أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > علوم > تاريخ

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 04/06/2008   #1
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي الَحقيقة الغائبة


الَحقيقة الغائبة

مقدمة
قراءة جديدة في أوراق الراشدين
قراءة جديدة في أوراق الأمويين
قراءة جديدة في أوراق العباسيين
وماذا بعد؟!!


مقدمة
هذا حديث سوف ينكره الكثيرون، لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون، فالنفس تأنس لما تهواه، وتتعشق ما استقرت عليه، ويصعب عليها أن تستوعب غيره، حتى لو تبينت أنه الحق، أو توسمت أنه الحقيقة، وأسوأ ما يحدث لقارئ هذا الحديث، أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء، أو متوقعة للتجني، وأسوأ منه موقف الرفض مع سبق الإصرار للتفكير واستعمال العقل.
هذا حديث تاريخ لا يزعم صاحبه أنه متخصص فيه، أو فارس في ميدانه، لكنه يزعم أنه قارئ له في أناة، محلل له في صبر موثق له في دقة، ناقد له في منطق، يهوى أنه يقلبه ذات اليمين وذات الشمال، لا يستطيع أن يمد خياله متجاوزاً الحقيقة بالإضافة أو منتقصاً منها بالإهمال، وما أكثر ما فعل ذلك من لهم تاريخ واسم، وقلم وفكر، ومنهج وبحث، لا يجدون راحتهم إلا حيث يستريح القارئ، ولا يراعون وهم يفعلون ذلك حرمة لتاريخ أو لعقل أو حتى لنقل


هذا حديث ما كان أغناني عنه، لولا أنهم يتنادون بالخلافة، ليس من منطلق الدعابة أو المهاترة أو الهزل، بل من منطلق الجد والجدية والاعتقاد، فسيتدرجون مثلى إلى الخوض فيما يعرف ويعرفون، ويعلم وينكرون، وينكر ويقبلون، ليس من أجلهم، ولا حتى من أجل أجيال الحاضر التي من واجبها أن تعرف وتتعرف، وتعلم وتتعلم، وتفكر وتتكلم، بل قبل ذلك كله من أجل أجيال سوف تأتي في الغد، وسوف تعرف لنا قدرنا وإن أنكرنا المنكرون وسوف تنصفنا وإن أداننا المدينون، وسوف تذكر لنا أننا لم نجبن ولم نقصر، وأننا بقدر ما أفزعنا بقدر ما دفعنا المجتمع للأمام، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما أستقر المجتمع في أيامهم، وبقدر ما واجهنا بقدر ما توجهوا هم إلى المستقبل. هذا حديث تاريخ وسياسة وفكر وليس حديث دين وإيمان وعقيدة، وحديث مسلمين لا حديث إسلام، وهو قبل ذلك حديث قارئ يعيش القرن العشرين وينتمي إليه عن أحداث بعضها يعود إلى الوراء ثلاثة عشر قرناً أو يزيد، ومن هنا يبدو الحديث صعباً على من يعيشون وينتمون لواقع ما قبل ثلاثة عشر قرناً، ويقيمون من خلال معايشتهم وتبنيهم لذلك الواقع أحداث حاضر القرن العشرين، وهو في النهاية حديث قد يخطئ عن غير قصد، وقد يصيب عن عمد، و قد يؤرق عن تعمد، وقد يفتح باباً أغلقناه كثيراً وهو حقائق التاريخ، وقد يحيى عضواً أهملناه كثيراً وهو العقل، وقد يستعمل أداة تجاهلناها كثيراً وهي المنطق، وهو حديث في النهاية موجز أشد ما يكون الإيجاز، لا يهتم بالحدث. في ذاته بقدر ما يعتني بدلالاته ويرى أنه بوفاة الرسول استكمل عهد الإسلام وبدأ عهد المسلمين، وهو عهد قد يقترب من الإسلام كثيراً وقد يلتصق به، وقد يبتعد عنه كثيراً وقد ينفر منه، وهو في كل الأحوال والعهود ليس له من القداسة ما يمنع مفكراً من الاقتراب منه، أو محللاً من تناول وقائعه، وهو أيضاً وبالتأكيد ليس حجة على الإسلام، وإنما حجة للمطالبين بالحكم بالإسلام أو حجة عليهم، وسلاح في أيديهم أو في مواجهتهم، وليس أبلغ من التاريخ حجة، ومن الوقائع سنداً، ومن الأحداث دليلاً، وليس لهم من البداية أن ينكروا علينا ما رجعنا إليه من مصادر وما استندنا إليه من مراجع، فهي ذات المراجع التي يحتجون بها على ما يرون أنه في صالحهم، ومع دعواهم، ولو أهملنا معاً هذه المراجع، لما بقي من تاريخ الإسلام شئ، ولما بقيت في أيديهم حجة، ولما استقر في كتاباتهم دليل، ولما وجدوا لمنطقهم سنداً أو أصلاً أو توثيقاً

لا اله الا الانسان
نشأ الدين عندما التقى أول نصاب بأول غبي
Religion can never reform mankind , because religion is Slavery
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #2
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحاً كل الوضوح، صريحاً كل الصراحة، زاعماً أن الوضوح والصراحة في الموضوع الذي أناقشه استثناء، فقد صبت في المجرى روافد كثيرة، منها رافد الخوف، ومنها رافد المزايدة، ومنها رافد التحسب لكل احتمال، وخلف ذلك كله يلوح سد كبير، يتمثل في الحكمة التي يطلقها المصريون، والتي تدعو إلى (سد) كل باب يأتيك منه الريح، فما بالك إذا أتاك إعصار التكفير، وارتطمت بأذنك اتهامات، أهونها أنك مشكك، وأسئلة أيسرها – هل يصدر هذا من مسلم؟ - وواجهتك قلوب عليها أقفالها، وعقول استراحت لاجتهاد السلف، ووجدت أن الرمي بالحجارة أهون من إعمال العقل بالبحث، وأن القذف بالاتهام أيسر من إجهاد الذهن بالاجتهاد..
هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهرة حديث دين، وأمر سياسة وحكم و إن صوروه لك على أنه أمر عقيدة وإيمان، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء، ويصدقها الأنقياء، ويعتنقها الأتقياء، ويتبعون في سبيلها من يدعون الورع (وهم الأذكياء)، ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء، ويستهدفون الحكم لا الآخرة، والسلطة لا الجنة، والدنيا لا الدين، ويتعسفون في تفسير كلام الله عن غرض في النفوس ويتأولون الأحاديث على هواهم لمرض في القلوب، ويهيمون في كل واد، إن كان تكفيراً فأهلاً، وإن كان تدميراً فسهلا، ولا يثنيهم عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان، أن يخوضوا في دماء إخوانهم في الدين، أو أن يكون معبرهم فوق أشلاء صادقي الإيمان.
لعلك أدركت أيها القارئ أنني أخوض معك في موضوع قريب إلى ذهنك بقدر ما ألح عليه، وما أكثر ما ألح، بل ما أصرح ما ألح، حين ارتفعت ولا تزال ترتفع، في الانتخابات السياسية والنقابية في مصر رايات مضمونها (يا دولة الإسلام عودي، الإسلام هو الحل، إسلامية إسلامية).


وهي رايات لا تدري أهي دين أم سياسة، لكنك تجد مخرجاً في تصور مصدريها أن الدين والسياسة وجهان لعملة واحدة، وأن تلك الأقوال تعبير عاطفي عن شعارات الإخوان المسلمين القديمة، بأن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف... الخ.
وقبل أن تسألني (وهل تنكر ذلك) يجدر بي أن أضعك أمام وجهتي نظر، كل منهما تقبل الاجتهاد، بل وقبل ذلك كله، تقتضي الإجهاد، وأقصد بذلك إجهاد الفكر بحثاً عن حقيقة غائبة.
أما وجهة النظر الأولى، ولا أشك أنها وراء ما ذكرت من دعاوى، فأنها تتمثل في إن المجتمع المصري

مجتمع جاهلي أو بعيد عن صحيح الدين.

وبين مقولة تجهيل المجتمع، ومقولة الابتعاد عن صحيح الدين، تتدرج مواقف القائلين بين التطرف لأصحاب المقولة الأولى، والاعتدال للقائلين بالثانية، لكنهم جميعا متفقون على أن نقطة البدء بالحل تكمن في التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، وأصحاب وجهة النظر هذه يطرحون خلف ظهورهم خلافهم حول رأيهم في المجتمع الحالي، ويستقرون بدعوة تطبيق الشريعة، مؤكدين أن هذا التطبيق (الفوري) سوف يتبعه صلاح (فوري) للمجتمع، وحل (فوري) لمشاكله.
هذا عن وجهة النظر الأولى، أما وجهة النظر الثانية، فلعلي ألمح على وجهك قبل أن أعرضها تساؤلاً مضمونه (وهل هناك وجهة نظر ثانية)، ولعلي أتلمس خلف هذا التساؤل تصوراً بأن وجهة النظر الثانية لابد وأن تتناقض مع ما توصلت إليه وجهة النظر الأولى، وأنها تصبح والأمر كذلك مصطدمة أو متصادمة مع دعوة لتطبيق أصل من أصول العقيدة.
لكني أبادر فأطمئنك بأن وجهة النظر الثانية، لا تناقض الإسلام بل تتصالح معه، ولا تأتي من خارجه بل تخرج من عباءته، ولا تصدر عن مارق بل تصدر عن عاشق لكل قيم الإسلام النبيلة والعظيمة..


