم بالتوازن والقبول الموجب الهادئ للموت بينما ينهزم المفكر "بيير" عند بلوغه الذروة بقبول حكمة ضرورة قبول الحياة بخيرها وشرها بدلا عن السعي لإحداث تغييرا عبر الفكر والجمال !!.
  رد مع اقتباس
قديم 27/06/2008   #197
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


آنا كارنينا

تمثل " آنا كارنينا" إحدى أكثر بطلات الأدب العالمي حبا وتعلقا بالذاكرة إذ تسيطر جاذبيتها وسحرها وفتنتها ودلالها وغنجها وغطرستها بشدة وثراء لا مثيل له على هذه الرواية التي اعتبرها "تولستوي" أولى محاولاته الجادة في شكل الكتابة الروائية التي تخاطب الطبيعة الخالصة للمجتمع بكافة مستوياته...القدر ...الموت...العلاقات الإنسانية...والتناقضات العنيدة للوجود لذلك فإنها تنتهي بتلك الصورة المأساوية مع وجود الكثير من الأسى والحزن اللذان يدفعان إلى الياس! رغم امتلائها كذلك بأجواء ومشاهد وصور ومفردات الفرح والمتعة والإضحاك.

ولقد أستهلها صاحبها العام 1873 اى بعد سنوات خمس من اتمامة درته " الحرب والسلام " تلك الفترة التي مثلت بداية شعوره بالامتعاض والنفور مما يسمى بالطبقة العليا الروسية التي كان ينتمي إليها والدة بدرجة ما ولقد بلغت مسوداتها الأولى ست مسودات حتى وصلت النسخة الأخيرة إلى المطبعة العام 1877 .
لقد نتج الفهم الواسع لتولستوي لموضوعات الحضارة في عصره عبر موقعة النقدي المتمرد المتأمل داخل مجتمعة خلال تلك الفترة الحاسمة من التأريخ وقد انعكس تضافر تجربته الثرة مع ذكائه الواسع وخيالة المجنح " إن استعرت مفردات جبران"في هذه الرواية وسابقتها اللتين تميزتا ببعد غير مألوف صار فيما بعد مقياس للرواية الأوربية.

كثير ما ناقش تولستوي فكرة تأليف كتابا عن مجتمع المرأة التي تتحطم ذاتها عبر امتهان جسدها والعلاقات الغرامية المبتذلة فاخضع قلمه كليا لذلك الحلم كما أشارت بذلك المسودات العديدة الأولى لهذه الرواية إلا مر الذي قد تلاشى عند وصول النسخة الأخيرة المعدلة إلى المطبعة !! لكن التقاطع الحاد بين شخصيتي" آنا كارنينا" و عشيقها " ليفين" قد مثل فكرة لاحقة مكنته ليس من ابتكار تركيبا للتباينات التي سندت الرواية فحسب بل الإفصاح كذلك عن سيرته الذاتية ،همومه المتعلقة بالمجتمع الروسي ،السياسة،الزراعة، الفلسفة والثقافة وهلم جرا.

رغم إشارة الروائي Henry James إلى روايات تولستوي باعتبارها " مسخا هلاميا فضفاضا" إلا أن " آنا كارنينا" تبدو جديرة بالاهتمام لوضوح وتناسق تركيبها حيث أوضحت رسائل ويوميات ومراجعات صاحبها اهتمامه الشديد بهيكلها لدرجة اعتبارها قمة انتاجة الجمالي على مستوى الشكل وتصنيفها أولى محاولاته الروائية الحقيقية الجادة حيث تحتوى على ستة أقسام كبيرة مقسمة داخليا إلى فصول مقتضبة تحتوى على العديد من الحلقات والصور التي تشكل انساقا مختلفة تمنح الرواية وحدتها العضوية ومنذ براعة استهلالها يؤسس تولستوي موضوعات متصلة تتميز بالثراء خصوصا عند تقديمه بطلته "آنا"عبر مناحي شتى أثناء تحركه وتقدمة نحو استغراقه وتأمله الفكري الاساسى من خلال مشهد افتتاحي محملا بالكثير من الدلالات والرموز،كما يتم تبيان المعايير المزدوجة التي يبديها المجتمع تجاه الرجال والنساء في مرحلة مبكرة ثم إدخال موضوعا مسيطرا أخرا وهكذا دواليك...

