القميص الأبيض

[مالك الحلبي]

القميص الأبيض
دخل علي لابس معطف عصفر بلون العاج , بالغا السبعين من عمره سمحت لنفسي قراءة وجهه فهو رجلا بكل معنى الكلمة عينيه طريقة حركته تفاصيله زفير كلماته
كيف تفسر لي أنه رجل بكل معنى الكلمة ؟
أحيانا قراءتنا للشخص تكون صحيحة لكن كيفية التفسير يصعب علينا لتراكم الأفكار التي تغلف عقولنا
بدخوله علينا قام بكل احترام على قذف كرة السلام إلينا ,هذه الكرة تكون من أحسن وأجمل وأروع الكرات بأسس التعامل بين الأفراد ولو أنه دخل علينا وكأنه داخل على كهف أو بيت مهجور ورآنا أشباح تتطاير ولم يسلم علينا لقلنا أنه : تائه في ظلمة المجتمع
فهناك كثيرون من يدخلون ولا يرمون هذه الكرة احتسابا منهم : إما أنهم أقوياء الشخصية أو عمليين أو يحبون السرعة بالعمل
ولكن العمل من أساسياته التعامل بالكلمة الطيبة أو حتى قذف كرة التحية والسلام
ربما كلمة قذف تأتي للسباب ولكني أثرت كتابة أخر كلمة من كلمات الفعل , عل قارئي يزيد من أرشفة التعاملات فهو يفوقني ذكاء وحنكة ولكن منهم من لا يمارسون هذه القذائف
نعود إلى الأستاذ جورج
بدأ بتفحص البذلة وقبل تجربتها سألني عن السعر والعرض
فأجبته بكل صدق , لأن التاجر الصدوق يحشر مع الشهداء والأنبياء
وقضية الصدق قضية كبيرة على من يريد سعادة يقظته ونومه وحلمه و رؤاه , قضية الصدق في التعامل من أجمل القضايا لأن الضمير هو من يجب أن يعود ويمارس عمل الاستقرار
ولا يجب علينا بالحكم على من ترك عادة الصدق ولبس ثوب الكذب أن نقنط من رجوعه إلى الصدق , ربما العادة والنية تقتل خيوط حياكتنا الأولى , ربما التقليد , فكم من أناس رعوا مع الراعي ويوقنون أنه ليس براعي بل ذئب بشكل راعي
وإذا صدقنا القول مع أنفسنا سيرتاح من سكن الضفة الأخرى , أما إذا كذبنا ربما يتحول إلى كاذب أو شخص ستنحر الثقة عنده بالمجتمع تدريجيا
يأتي سائح إلى بلاد الشام لزيارة مثلا الأردن وسوريا ولبنان يتصفح كتاب السياحة بهذه الدول فور وصوله إلى جزء يتعلق بالشراء والبيع يقرأ : إن التجار في هذه المنطقة يمكن أن تفاوضهم بالأسعار وتدفع 25% من السعر الأصلي
هذه قضية لطالما قضت مضجعي فكثير من دول العالم يتعاملون بالسعر المحدود وبقوانين تسمح لهم أن يعيدوا ما أشتروه بقوانين مبينة
ولكن عندنا يختلف هذا النموذج فترى مثلا رجل أو امرأة دخلوا إلى متجر فبدأت بالسؤال- قبل أن ترى المنتج - عن الأسعار
فنظرة المستهلك إلى البائع نظرة لص يلبس بذلة السجن ويضع قناع أسود على وجهه
ونظرة البائع إلى المستهلك نظرة الخروف الذي أتى إلى مربع الذئاب
وربما العكس
لن أخوض بموضوع حجم الثقة المتبادلة بين البائع والمستهلك لأنها قضية طويلة عريضة تحتاج إلى موضوع أخر
نعود إلى الأستاذ جورج
بعد سؤاله عن السعر بدأ يفاوضني ويساومني على السعر فصدقته غريزتي ولم أدخل حلبة المفاوضات , فتقبل مني تصرفي وبدأ بالقياس فقرر أرجاء الشراء بوعده أنه سيأتي وقال بالحرف الواحد : سأرجع وعندما أقول سأرجع يعني سأرجع
هنا امتعضت قليلا بكلماته , لماذا لم يردف إن شاء الله ربما يخرج من المتجر ولا يرجع لظروف معينة , كم وددت أن يردف أو يبدأها بكلمة إن شاء الله
ولكن ربما السن والعمر والمحيط أنساه إياها , يجب وضع المبررات له لأني لو كنت حادا لأي فعل شخص يفعله لما كنت إنسان
فردود الأفعال تأتي إما بالضغط أو سرعة التفكير بالاّتي أو بطبعه وما تولد منه
وقبل خروجه تقدم إلى الكرسي وقال لي : إني مغترب منذ46 سنة في أستراليا وأنا من إدلب وكنت من كبار الإقطاعيين الذين هاجرو بعد التأميم ووصلت إلى حلب منذ 10 أيام فقط أحب أن أمشي وأتذكر المدينة وتفاصيلها وعند تعبي أستقل تاكسي للعودة عند أبن عمي في شارع قسطاكي الحمصي
46 سنة بالمهجر ولم يأتي يوم واحد ربما كان تأثير موضوع التأميم كبير عليه والغربة تجعل منك غطاسا حذرا مع المجتمع الجديد
كم كبيرة هذه الكلمة الغربة
والمغتربين
أما الغرباء فهذا حديث أخر فالغرباء لهم مساحة كبيرة من العزلة طواعية عن ما يعتبرونه مخالف لفكرهم
أما إدلب فهي محافظة تعتمد على الزراعة وبالأخص الزيتون يختلف زيتونها عن عفرين بأنه زيت خفيف هناك كثيرون من يحبونه أما الزيت العفريني فهو زيت ثقيل وموضوع الزيت لا يفحص إلا بوضعه على الفول فهو مركز تحليل الزيت والله أعلم
نعود لمدينة حلب وما أدراك ما حلب ؟
مدينة صناعية من الطراز الرفيع أما التجارة فقد وليت دمشق بها عن جدارة ولا اظلم كلتا المدينتين فكل مدينة لها نجومها وكوكبها
عندما نتذكر تفاصيل المدينة وما آلت أليه الآن , فهناك من ينفث نارا وهناك من يزفر ثلجا
قيل لي بالستينات , كنا نلبس القميص الأبيض يظل نظيفا من جهة الياقة لمدة أسبوع كامل
أما اليوم فتلبسه صباحا ويمسي القميص مسائيا ذو ياقة فحمية وسبب ذالك هو التلوث ,
عندما تسأل حكيم يقول : سببه الطمع
وتسأل التاجر يقول : إنه العرض والطلب
وتسألني أقول : جلدنا تغير
ودمتم