إن وجهة النظر الثانية تستند إلى مجموعة من الفروض يمكن عرضها فيما يلي:
أولا: إن المجتمع المصري ليس مجتمعاً جاهلياً، بل هو أحد أقرب المجتمعات إلى صحيح الإسلام إن لم يكن أقربها، حقيقة لا مظهراً، وعقيدة لا تمسكاً بالشكليات، بل أن التمسك الأصيل والشديد بالقيم الدينية يمكن أن يمثل ملمحاً مصرياً.
يصدق هذا على موقف المصريين من العقائد الدينية الفرعونية قبل ظهور الأديان السماوية، بقدر ما يصدق على موقف المصريين من الدين المسيحي قبل دخول الإسلام مصر، بقدر ما يصدق أيضاً بدرجة أوضح من كل ما سبق على موقف المصريين من الإسلام، والشواهد على ذلك كثيرة، بدءاً من تردد المصريين على المساجد وحماسهم، وتنافسهم على مركز الصدارة في عدد الحجاج من بلاد العالم الإسلامي كله، واحتفائهم بالأعياد الدينية، بل وتحول شهر رمضان إلى عيد ديني قومي لا يمكن تبرير الشغف به، والاحتفاء بحلوله، والحسرة على انتهائه إلا بأصالة وعمق الشعور الديني، وانتهاء بما ساهمت مصر في مجال العقيدة والاجتهاد، بدءاً بالليث بن سعد، وفقه الشافعي في مصر، وانتهاء بالأزهر الشريف ودوره كمنارة للفكر الإسلامي.


ثانياً: إن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس هدفاً في حد ذاته، بل إنه وسيلة لغاية لا ينكرها أحد من دعاة التطبيق وأقصد بها إقامة الدولة الإسلامية، وهنا مربط الفرس ومحور النقاش، ودعاة تطبيق الشريعة الإسلامية كما سبق وذكرنا يرفعون شعار أن الإسلام دين ودولة، والشريعة الإسلامية في مفهومهم تمثل حلقة الربط بين مفهوم الإسلام الدين ومفهوم الإسلام الدولة، ليس ربطاً بين مفهومين مختلفين، بل تأكيداً على أنهما وجهان لعملة واحدة – في رأيهم – وهي صحيح الإسلام.

هنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة، هي ساحته الحقيقة، وهي ساحة السياسة، وهنا يطفو على سطح النقاش سؤال بسيط وبديهي، ومضمونه أنهم ما داموا قد رفعوا شعار الدولة الإسلامية وانتشر أنصارهم بين الأحزاب السياسية يدعون لدولة دينية يحكمها الإسلام، فلماذا لا يقدمون إلينا – نحن الرعية – برنامجاً سياسياً للحكم، يتعرضون فيه لقضايا نظام الحكم وأسلوبه، سياسته واقتصاده، مشاكله بدءاً من التعليم وانتهاء بالإسكان، وحلول هذه المشاكل من منظور إسلامي.
أليست هذه نقطة ضعف جوهرية يواجههم بها من يختلفون معهم سواء بحسن نية، وهو ما نظن، أو بسوء نية، وهو ما يعتقدون وما يتعين عليهم سد ذرائعه حتى لا يتركوا لأحد مجالاً لنقد أو رفض.


هنا يبدو الأمر منطقياً لا تناقض فيه، وهنا يصبح رفعهم شعار الدين والدولة معاً أمراً مقبولاً، وهنا يصبح رفضهم لفصل الدين عن السياسة وأمور الحكم رفضاً له من الوجاهة حظ كبير، وله من المنطق سند قوي، بل وأكثر من ذلك تصبح قضية تطبيق الشريعة الإسلامية جزءاً من كل، وهي جزء لا يتناقض مع الكل بحال بل يتناسق معه، ففي مجتمع الكفاية والعدل، حيث يجد الخائف مأمناً، والجائع طعاماً، والمشرد سكناً، والإنسان كرامة، والمفكر حرية، والذمي حقاً كاملاً للمواطنة، يصعب الاعتراض على تطبيق الحدود بحجة القسوة، أو المطالبة بتأجيل تطبيقها بحجة المواءمة، أو عن قبول بارتكاب المعصية اتقاء لفتنة، أو تشبها بعمر في تعطيله لحد السرقة في عام المجاعة، أو لجوءاً للتعزير في مجتمع يعز فيه الشهود العدول
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #3
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


لعلك متفق معي – أيها القارئ – فيما توصلت إليه من أن مسألة كهذه، يحب ألا تفوت على المشتغلين بالعمل السياسي الديني، بل لعلك تتجاوز التعجب إلى الاعتقاد بأن هذا أمر يسير وأنه إلى تدارك، بل ربما اعتقدت عن تفاؤل بأنه أمر سهو، وأن السهو إلى زوال، لكني لا أشاركك تفاؤلك، لسبب يعلمه دعاة تطبيق الشريعة ويعانون منه، وأقصد به عقم الاجتهاد، بل إن شئت الدقة اجتهاد العقم، وخوف الاختلاف، بل إن شئت الدقة خلف الخوف، وطمع الاستسهال، بل إن شئت الدقة استسهال الطمع، وعجز القدرة، بل إن شئت الدقة قدرة العجز.

ليس فيما أقوله بلاغة باللفظ، بل هي حقيقة تستطيع أن تلمس عشرات الأمثلة على صدقها، ودونك أيها القارئ العزيز ما حدث في قوانين الأحوال الشخصية، والتي شهدنا ثلاثة منها في عشر سنوات، أثار الأول منها ثائرة المدافعين عن حقوق المرأة فكان القانون الثاني الذي أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الرجل، فكان الثالث الذي هدأت به ثائرة الثائرين إلى حين، على الرغم من أن قانون الأحوال الشخصية جانب هين من جوانب أي برنامج سياسي، بل أنه أسهل جوانب تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنه لا خلاف عليها أو حولها في كونها المصدر الوحيد للتشريع في هذا المجال، وهي في النهاية قضية يبدو وجهها الديني أكثر وضوحاً من أي وجه آخر.

لكن المشكلة أتت من مواجهة العلماء لعالم جديد، ترتبت فيه للمرأة حقوق لم تترتب في عصر سابق، وأصبح عمل المرأة على سبيل المثال واقعاً لا منـّة أو منحة، وحقاً مكتسباً لا سبيل إلى مناقشته، وطرحت المتغيرات الجديدة في المجتمع من الظروف ما لا سابقة له في عهد مالك أو أبي حنيفة أو الشافعي أو ابن حنبل، فأزمة الإسكان قائمة، بل إن هناك ما لم يعرفه الفقهاء الأربعة حين ناقشوا هذه القضية، من حكم الشقة المستأجرة أو (التمليك)، وهي كلها أمور أوقعت العلماء في حيص (و هو الاختلاف بينهم)، وفي بيص (وهو الخلاف بينهم من ناحية وبين قطاعات كبيرة في المجتمع من ناحية أخرى).

وفي كل حال من الأحوال الثلاث – أقصد القوانين الثلاثة – وجد العلماء ضالتهم في الانتقال من مالك إلى أبي حنيفة، فإن لم يجدوا انتقلوا إلى فتاوى فقهاء أقل حظاً من الشهرة من أمثال سهل بن معاوية، وهم في كل الأحوال لم يتجاوزا القرن الثاني الهجري قيد أنملة، أو إن شئنا الدقة قيد عام.
ماذا سيكون الحال إذا تطرق الأمر إلى مجال الاقتصاد، وشغل دعاة الدولة الإسلامية أنفسهم بقضية زيادة الإنتاج في المجتمع، وفوجئوا بحجم استثمارات القطاع العام التي تتراوح بين ثلاثين إلى خمسين مليار جنية، يعتمد تمويلها على مدخرات المصريين في بنوك القطاع العام. والمدخرات في صورة ودائع، والودائع تستحق فوائد، وآخر اجتهادات القرن الثاني الهجري، والتي لم تعاصر قطاعاً عاماً أو بنوكاً أدخلت العائد الثابت للمدخرات في دائرة الربا، وآخر ما و صل إليه الداعون للدولة الإسلامية هو الركون إلى اجتهادات هؤلاء الفقهاء، وكأنها تنزيل من التنزيل، ماذا سيكون الحال؟..
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #4
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


مأزق إن تجمدوا، وبرنامج سياسي إذا اجتهدوا، ولعل أول الحالين أقرب لتصوير الواقع، فالتصوير أهون من التطوير، والحكم بخروج المجتمع كله من دائرة الإيمان أسهل، والحكم بعدم مشروعية الفوائد أيسر، وتجهيل المجتمع ومؤسساته أضمن، والنحو باللائمة على الزمان أسهل السبل، والترحم على الشاعر العربي وارد حين قال (نعيب زماننا والعيب فينا)، هذا عن هين الأمور، وأقصد به التفصيلات، أما أصعبها وأقصد به الأمور العامة، والمنظمة لأسلوب اختيار الحاكم أو أسلوب الحكم أو العلاقة بين السلطات فإن تناول أي منها هو المحك الحقيقي لدعوة (الدولة الدينية) بعيداً عن سجع الألفاظ وشقشقات البلاغة.

وأنت في طرحك للأسئلة وبحثك عن الإجابات تكتشف أنك في سباق للموانع، ومباراة لاستعراض حجم ضخم من الخلافات التي لم تحسم، ولم يمنع عدم حسمها، نتيجة غياب الاجتهاد المستنير، أن يدعوك البعض إلى خوض التجربة، وأن يتحاشى الجميع الخوض فيها إيثاراً لراحة البال (بالهم هم)، وتجنباً للخلاف (خلافهم هم)، وهم في كل الأحوال في مأمن، إن أعجزتهم الإجابة أفتوا بأنك لا تملك أدوات البحث في القضايا الدينية، وإن أفحمهم المنطق تنادوا بأنك عميل للإمبريالية، أو متأثر بالشيوعية، أو ناطق بلسانهما معاً.