لقد تم نسج خيطا من الازدراء والتهكم والتورية والسخرية بصورة ملفتة داخل نسيج هذه الرواية لدرجة أدت إلى هدوء السرد، كذلك جرى توظيف عناصر من المرح والإضحاك بصورة بنائية بأقصى درجة ومن الملفت ظهور القطار الذي كان اختراعا حديثا وقتها بفاعلية مؤثرة في الجزء الأول من الرواية عند تقديم الشخصيات .
أخيرا لقد رسخ تولستوي وسائلا دقيقة بارعة للتشخيص أدت إلى تشكيل صورة بارعة الأبعاد لكل مبدأ و معنى داخل حركة وتطور شخصياته....فالبطلة نفسها يتم تقديمها تدريجيا عبر الظروف المختلفة والتباين مع غيرها من شخصيات الأمر الذي يتم طوال مجرى الأحداث حيث تم تمثيل حماتها "دوللى" وأختها " كيتي" ووصفهما بصفات ممتازة واللتين قد حظيتا شأنها بحياة رغدة ودعة إلا أنهما يفقدان جاذبيتها وسحرها والعفة والكبرياء والسمو تلك السمات التي تفتقر إليها حلقتها الاجتماعية!!

تتمثل الصورة داخل رؤية الحياة في معضلة عرقية تم تبيانها بمشهد عنصري يتمثل في موت شبح " فيرونسكى"مما حدا بالبطلة الفشل في التغلب على معضلات ضميرها الخاص وضغوطات المجتمع الذي يدينه الروائي بصورة ضمنية والذي لا تملك المقدرة على تحمل نفورة واستعدائه كذلك تعتبر المقارنة المعقدة بين " ليفين" عشيق البطلة و " فيرونسكى" وبعلها " كارنينا" وغيرهم مركزا للرواية والتي ترتبط بالتباين المرسوم بين مدينتي بطرسبرج وموسكو المتصفتين بالضغوطات العصرية والقيم التراثية على التوالي ورغم مقدرة الأول التمتع بمباهج طبقته إلا أنة ظل ملتزما ومهتما بقوة بموضوعات أكثر نبلا وسموا يتجلى ذلك في اقترابه اللصيق بالزراعة والطبيعة مفرغا مقاومة تولستوي حيال الطريقة المثلى للحياة الأمر الذي يتناقض مع تفا هات وترهات ما يسمى بالطبقة العليا الروسية التي يمثلها شخصيات ستيفا،فيرونسكى والبعل كارنينا.

يقول الكاتب الانجليزي Matthew Arnold .. "يظل انتصار سحر وفتنة "آنا" باهرا نسبة لطبيعتها السخية الثرة ومرحها المتدفق بصورة تجبرنا على احترامها وعشقها وغفران أخطائها وبلاشك إنها إحدى أكثر بطلات الأدب حبا وعلوقا بالذاكرة."
  رد مع اقتباس
قديم 28/06/2008   #198
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


.. في الختام لا يسعني إلا أن أستعير بضعة أبيات من قصائد رثاء قيلت في تولستوي حين عم نبأ وفاته..
وعلى رأسها أبيات لشاعر وادي النيل أحمد شوقي حيث قال:

(طولستوي) تجري آية العلم دمعها
عليك ويبكي باثس وفقير

وشعب ضعف الركن زال نصيره
وما كل يوم للضعيف نصير

ويندب فلاحون أنت منارهم
وأنت سراج غبـــــــوة منير

يعانون في الأكواخ ظلما وظلمة
ولا يملكون البث وهو يسير

تطوف كعيسى بالحنان وبالرضى
عليهم وتغشى دورهم وتزور

ويأسى عليك الدين إذ لك لبه
وللخادميـــه الناقميـــن فشور

أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه
أنــــــاجيل منها منذر وبشير
..

و مما قال حضرة الشاعر المشهور حافظ ابراهيم في الفيلسوف أيضا..

رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى
لمدحك من كتاب مصر كبير

ولست أبالي حين أرثيك بعده
إذا قيـــل عني قد رثاه صغير

فقد كنت عونا للضعيف وإنني
ضعيف ومالي في الحياة نصير

ولست أبالي حين أبكيك للورى
حـــوتك جنان أو حواك سعير

فأني أحب النابغين لعلمهم
وأعشق روض الفكر وهو نضير

دعوت إلى عيسى فضجت كنائس
وهـــــز لها عرش وماد سرير

وقال إنــــــــاس إنه قول ملحــد
وقــــال أنــــــــاس إنه لبشير
..

آخر تعديل achelious يوم 28/06/2008 في 01:21.
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 11:30 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.42598 seconds with 13 queries