وحتى لا تتحول القضية إلى تراشق فإنني سأحاول معك أن أستعرض بعضاً من تلك الموانع التي أشرت إليها، ولنبدأ بالحاكم، وبديهي أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التي يجب أن تتوافر فيه، وقد تتصور أن الشروط سهلة، وأنها يمكن أن تتمثل في كونه مسلماً عاقلاً رشيداً إلى آخر هذه الأوصاف العامة، لكنك تصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشياً)، وقد تتعجب من أن ينادي البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذي يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذي لا يعطي فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى

الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشي، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته في كتب التاريخ القريب عن الملك فاروق في أول عهده، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين في صورة الملك الصالح، وظهر في الصور بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه، وتسارع بعض رجال الدين (الطموحين) إلى المناداة به ملكاً (وإماماً) للمسلمين، واجتهد الأذكياء منهم في إثبات نسبه للرسول، وتبارى الإعلام في الإعلان عن هذا النسب وتأكيده، تحقيقاً لشرط من شروط الإمامة، وسداً للذرائع على المعترضين.

ولعلك مثلي تماماً لا تستريح لهذا الشرط، الذي يصنف المسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون الحكام، وأصحاب دم أحمر ينتظم الأغلبية، لكنهم يواجهونك بحديث نبوي مضمونه أن الإمامة من قريش، وتتبادر إلى ذهنك في الحال عشرات الأحاديث التي وضعها الوضاعون، والتي و صلوا فيها إلى تسمية الخلفاء العباسيين وتحديد موعد خلافتهم بالسنة واليوم، وهي كلها أحاديث وضعها من لا دين لهم هوى الحكام، ولا ضمير لهم ولا عقيدة، لكنك في نفس الوقت تخشى من اتهامك بالعداء للسنة، خاصة من الذين قصروا دراستهم للأحاديث النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن (أي المعنى والمضمون ومدى توافقه مع النص القرآني).

ولا تجد مهرباً إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة، والذي اجتمع فيه الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيده الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر، ودار حوار طويل بين الطرفين، انتهى بمبايعة أبي بكر، وأنت في استعراضك للحوار، لا تجد ذكراً للحديث النبوي السابق، وهو إن كان حديثاً صحيحاً لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج على ترشيح نفسه، ولكفى أبا بكر وعمر والجراح مؤونة المناظرة، ولما فاتهم أن يذكروه وهو في يدهم سلاح ماض يحسم النقاش، ويكفي أن تعلم أن سعد بن عبادة ظل رافضاً لبيعة أبي بكر إلى أن مات، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضى وهو الصحابي الجليل ذو المواقف غير المنكورة في الإسلام، غير أن لكل ظاهرة سيئة وجهها المفيد، فقد انبرى أصحاب الرأي الآخر، والذين يؤمنون بحق الاكفأ في الحكم دون اعتبار لنسبه إلى ذكر أحاديث مضادة بمنطق"وداوها بالتي كانت هي الداء"، مضمونها أنه لا مانع من أن يحكم المسلمين عبد حبشي أسود (كأن رأسه زبيبة) فأعادوا للمنطق توازنه، وأعطوا لكثير من الطوائف الإسلامية التي نشأت فيما بعد سنداً لرأيهم المعارض لخلافة العباسيين، وإن كانت نتيجة ذلك كله، وضع المانع الأول في مسيرة الدولة الإسلامية، وهو الخلاف الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشياً أم أنه الاكفأ بغض النظر عن نسبه، ولا عبرة هنا بالمنطق أو بواقع الحال، فسيف إنكار الحديث وارد على رقاب كل من الطرفين، في قضية أتصور أنا وأنت أنها هينة سهلة، لا تستحق عناء ولا تقتضي طول بحث، ولا تنتقل منها أو تتجاوزها إلى أسلوب تولية الحاكم حتى تكتشف مانعاً ضخماً يدور حوله الجدل إلى اليوم ولا يقنع المتجادلون فيه بمنطق بسيط وواضح وهو أن القرآن لم يترك قاعدة في هذا الأمر، والرسول لم يعرض لها من قريب أو بعيد وإلا لما حدث الخلاف والشقاق في اجتماع السقيفة، ولما رفض على قبول تولية أبي بكر ومبايعته على اختلاف في الرواية بين رفضه المبايعة أياماً في أضعف الروايات، وشهوراً حتى موت فاطمة في أغلبها، بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح، لاتبعه أبو بكر نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه، وهو أيضاً مرة أخرى ما خالفه عمر في قصر الاختيار بين الستة المعروفين، وهم على وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار على ببيعة بعض الأمصار، ومعاوية بحد السيف، ويزيد بالوراثة .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #5
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


أنت هنا أمام ستة أساليب مختلفة لاختيار الحاكم، يرفض المتزمتون تجاوزها، ويختلفون في تفضيل أحدها على الآخر، ويرى المتفتحون أن دلالتها الوحيدة أنه لا قاعدة، وأن الإسلام السمح العادل، لا يرفض أسلوب الاختيار بالانتخاب المباشر أو غير المباشر، وهو ما لا أظن أنه كان يوماً، حتى يومنا هذا محل اتفاق أو قبول عام من أنصار الدولة الدينية.

ولعلي لا أتحدث من فراغ، بل أصدر عن واقع النظم الإسلامية المعاصرة في عالمنا الحديث، فهناك بيعة أهل الحل والعقد (المختارون) في السعودية مع قصر الترشيح على أفراد الأسرة المالكة، وهناك المبايعة على كتاب مغلق يكتبه الحاكم ويوصى فيه لمن يليه اشتقاقاً من أسلوب اختيار أبي بكر لعمر، في السودان في عهد النميري، وهناك ولاية الفقيه في إيران، وهناك اعتبار الموافقة في الإستفتاء على الشريعة الإسلامية موافقة ضمنية على الحاكم واختياراً له في الباكستان، وهناك في كل الأحوال مانع جديد يضاف إلى ما سبق، وهو أن مدة تولية الحاكم في كل الأحوال السابقة مستمرة مدى حياته، ولا عبرة في ذلك بأن البيعة على أساس الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله، وأن الحاكم يعزل إذا خالف ذلك، فما أكثر ما خالف، دون أن يعزل أو حتى يعترض عليه قديماً كان أو حديثاً، وحديث التاريخ في هذا ذو شجون بل قل ذو جنون، سواء في تطرف الحاكم في خروجه على صحيح العقيدة أو تطرف الرعية في الخنوع لإرادته والخضوع لبطشه، ولعل القارئ يلاحظ أنني قد تشددت في العبارات الأخيرة حتى أستلهم في ذهن دعاة الدولة الدينية رداً منطقياً بأن الشورى مانعة لبطش الحاكم، حافظة لحق الرعية، غير أني آسف إذا ذكرت لهم أن هذا بدوره يقود إلى مانع جديد هو الخلاف حول كنه الشورى، وهل هي ملزمة للحاكم وهو رأي الأقلية أم أنها غير ملزمة له وهو رأي الأغلبية التي تفرق بين كون الحاكم ملزماً بأن يستشير، وبين كونه في نفس الوقت غير ملزم باتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم.

لقد أدرك بعض المخلصين من الدعاة أنهم يواجهون من ظروف المجتمعات الحديثة ما لم يواجهه السلف، وأن الديموقراطية بمعناها الحديث، وهو حكم الشعب بالشعب لا تتناقض مع جوهر الإسلام وأن اجتهادات المؤمنين بالديموقراطية، والتي تمخضت عن أساليب الحكم النيابي، والانتخابات المباشرة، لا يمكن أن تصطدم بجوهر العدل في الدين الإسلامي، وروح الحرية التي تشمل ويشملها، ومن أمثالهم الأستاذ الكبير خالد محمد خالد والعالم الجليل محمد الغزالي، لكنهم واجهوا تياراً كاسحاً من الرفض لما أملاه عليهم اتساع أفقهم، وفهمهم لجوهر العقيدة الأصيل، وانبرى زعماء التيارات الثورية والتقليدية في نقد الآراء وتفنيدها، لا فرق في هذا بين معتدل أو متطرف، ودونك ما نشر على لسان الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ عمر عبد الرحمن وهو في مجمله يرفض مقولة حكم الشعب بدعوى أن الحكم لله، وهو أمر لو أمعنت النظر فيه لما وجدت تناقضاً، لكنهم يحاولون تأصيل منهجهم بافتراضات منها أن الأغلبية قد تقر تشريعاً يعارض شريعة الله، وأن التسليم بحق المجالس النيابية في التشريع سلب لحق إلهي ثابت ومقدس، وهو كونه جل شأنه المشرع الأكبر والوحيد.

وأنها – أي الديموقراطية – قد تعطل النص الشرعي بالرأي الشخصي، وهكذا أيها القارئ لا تنتهي عقبة أو مانع إلا وتظهر عقبة جديدة أو مانع جديد، وهي كلها موانع قد يسعد بها المجتهدون المتفتحون، لأنها تفتح أمامهم باباً واسعاً للرأي وللاجتهاد دون خروج على صحيح الدين، ودون تصادم مع روح العصر، لكنها في الجانب الآخر تفزع من ركنوا إلى اجتهادات السلف أيما فزع، وتضعهم بين شقي الرحى، إن دارت يميناً طحنت برفض العصر، وإن دارت شمالاً طحنت برفض العقل، وإن سكنت أبقتهم حيث هم، يهربون من الأصل إلى الفرع، ويخفون منطقاً أواجههم به، بل إن شئت الدقة أتحداهم به، وهو أن الشريعة وحدها لا تستقيم وجوداً أو تطبيقاً إلا في مجتمع إسلامي أو بمعنى أدق دولة دينية إسلامية، وأن هذه الدولة والجزئيات، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به، وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رؤوسنا، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، التي تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسلامية، نتخبط فيها ذات اليمين وذات اليسار، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير، وليحدث لنا ما يحدث، وليحدث للإسلام ما يحدث، وما علينا إلا أن نمد أجسادنا لكي يسيروا عليها خيلاء، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر، وأن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #6
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ثالثا: إنه من المناسب أن أناقش معك أيها القارئ مقولة ذكرتها لك ضمن وجهة نظر الداعين للتطبيق الفوري للشريعة، وهي قولهم بأن التطبيق (الفوري) للشريعة، سوف يتبعه صلاح (فوري) لمشاكله، وسوف أثبت لك أن صلاح المجتمع أو حل مشاكله ليس رهناً بالحاكم المسلم الصالح، وليس أيضاً رهناً بتمسك المسلمين جميعاً بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها، وليس أيضاً رهناً بتطبيق الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً، بل هو رهن بأمور أخرى أذكرها لك في حينها، دليلي في ذلك المنطق وحجتي في ذلك وقائع التاريخ، وليس كالمنطق دليل، وليس كالتاريخ حجة، وحجة التاريخ لدى مستقاة من أزهى عصور الإسلام عقيدة وإيماناً، وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين.

أنت أمام ثلاثين عاماً هجرياً (بالتحديد تسعة وعشرون عاماً وخمسة أشهر) هي كل عمر الخلافة الراشدة، بدأت بخلافة أبي بكر (سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام) ثم خلافة عمر (عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة عثمان (إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة علي (أربع سنين وسبعة أشهر).


وتستطيع أن تذكر بقدر كبير من اليقين أن خلافة أبي بكر قد انصرفت خلال العامين والثلاثة أشهر إلى الحرب بين جيشه وبين المرتدين في الجزيرة العربية، وأن خلافة علي قد انصرفت خلال الأربعة أعوام والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه في ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه في ناحية أخرى، بدءاً من عائشة وطلحة والزبير في موقعة الجمل، وانتهاء بجيش معاوية في معركة صفين ومروراً بعشرات الحروب مع الخوارج عليه من جيشه، وأنه في العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء قواعدها .

أضف إلى ذلك قصر عهد الخلافتين، حيث لم يتجاوز مجموع سنواتهما ست سنوات وعشرة أشهر، ويبقى أمامك عهد عمر وعهد عثمان، حيث يمكن أن تتعرف فيهما على الإسلام الدولة في أزهى عصور الإسلام إسلاماً، وأحد العهدين عشر سنين ونصف (عهد عمر)، والثاني حوالي أثنى عشر عاماً (عهد عثمان)، وهي فترة كافية لكل من العهدين لكي يقدم نموذجاً للإسلام الدولة كما يجب أن تكون، فعمر وعثمان من أقرب الصحابة إلى قلب الرسول وفهمه، والاثنان مبشران بالجنة، وللأول منهما وهو عمر مواقف مشهودة في نصرة الإسلام وإعلاء شانه، وهي مواقف لا تشهد بها كتب التاريخ فقط، بل يشهد بها القرآن نفسه، حين تنزلت بعض آياته تأييداً لرأيه، وهو شرف لا يدانيه شرف، وللثاني منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير وجود، ويكفيه فخراً أنه زوج ابنتي الرسول، هذا عن الحاكم في كل من العهدين.

أما عن المحكومين، فهم صحابة الرسول وأهله وعشيرته لا تحدث واقعة إلا تمثل أمامهم للرسول فيها موقف أو حديث ولا يمرون بمكان إلا وتداعت إلى خيالهم ذكرى حدث به أو قول فيه ولا تغمض أعينهم أمام المنبر إلا وتمثلوا الرسول عليه قائماً ولا يتراصون للصلاة خلف الخليفة إلا وتذكروا الرسول أمامهم إماماً، وهم في قراءتهم للقرآن يعلمون متى نزلت الآية، وأين، ولماذا إن كان هناك سبب للتنزيل، وباختصار يعيشون في ظل النبوة ويتأسون بالرسول عن قرب وحب، هذا عن المحكومين، ولا يبقى إلا الشريعة الإسلامية وهي ما لا يشك أحد في تطبيقها في كل من العهدين .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #7
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


بل أنك لا تتزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك، كان أزهى عصور تطبيقها لأنها لزوم ما يلزم في ضوء ما سبق أن ذكرنا بشأن الحاكم والمحكوم، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئاً وعهد عثمان شيئاً آخر فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها، فسعد المسلمون به، وصلح حال الدولة على يديه، وترك لمن يليه منهجاً لا يختلف أحد حوله، ولا نتمثل صلاح الحكم وهيبة الحاكم إلا إذ استشهدنا به، بينما قاد عثمان المسلمين إلى الاختلاف عليه، ودفع أهل الحل والعقد إلى الإجماع على الخلاص منه، إما عزلاً في رأي أهل الحجى، أو قتلاً في رأي أهل الضراب، واهتزت هيبته في نظر الرعية إلى الحد الذي دفع البعض إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين أو حصبه على المنبر، أو التصغير من شأنه بمناداته (يا نعثل) نسبة إلى مسيحي من أهل المدينة كان يسمى نعثلاً وكان عظيم اللحية كعثمان، أو الاعتراض عليه من كبار الصحابة بما يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة، ووصل الأمر إلى الدعوة الصريحة لقتله، حيث يروي عن عائشة قولها: اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً، وهي كلها أمور لا تترك لك مجالاً للشك فيما وصل إليه أمر الخليفة قبل رعيته، وما وصل إليه أمر الرعية قبل الخليفة.

وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين، إلا أن عمر قد قـُتل على يد غلام من أصل مجوسي، وترك قتله غصة في نفوس المسلمين، وأثار في نفوسهم جميعاً الروع والهلع لفقد عظيم الأمة، ورجلها الذي لا يعوض، بينما على العكس من ذلك تماماً، ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وقد تتصور أن قتلة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم، وانتهت عداوتهم له بموته، لكن كتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة ليس لها نظير سابق أو لاحق، وإن كانت لها دلالة لا تخفى على أريب:
فالطبري يذكر في كتابه تاريخ الأمم والملوك الجزء الثالث ص 439:
(لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة"حكيم ابن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة"فلما وضع ليصلي عليه جاء نفر من الأنصار يمنعوهم الصلاة عليه فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني ومنعوهم أن يدفن بالبقيع فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته فقالوا لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً فدفنوه في حش كوكب (مقابر اليهود) فلما ملكت بنى أمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع)


وفي رواية ثانية (أقبل عمير بن ضابئ، وعثمان موضوع على باب فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه)، وفي رواية ثالثة أنهم دفنوه في حش كوكب حين رماه المسلمون بالحجارة فاحتمى حاملوه بجدار دفنوه فوقع دفنه في حش كوكب .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #8
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


هذا خليفة المسلمين الثالث، يقتله المسلمون، لا يستطيع أهله دفنه ليلتين ويدفنوه في الثالثة، يرفض المسلمون الصلاة عليه، بقسم البعض ألا يدفن في مقابر المسلمين أبداً، يحصب جثمانه بالحجارة، يعتدي مسلم على جثمانه فيكسر ضلعاً من أضلاعه، ثم يدفن في النهاية في مقابر اليهود.

أي غضب هذا الذي يلاحق الحاكم حتى وهو جسد مسجى، وينتقم منه وهو جثة هامدة، ولا يراعي تاريخه في السبق في الإسلام والذود عنه، ولا عمره الذي بلغ السادسة و الثمانين، ويتجاهل كونه مبشراً بالجنة وزوجاً لابنتي الرسول، ويرفض حتى الصلاة عليه أو دفنه في مقابر المسلمين شأنه شأن أفقرهم أو أعصاهم. هو غضب لا شك عظيم، وخطب لا ريب جليل، وحادث لا تجد أبلغ منه تعبيراً عن رأي المسلمين في حاكمهم، وأمر لا يؤثر في الإسلام من قريب أو بعيد، فعثمان رضي الله عنه ليس ركناً من أركان الإسلام، وإنما هو بشر يخطئ ويصيب، وحاكم ليس له من الحصانة أو القدسية ما يرفعه عن غيره من المسلمين، لكنك لا تملك إلا أن تتساءل معي وأن تجيب.

* ألم يكن عثمان وقت اختياره واحداً من خيار المسلمين، مبشراً بالجنة وأحد ستة هم أهل الحل والعقد، وأحد اثنين لم يختلف المسلمون على أن الخلافة لن تخرج عنهما وهما عثمان وعلي؟
والإجابة (بلــــى)


* ألم يكن المسلمون في أعلى درجات تمسكهم بالعقيدة، وأقرب ما يكونون إلى مصدرها الأول وهو القرآن ومصدرها الثاني وهو السنة، بل كان أغلبهم أصحاباً للرسول وناقلين عنه ما وصلنا من حديث وأحداث؟
والإجابة (بلــــى)


* ألم تكن الشريعة الإسلامية مطبقة في عهد عثمان رضي الله عنه؟
والإجابة (بلــــى)


* هل ترتب على ما سبق (حاكم صالح ومسلمون عدول وشريعة إسلامية مطبقة) أن صلح حال الرعية؟، و حسن حال الحكم؟ وتحقق العدل؟ وساد الأمن و الأمان؟
والإجابة (لا).


وهنا نصل سوياً إلى مجموعة من النتائج نستعرضها معاً عسى أن تحل لنا معضلة التفسير وأن تجيب معنا على السؤال الحائر و موجزه لفظ (لماذا).

النتيجة الأولى:
أن العدل لا يتحقق بصلاح الحاكم، ولا يسود لا بصلاح الرعية، ولا يتأتى بتطبيق الشريعة، وإنما يتحقق بوجود ما يمكن أن نسميه (نظام حكم)، وأقصد به الضوابط التي تحاسب الحاكم إن أخطأ، وتمنعه إن تجاوز، وتعزله إن خرج على صالح الجماعة أو أساء لمصالحها، وقد تكون هذه الضوابط داخلية، تنبع من ضمير الحاكم ووجدانه، كما حدث في عهد عمر، وهذا نادر الحدوث، لكن ذلك ليس قاعدة ولا يجوز الركون إليه، والأصح أن تكون مقننة ومنظمة .


فقد واجه قادة المسلمين عثمان بخروجه على قواعد العدل بل وأحياناً بخروجه عل صحيح جوهر الإسلام، فلم يغير من سياسته شيئاً، وبحثوا فيما لديهم من سوابق حكم فلم تسعفهم سابقة، ومن قواعد لتسيير أمور الدولة فلم يجدوا قاعدة، وأشتد عليهم الأمر فحاصروه وطلبوا منه أن يعتزل، ولأن قاعدة ما في الأمر لم تكن موجودة، فقد أجابهم بقوله الشهير والله لا أنزع ثوباً سربلنيه الله (أي ألبسنيه الله)، وحين اقترب الأمر من نهايته، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من ملاقاة حتفه على يد رعيته، أرسلوا إليه عرضاً فيه من المنطق الكثير ومن الصواب ما لا يختلف عليه
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #9
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


فقد خيروه بين ثلاث:
- إما الإقادة منه (أي أن يعاقب على أخطائه شأنه شأن أي مسلم يخطئ) ويستمر بعدها خليفة بعد إدراكه أنه لا خطأ دون عقاب.


- وإما أن يتبرأ من الإمارة (أي أن يعتزل الخلافة بإرادته).

- وإما أن يرسلوا الأجناد وأهل المدينة لكي يتبرأوا من طاعته (أي أن يعتزل الخلافة بإرادة الرعية) .

فكان رده كما ورد في رسالته الأخيرة كما انتسخها بن سهيل (وهم يخيرونني إحدى ثلاث إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ صواباً غير متروك منه شئ، وإما أعتزل الأمر فيؤمرون آخر غيري وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرأون من الذي جعل الله سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة فقلت لهم أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقدمن أحد منهم وقد علمت إنما يريدون نفسي وأما أن أتبرأ من الإمارة فإن يكلبوني أحب إلى من أن أتبرأ من عمل الله عز وجل وخلافته وإما قولكم يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرأون من طاعتي فلست عليكم بوكيل ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة ولكن أتوها طائعين).

هنا يوضح عثمان بصراحة أن مراجعة الخليفة على الخطأ لم تكن واردة فيمن سبقه من الخلفاء (أبو بكر وعمر) أو على الأقل ليس لها قاعدة، وهنا أيضاً يعلن بلا مواربة أنه مُصر على تمسكه بالحكم حتى النهاية وأن اعتزاله غير وارد، وهنا أيضاً يواجه الدعوة إلى سحب البيعة بمنطق غريب مضمونه، وهل كنت أكرهتكم حين بايعتم؟ وكأن البيعة أبدية ولا مجال لسحبها أو النكوص عنها.

لا قاعدة إذن ولا نظام للرقابة، والأمر كله موكول لضمير الحاكم إن عدل وزهد كان عمر، وإن لم يعدل ويمسك بالحكم كان عثمان.
لقد أعلن عثمان أن نظام الحكم الإسلامي (من وجهة نظره) يستند إلى القواعد الآتية:
- خلافة مؤبدة
- لا مراجعة للحاكم ولا حساب أو عقاب أن أخطأ.
- لا يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة، تعتبر مبايعة أبدية لا يجوز لأصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طالبوا المبايع بالاعتزال.


ولأن أحدا لا يقر ولا يتصور أن تكون هذه هي مبادئ الحكم في الإسلام، قتله المسلمون، لكن السؤال يظل حائراً، ومضمونه، هل هناك قاعدة بديلة؟
أو نظام حكم واضح المعالم في الإسلام؟
هل هناك قاعدة في القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم، وتضع ميقاتاً لتجديد البيعة، وتحدد أسلوباً لعزل الحاكم بواسطة الرعية، وتثبت للرعية حقها في سحب البيعة كما تثبت لها حقها في إعلانها، وتعطي المحكومين الحق في حساب الحاكم وعقابه على أخطائه، وتنظم ممارستهم لهذا الحق؟
أعتقد أن السؤال كان حائراً ولا يزال، بل إن السؤال نفسه قد اختفى بعد عهد الخلفاء الراشدين، وحرص المزايدون والمتزيدون في عصرنا على إخفائه، تجنباً للحرج، وتلافياً للخلاف، ونأياً بأنفسهم عن الاجتهاد وهو أمر بالنسبة لهم عسير، ربما عن قعود، وربما عن جمود، وربما عن عجز.
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #10
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


النتيجة الثانية:
إن تطبيق الشريعة الإسلامية وحده ليس هو جوهر الإسلام، فقد طبقت وحدث ما حدث، وأخطر من تطبيقها بكثير وضع قواعد الحكم العادل المتسق مع روح الإسلام، فقد رأينا أن الشريعة كانت مطبقة، وأن الحاكم كان صالحاً، وإن الرعية كانت مؤمنة، وحدث ما حدث، لغياب ما غاب، وأظنه لا يزال غائباً.


ولعل ما حدث في السودان خير دليل على مغبة البدء بالوجه العقابي للإسلام، وهو ما حدث حين أعلن الحاكم عن تطبيق الشريعة الإسلامية وبدأ في إقامة الحدود في مجتمع مهدد بالمجاعة، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبح أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية بعد تلك التجربة أقل بكثير من أنصارها قبل التطبيق، فالبدء يكون بالأصل وليس بالفرع، وبالجوهر وليس بالمظهر، وبالعدل قبل العقاب، وبالأمن قبل القصاص وبالأمان قبل الخوف، وبالشبع قبل القطع.



النتيجة الثالثة:
إنك إن انتقلت من عهد عثمان إلى عهدنا الحاضر، لا تجد شيئاً قد اختلف أو استجد سواء بالنسبة لحل مشاكل المجتمع، أو بالنسبة لمواجهة السلطة إن انحرفت، من خلال منظور إسلامي، ودونك ربطهم بين تطبيق الشريعة وحل مشاكل المجتمع، واسألني وأسأل نفسك.
* كيف ترتفع الأجور وتنخفض الأسعار إذا طبقت الشريعة الإسلامية؟
* كيف تحل مشكلة الإسكان المعقدة بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية؟
* كيف تحل مشكلة الديون الخارجية بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية؟
* كيف يتحول القطاع العام إلى قطاع منتج بما يتناسب وحجم استثماراته في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية؟


هذه مجرد عينات من الأسئلة، على الداعين للتطبيق الفوري (للشريعة) والمدعين أنها سوف يترتب عليها حل (فوري) لمشاكل المجتمع أن يجيبوا عليها، وهم إن حالوا الإجابة وجدوا أنفسهم أمام المأزق الذي يدور هذا الحوار حوله، وهو وضع برنامج سياسي متكامل، بل إن تفرغهم للإبداع (النقلى) من اجتهادات القرن الثاني الهجري يمكن أن يقودهم إلى تعقيد المشاكل بدلاً من حلها، فالنظرة الضيقة إلى مفهوم الربا إن طبقت في عالم اليوم، سوف تقود إلى ارتباك هائل في سوق المال وسوف تلجئ إلى تحايل نرى ملامحه في تجربة البنوك الإسلامية، وربما أدت إلى الخراب بدلاً من التنمية، والكساد بديلاً عن الرواج.

وقبل أن تفغر فاك مندهشاً أو ترفع يدك معترضاً دعني أذكر لك أن الشريعة لا تقود إلى ذلك، بل إنه اجتهاد القرن الثاني الهجري هو الذي يقود إذا طبق في عالم تغيرت معالمه تغيرت معالمه، وتبدلت أحواله، وعرف أنماطاً من التعامل لم يعرفها السلف، وطرأت فيه من المتغيرات ما لا يقصر الاستدانة على الحاجة، أو الادخار على مفهوم إقراض الغير، وعرف التضخم الذي يترتب عليه خفض القوة الشرائية للنقود، إلى غير ذلك مما لا يسعه حصر ولم يشمله اجتهاد بعد، اللهم إلا اجتهاد في مناخ غير المناخ، ولعصر غير العصر.

هذا عن الربا، فماذا عن الأجور والأسعار والإسكان، هل هناك علاقة بين هذه الظواهر أو المشاكل وبين تطبيق الشريعة، المؤكد أنهلا علاقة ولا ارتباط، لكن الارتباط قائم ومؤكد إن كان الحديث عن برنامج سياسي ينتظم مفردات المجتمع بما فيه الشريعة في منظومة لا تتناقض مع الإسلام ولا تتصادم مع متغيرات الواقع.

  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #11
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


النتيجة الرابعة:
إننا يجب أن نفرق بين الهروب والمواجهة، وبين النكوص والإقدام، وبين المظهرية والجوهر، فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية و حلق الشارب، والإسلام لن يتحدى العصر بإمكانيات التقدم بمجرد أن يلبس شبابنا الزي الباكستاني، ومصر لن يتألق وجهها الإسلامي الحضاري بمجرد أن يتنادى الشباب بغير أسمائهم فيدعو الواحد منهم الآخر باسم (خزعل) ويرد عليه الآخر التحية بأحسن منها فيدعوه (عنبسة).


واللحاق بركب التقدم العلمي لن يحدث بمجرد استخدام السواك بديلاً عن فرشاة الأسنان أو تكحيل العينين أو استعمال اليد في الطعام أو الاهتمام بالقضايا التافهة مثل نظرية (حبس الظل) في شأن التماثيل أو الصور أو إضاعة الوقت في الخلاف حول طريقة دخول المرحاض وهل تكون بالقدم اليمنى أم اليسرى، وميقات ظهور المهدى المنتظر، ومكان ظهور المسيخ الدجال، فكل هذه قشور، والغريب أنها تشغل أذهان الشباب وبعض الدعاة بأكثر مما يشغلهم جوهر الدين وحقيقته.

وهو جوهر لا يتناقض مع التقدم بحال، وهي حقيقة لا تتوقف أمام هذه الأمور الصغيرة، ولعلي أعترف لك أيها القارئ أنني حزين أشد الحزن، ومكلوم حقيقة لا مجازاً، وأنا أشهد شبابنا وقد امتلأ رأسه بهذه الأمور التافهة، وأشهد قادته من أصحاب الطموح، ومدعى إحياء الإسلام، وهم يرسخون فيه هذه الأسس، بل ويتجاوزون ذلك إلى دعوته لترك العلوم (الوضعية) أو الأعمال (العلمانية) والتفرغ للعبادة.

هل هذا هو وجه الإسلام الحقيقي، وهل هذا هو ما سنواجه به القرن الحادي والعشرين، وهل هؤلاء الذين يسيئون قيادة أنفسهم وأتباعهم هم الصالحون لقيادة المجتمع، وهل أقبل منهم أو تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية وهم لا يتمسكون من الدين إلا بالقشور، ولا يعرفون من العقيدة إلا مظهرها الذي لا أصل له في كتاب الله، ولا سند له إلا التأسي بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيلاً عن المجتمع الذي نعيشه، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة، ويستنكر قتل المسلم للمسلم، ويدعو لطلب العلم ولو في الصين، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة، ويعدل في قسمته بين الدين والدنيا، ويعلن حكمته الخالدة للأجيال التالية له، ومضمونها أنهم أعلم بشئون دنياهم.

هؤلاء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرهاً بكره، ولفظوه فحق له أن يلفظهم، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن، وخرجوا عليه فحق له أن يعاملهم بما اختاروه لأنفسهم، معاملة الخارجين على الشريعة والقانون، ووضعوا أنفسهم في موضع الأوصياء على الجميع، وهم أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليهم، وهم من قبل ومن بعد، أساءوا للإسلام ذاته حين ادعوا عليه ما ليس فيه وأظهروا منه ما ينفر القلوب، وأعلنوا باسمه ما يسئ إليه، وأدانوه بالتعصب وهو دين السماحة، واتهموه بالجمود وهو دين التطور، ووصموه بالانغلاق وهو دين التفتح على العلم و العالم، وعكسوا من أمراضهم النفسية عليه ما يرفضه كدين، وما نرفضه كمسلمين.

هو الهروب لأنه أسهل من المواجهة، وهو النكوص لأنه أهون من الإقدام، وهي المظهرية لأنها أيسر من إدراك الجوهر، وهم في مزايدتهم على المظاهر يغالون في المطالبة بالشريعة، وهي مطالبة تتسق مع ما درجوا عليه واتسق تفكيرهم معه، فتطبيق الشريعة في مجتمعنا الحالي، على ما تركه السلف دون اجتهاد ومراجعة، إنما تمثل مظهراً لا غناء فيه، وظاهراً من الأمر لا جوهر له، ومجرد إطار شكلي لا مضمون داخله، أما الجوهر والإطار والمضمون فهو ما أشرت إليه من قواعد تنظم المجتمع على أساس لا تتناقض مع جوهر الدين في شئ، ولا تصطدم مع معطيات العصر في إطارها العام، وهو مطلب بالنسبة لهم عسير، فهم مطالبون أولاً أن يروا العصر على حقيقته قبل أن ينظروا له، وأن يعيشوه قبل أن يبرمجوه، وأن يتفاعلوا معه قبل أن يخططوا مستقبله، وهم في النهاية سحابة صيف لا أشك أنها إلى زوال، وغيم داكن لا أحسب إلا أنه إلى انقشاع .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #12
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


رابعا: إن أصحاب وجهة النظر الأولى، وأقصد بهم الداعين إلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، يضمرون عداء لا حد له للديموقراطية، إما عن قصد نتيجة عدم إيمانهم بها كما أسلفت، وإما عن حسن نية من الكثيرين الذين يدفعهم حماسهم للشريعة إلى المطالبة بإقرارها بعرضها على مجلس الشعب، دون أن تناقش على نطاق شعبي واسع، مع تلويحهم بسيف الخروج عن الدين لأعضاء المجلس، إن هم رفضوا أو تأنوا أو ترددوا ويتجاوز البعض فيحالون القفز فوق المجلس، متوجهين مباشرة إلى رئيس الجمهورية، ومطالبين له بوضعها – هكذا – موضع التنفيذ الفوري الناجز.

ولأن الأمر كما أوضحت ليس أمر شريعة بل أمر اختيار بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وهو اختيار كما شرحت من قبل، بين بديل واضح ومطبق وهو الدولة المدنية، وبديل آخر لم يجهد أصحابه أذهانهم في بلورته وتوضيحه وهو الدولة الدينية، فأنه من الصعب والأمر كذلك أن يقضى بشأن هذا الأمر في جلسة أو اثنتين، أو في أسبوع أو اثنين، بل إنني أتصور سبيلاً آخر لطرح هذا الأمر ومناقشته، وهو سبيل أرى أنه الأوفق والأصح، ليس فقط من وجهة نظري، بل إنه لزوم ما يلزم بالنسبة لأمر هذا شأنه، وتلك طبيعته، ولعلي قبل أن أعرض تصوري في هذا الشأن، أتسمع رأي المعارضين لقولي جملة وتفصيلاً، وكأني بهم يقولون، ها هو يلتوي بالكلم، وينكر علينا حقاً يرضاه للآخرين ويطلبه لنفسه، ويتصور الديموقراطية وفقاً على آرائه ونظرائه، ولا يلتزم بالدستور الذي أقر أن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للقوانين، ولا يلزم نفسه بإرادة الأمة التي أنشأت هذا التعديل، وتمثلت في استفتاء شعبي أعطى التأييد الكامل له، وهي كلها آراء جديرة بالبحث والمناقشة، وتستحق بالفعل كثيراً من التوقف والتأمل.

أما عن الدستور فلا أحسب أنه قد جاء بجديد، فأغلب القوانين القائمة مستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية، مما يجعل منها المصدر الرئيسي للتشريع في مصر، مع ملاحظة أرى أن إبداءها واجب، وتتلخص في أن الدستور ليس كتاباً مقدساً، وأنه يحق لأي مواطن أن يختلف مع بنوده أو أن يعترض عليها، وله أيضاً أن يطالب بتعديلها، على أن يسلك في هذا السبيل ما نظمه الدستور نفسه من سبل لتعديل مواده أو إلغائها أو الإضافة إليها، بل أن أصحاب وجهة النظر الأولى يعترضون على الكثير من نصوص الدستور، مثل النص على تعدد الأحزاب الأمر الذي يختلف عن اعتقادهم في قصرها على حزبين هما حزب الله وحزب الشيطان، بل ويتجاوز أغلبهم تلك الجزئية إلى الاعتراض على ما يتعلق بنظام الحكم في الدستور جملة وتفصيلاً.

ما بالهم إذن يلقون الحجة وهي مردودة إليهم، ويطلقون الرأي وهو مأخوذ عليهم، ويستندون للدستور وهو غير مقبول منهم..
وقريب من ذلك احتكامهم إلى الإستفتاء دليلاً على التأييد الشعبي ورفضهم الاعتراف بشرعية جميع الاستفتاءات التي حدثت منذ اختلفت معهم الثورة وحتى الآن، عدا استفتاء واحد صادف هوى في نفوسهم، ومس من قلوبهم الشغاف، وحلق بهم في أحلام وردية وامتشقوه سلاحاً يخرسون به الألسنة، ويذودون به عن أوهامهم حيناً وأحلامهم أحياناً.


هو الهوى حين يتسلط، والغرض حين يستبد، والمنطق حين يهرب، والعقل حين تغشاه العاطفة، والحجة حين يشوبها الضعف والكلام حين يحتوى خبيئاً، معناه ليست لنا عقول.
ليس الدستور إذن هو السند، و ليس الاستفتاء هو الحجة، وإنما سبيلهم الوحيد كما أتصور، أن يفعلوا ما فعله الآخرون، وهو أن يتقدموا إلى الشعب ببرنامجهم السياسي، وأن يشكلوا حزبهم أو أحزابهم، فإن حازوا الأغلبية في انتخابات حرة فقد ألزمونا بالحجة الدامغة، وأخرسونا بالفعل السديد، و قد اخترت لفظ (أخرسونا) عن قصد لاعتقادي أنه سوف يكون واقعاً لا مراء فيه، ففاقد الديموقراطية لا يعطيها، لكنه إن توصل للحكم بإرادة الشعب كان له ما أراد.
هنا قد يحتج القارئ بأن القوانين الحالية لا تتيح لهم تشكيل أحزاب على أساس العقيدة الدينية، وهو نص قانوني له وجاهته، لكون الأحزاب السياسية منبراً لكل المصريين مهما اختلفت عقائدهم، لكني أحسب أن المناخ الرديء قد تجاوز ذلك وأن الإخوان المسلمين على سبيل المثال يملكون حزباً، ومكتب إرشاد، وصحفاً ومجلات حزبية وغير حزبية تدافع عنهم وتتبنى آراءهم بل ووصل الأمر إلى تواجد ممثلين لهم في المجلس النيابي بعد تحالف الوفد والإخوان المسلمين، ذلك التحالف الذي يشبهه بعض الظرفاء بزواج المتعة الذي تعترف به بعض طوائف الشيعة وتنكره طوائف السنة.


هم موجودون إذن، وهم توصلوا بالشرعية إلى تواجد شرعي، وإنكار تواجدهم إخفاء للرؤوس في الرمال، والسماح لهم ولغيرهم من التيارات السياسية الدينية بتشكيل أحزابهم له من المزايا ما لا يستهان به، فسوف يلزمون بوضع برامج سياسية، وسوف يدور الحوار معهم على أرض الواقع السياسي، وسوف يكون حوار دنيا لا حوار دين وسوف يكون هدفهم كراسي الحكم لا قصور الجنة، وسوف يحجم أئمة المساجد عن المزايدة على مقولاتهم لدخولهم آنذاك في دائرة العمل السياسي الصريح.

وسوف تتحول الأحزاب السياسية إلى معارضتهم بدلاً من المزايدة عليهم، وسوف يختلفون فيما بينهم بأكثر من اختلافهم مع الآخرين، وسوف يواجهون بعضهم البعض بأكثر مما يواجهون الآخرين، وسوف يتحاورون في ساحة ليست ساحتهم، ويتكلمون لغة تصعب عليهم مفرادتها ناهيك عن قواعدها، وفي كل هذا رحمة من الله أي رحمة، ولطف بالوطن أي لطف، ولا حجة هنا للقائلين بأن ذلك سوف يدعو إلى إنشاء أحزاب دينية قبطية، وأنه سوف يمزق الوطن طائفياً، فدرس التاريخ ينبئنا بأن ذلك غير وارد، وإن ورد فلا تأثير له، وغير بعيد عن الأذهان حزب أخنوخ فانوس، الذي تكون وقضى دون أن يزيد عدد أفراده على الآحاد، وغير بعيد تجربة الوفد حين استوعب الأغلبية الساحقة من أقباط مصر، الذين تحتويهم دائماً راية العلمانية، وتستهويهم شعاراتها، وهو أمر ما زالت أسبابه قائمة، وحديث ذلك يطول، وهو في مجمله حديث يهون من أسباب التخوف ولا يدعمها، ويؤكد ما أدعو إليه ولا ينفيه.

هذه هي وجهة النظر الثانية أيها القارئ، أفضت فيها لكثرة ما أفاض أصحاب وجهة النظر الأولى في عرض آرائهم وتزيينها، وأحسب بعد ذلك أنك إلى اختيار، وأن التفكير الهادئ سوف يقودك إلى قرار، بل إنني أحسب أنك توصلت بعد ما سبق إلى مجرد التردد فسوف أحمد الله، ولعلك أدركت معي أنهم قد اختاروا الطريق السهل، وأن اتباعهم إلى ما لا تعلم وما لا يعلمون أمر جلل، وأن يجتهدوا قبل أن يجهدوا الآخرين بحلم لا غناء فيه، وأن يفكروا قبل أن يكفروا، وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل لا بالهجرة، وأن يقتصدوا في دعوى الجاهلية حتى لا تقترن بالجهل، وأن يعلموا أن الإسلام أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم. وهي أنهم ليسوا وحدهم.. جماعة المسلمين
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #13
شب و شيخ الشباب souriana
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ souriana
souriana is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
.........؟؟؟؟؟.........
مشاركات:
2,970

إرسال خطاب MSN إلى souriana إرسال خطاب Yahoo إلى souriana بعات رسالي عبر Skype™ ل  souriana
افتراضي


بس ياريت مصدر هالحكي لانو هاد تاريخ مو بسطة اخوية

الإصلاح يبدأ و ينطلق من حاجاتنا الداخلية فقط و
نرفض أي إصلاح يفرض من الخارج تحت أي عنوان أو مبرر وإن لم نكن ندعي المثالية و الكمال

الدكتور بشار الأسد

لك رووووووووووووووووووووووووووح القلب داعيلك


تفووووووووو على الطائفية . يحيا الانتماء الوطني
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #14
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : souriana عرض المشاركة
بس ياريت مصدر هالحكي لانو هاد تاريخ مو بسطة اخوية
يبدو انك من الاعضاء المواظبين على التواجد في بسطة اخوية , و يبدو انك ضللت الطريق !!!
انا اعلم اني في قسم التاريخ ولست بحاجة لملاحظتك و موضوعي لم ينته فارجو عدم ازعاجي قبل نهاية كتابتي للموضوع , و ردا على سؤالك الكتاب اسمه الحقيقة الغائبة و الكاتب هو الشهيد فرج فودة
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #15
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


قراءة جديدة في أوراق الراشدين


للقارئ أن يحزن ومن حقه أن يتعجب، وهو يستعرض معنا ما عرضناه في الفصل الأول حول مصرع عثمان، أما الحزن فأسبابه مفهومة، وأما التعجب فأبوابه كثيرة، إن سددت منها باباً وحسبت أنك استرحت، انفتحت عليك أبواب، وأثـقلتك هموم، وحسبك أنك إن أدنت لا تدري من تدين، فأنت إن أدنت الثائرين لا تملك أن تبرئ عثمان، وأنت إن أدنت عثمان لا تملك أن تبرئ الثائرين، وأنت إن أدنت الثائرين لا تملك إلا أن تتعاطف معهم في نوازعهم، وأنت إن أدنت عثمان لا تملك إلا أن تتعاطف معه في مصرعه، ولعلك بحكم العاطفة الدينية أقرب إلى إنصاف عثمان، وإلى تلمس الأعذار له، لكنك تصطدم في سبيلك هذا بأقوال كبار الصحابة وأفعالهم ودعوة بعضهم الصريحة إلى حمل السيف والخروج عليه، فهذا عبد الرحمن بن عوف يقول لعلي:
إن شئت أخذت سيفك وأخذ سيفي، فقد خالف ما أعطاني ثم يقول لبعض في المرض الذي مات فيه:
عالجوه قبل أن يطغي ملكه وهذا طلحة في المرض يؤلب الثائرين حتى لا يجد علي مفراً من أن يفتح بيت المال، ويوزع من أمواله عليهم حتى يتفرقوا، ويقره عثمان على ما فعل، ولن تمر شهور حتى يقتل عثمان، وحتى يخرج طلحة نفسه مطالباً بالثأر له في جيش عائشة، وحتى يصاب بسهم رماه به مروان بن الحكم، صفى عثمان وساعده الأيمن، وخليفة المسلمين بعد ذلك بثلاثين عاماً، ورفيق طلحة في الجيش الثائر من أجل الثأر، وساعتها سوف يدرك طلحة أنها النهاية، فيردد في لحظات الصدق مع النفس ومع الله، هذا سهم رماني به الله، اللهم خذ لعثمان منى حتى ترضى، وهو قول بالغ الدلالة على صحوة الضمير، وتيقن الخطأ، ولم يكن طلحة في هذا مبتدعاً، وإنما كان مسايراً لفعل أصحابه، وهم أنفسهم صحابة الرسول، غاية ما في الأمر أنه كان أكثر تطرفاً، فأهلك وهلك، أما علي والزبير وابن مسعود وعمار وغيرهم، فقد تراوحوا في معارضتهم بين العنف واللين، وانتهوا ما انتهى إليه طلحة، حين هلك بعضهم معه، وتأخر البعض إلى حين.

حدث ما حدث، وقتل المسلمون بسيوف المسلمين، وهلك الصحابة بسيوف الصحابة، وبقيت دلالات الحوداث تؤرق أذهاننا حتى اليوم، واختلف الفقهاء حتى يومنا هذا مع ما لم يتمن أحد أن يناقش، ناهيك عن أن يحدث، وهو (شرعة قتال أهل القبلة)، أي مشروعية قتال المسلمين للمسلمين، ويحلو للبعض أن ينسب نشأة هذه الظاهرة إلى أوائل عهد علي، لكنا نعود بها إلى عهد أبي بكر، حين نتوقف أمام حروب الردة متأملين مفرقين بين قتال أبي بكر للمرتدين عن الإسلام، وبين قتاله للممتنعين عن دفع الزكاة له أو لبيت المال، ولنا في التفرقة بين الفريقين منطق بسيط، يسلم بارتداد الفريق الأول، ويتحرز في وصف الفريق الثاني بالردة، فقد كانوا ينطقون بالشهادتين، ويؤدون جميعا دون إنكار، ويؤدون الزكاة نفسها لكن للمحتاج وليس للخليفة أو لبيت المال، وكانت حجتهم في ذلك الآية الكريمة (خذ من أموالهم)، منصرفة إلى الرسول، موجهة إليه، ولا يجوز أن تنصرف لغيره، لأنها لم توجه إلى غيره، حتى لو كان هذا الغير خليفة الرسول، ولعلنا ونحن نتأمل ونفرق، وربما نتعاطف، نستحضر في أذهاننا موقف عمر من أبي بكر، وهو يسائله عن حجته في قتل من ينطق بالشهادتين، فيجيبه أبو بكر بما يعنى أن للشهادة (حقها)، يقصد بهذا الحق أداء الزكاة لبيت المال، وهو اجتهاد مجهد وجهيد، ولعل عمر كان يستحضر في ذهنه وهو يحاور أبا بكر حديث الرسول عن أن المسلم لا يقتل إلا لثلاث، إن زنى بعد إحصان، أو أرتد بعد إيمان، أو قصاصاً لقتل النفس بغير حق، ولعله كان يرى أن نفى الإيمان عن ناطق الشهادتين، مؤدى الصلاة، صائم رمضان، حاج البيت أن استطاع لذلك سبيلاً، مؤدى الزكاة إلى المحتاج دون وساطة، أمر أن لم يتسع له الإنكار، ونظنه يتسع له، فلا بد أن يضيق به باب القبول أي ضيق، ولعلنا إلى مثل ذلك الضيق أقرب، بل لعلنا منكرون كل الإنكار، لسبب يتصل بنا أكثر مما يتصل بعمر أو بأبي بكر .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #16
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


فنحن نفعل ما فعله أولئك القوم تماماً، وندفع الزكاة للمحتاج كما كانوا يدفعونها تماماً، ولا ندفعها مثلاً لوزارة الخزانة أو لرئيس الجمهورية، وإن جاز لأبي بكر قتالهم وقتلهم، فإنه يجوز للبعض أن يخرجوا علينا مقاتلين وقاتلين، لا يشفع لنا عندهم أن نرفع عقيرتنا بالنطق بالشهادتين، ولا أن نقسم على أننا ملتزمون بأركان الدين ملزمون لأنفسنا بها، ولولا أننا لم نجد في ديننا عصمة لغير النبي، ولولا أيضاً أننا نرى أن اجتهاد أبي بكر من يليه، وإلا لسلك جميع جمع الخلفاء سبيله في تولية من يليه، بالنص على اسمه في كتاب مغلق يبايعون عليه مغلقاً، وهو ما لم يأخذ به أحد بعده، لولا هذا كله، ولولا إيماننا بأن الإسلام حق، والقرآن حق، ونبوة الأنبياء حق، وبشرية غيرهم حق، ما تناولنا ما أوردناه.

و ما استطردنا فذكرنا أن أبا بكر كان على حق، إذا ناقشنا الأمر من باب آخر هو باب السياسة. فلولا ما فعل ما أصبح للإسلام دولة ثابتة الأركان، متينة البينان، تفتح البلدان، وتنشر العقيدة وتثبت دعائمها، ولقد اجتهد أبو بكر في السياسة فأصاب دون شك، واجتهد في الدين فأصاب أجرين في رأيه، وأجراً واحداً في رأينا، وربما أثبت لمن يرونه أصاب أجراً واحداً أن السياسة قد تتناقض مع قواعد الدين وأصوله، تلك المحفوظة لنا تماماً كما وجدها، وكما نجدها قرآناً وسنة.


وما كان اجتهادنا إلا اجتهاداً وما كان لأحد أن يزعم أن اجتهاد أبي بكر أصل من أصول العقيدة أو ركيزة من ركائز الإيمان، وما كان لنا أن نؤيد ما قد يراه من أن قرار أبي بكر كان سياسياً وليس دينيا، وبمعنى آخر كان علمانياً يفصل بين السياسة والدين، فنحن لا نود أن نرد على تعسف في الاجتهاد بتعسف في الإستنتاج، ولعل فيما ذكرناه ونذكره الكفاية لاستنزال اللعنات علينا ممن يرون في أسماء الصحابة قدساً من الأقداس، وفي أفعالهم طوطماً لا يمس، وحسبنا أن نذكرهم بحديث الرسول الكريم، عن أن عمار بن ياسر سوف تقتله الفئة الباغية، وهو حديث ثابت وصحيح، لأن الجميع تذكره حين قتل عمار، تذكره جيش علي فتهلل، وتذكره جيش معاوية فتزلزل، ولم يهدئ روعه إلا رد معاوية المحنك"قتله من أخرجه".


غير أنا نرى الأمر بعد هذه السنوات عظيماً وجليلاً وذا خطر، ونقرأه بعد كل هذه السنوات فنتزلزل، فإحدى الفئتين باغية لا شك، ولو سلمنا بظاهر الحديث لحكمنا عل جيش معاوية بالبغى، ولأصبح معاوية باغياً وعمرو بن العاص باغياً، ومروان بن الحكم باغياً، وعبيد الله بن عمر باغياً، وغيرهم وغيرهم.


ولو سلمنا بتفسير معاوية لأصبح البغاة فريقاً من كبار الصالحين لا نجرؤ على ذكر أسمائهم مقترنة بالبغى، وإذا كنا قد توقفنا عند مقابلة اجتهاد أبي بكر باجتهاد مقابل، فإن بعضاً من كبار الصالحين مثل واصل بن عطاء، فقيه المعتزلة وإمامهم، وعمرو بن عبيد، الزاهد الورع، الذي وصفه الخليفة المنصور بقوله الشهير (كلكم يطلب صيد. غير عمرو بن عبيد)، كانا أجرأ منا حين أطلقا لعقولهم العنان، وهما من هما، تديناً وفقهاً وعلماً، فأنكرا فعل الفريقين في أصحاب الجمل، وأصحاب صفين، وذكرا أنه"لا تجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل (كل نبات اخضرت له الأرض)"، وأوضح من قول واصل وعمرو، قول عبد الله بن عباس لعبد الله بن الزبير (لو كان جيش الإمام على حق فقد كفر الزبير بقتاله، ولو كان جيش عائشة على حق فقد كفر الزبير بتخليه عنه).


وهي أقوال لا نفحصها ولا نمحصها، وإنما نذكرها متأملين، مقارنين عصراً بعصر، ومناخاً بمناخ، وفكراً بفكر، وحسبنا أننا لا نتجاوز الاجتهاد في تفسير الوقائع، بينما اجتهد عمر بن الخطاب فيما هو أجـّل وأعظم، مخالفاً ما نعرفه ونلتزم به من أنه لا اجتهاد في النص، أو لا اجتهاد مع وجود نص، ولم يكن اجتهاده قاصراً على التفسير أو التعديل، بل امتد إلى التعطيل والمخالفة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة اجتهاده، ولعلنا لا نعرف نظيراً لعمر كرجل دين ورجل دولة على مدى التاريخ الإسلامي كله، فهو القاسي على نفسه في الحق، ومن هنا قبلت الرعية قسوته، ثقة منها أنه على حق، وهو الزاهد في الدنيا زهداً لم يعرفه حاكم قبله أو بعده ومن هنا قبل الجميع أن يحاسبهم، وأن يتحرى عن كسبهم، وأن يأخذ منهم ما يفيض عن حاجتهم، وأن يعنف عليهم أشد العنف، إن رأي فيهم أهون الميل للهوى، أو الهوى للميل، وهو الذي يخطئ فيتعلم من الخطأ ولا تأخذه العزة بالإثم .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #17
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


فها هو يولى عمار بن ياسر على الكوفة، ثم لا يلبث أن يتبين أن صلاح الدين لا يعنى بالضرورة صلاح الدنيا، وأن للحكم ميدانه وللسياسة فرسانها، وليس بالضرورة أن يكونوا رجال الدين وفرسانه، فيعزل عمار، ويولى أمثال المغيرة بن شعبة ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان، ويرفض أن يولى أباذر معلناً أمامه أن به ضعفاً، وأن الضعيف لا يولى مهما ارتفع في سلم العقيدة درجات، فهذه ساحة وتلك ساحة، إن اجتمعتا – ونادراً ما تجتمعان – فهو الكمال، وإن افترقتا – وغالباً ما تفترقان – فلكل ساحة رجالها، ولكل ميدان فرسانه، فرجال السياسة أجدر بالحكم، ورجال الدين أحفظ للعقيدة، غير أن أعظم ما تركه عمر لنا، هو ذاته أكثر ما تجنبه اللاحقون، وما ارتعدوا عند ذكره، ناهيك عن الإقدام عليه، ونقصد به الاجتهاد، ذلك الذي بدأنا حديث عمر بذكره وما تميز عمر فيه عن الجميع، حين اجتهد -كما ذكرنا – مع وجود النص القرآني، وبالمخالفة له، وقدم في تبرير ذلك حجة رائعة، ما أجدر المنغلقين في زماننا أن يقفوا أمامها بالتأمل طويلاً، وما أجدرنا بأن نذكرها لهم تفصيلاً، عسى أن تتسع لها قلوبهم، ويتعلموا منها أن العقل قد يسبق النقل، وأن التفكير لا بد وأن يسبق التكفير، ولعلنا نسائلهم مداعبين قبل أن نعرض عليهم ما نعرض، ما حكمكم إذا ذكرنا لكم دون تخصيص أو تفصيل أن حاكماً مسلماً، لدولة مسلمة، قد أفتى بمخالفة نص قرآني مع علمه به، وطبق قاعدة مختلفة معه ومخالفة له، وأفتى بجواز مخالفة النص ذاكراً أن واقع الحياة قد تجاوزه، وأن المنطق لم يعد يستقيم معه، ولعلنا متصورون، بل ومتأكدون من الإجابة، ولعلنا أيضاً هاتفون بهم حنانيكم، تمهلوا قليلاً، وتحسبوا كثيراً، فنحن نتحدث عن عمر بن الخطاب، وهاكم النموذج كما يسرده عالم جليل، في كتاب من أهم وأرقى ما كتب في السنوات الأخيرة.

أما العالم فهو الدكتور عبد المنعم النمر وأما الكتاب فعنوانه (الاجتهاد) وأما القاعدة التي نتحدث عنها فهي خاصة بسهم المؤلفة قلوبهم وهاكم ما كتبه الدكتور النمر:
(سهم المؤلفة قلوبهم وهو سهم قد نص عليه القرآن ما كتبه القرآن الكريم في آية توزيع الزكاة"إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم"التوبة / 60
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيهم – وهم كفار – أو ليسوا على إسلام صحيح صادق بل متأرجحين، ليتألف بالعطاء قلوبهم – وطالما استعبد الإنسان إحسان – فيكفوا عن المسلمين شرهم، وليكسب ودهم أو لسانهم، وربما حبهم وإسلامهم، يروى سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال:"أعطاني رسول الله وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إلى".


وسار أبو بكر رضى الله عنه في خلافته على ما سار عليه الرسول، حتى جاءه عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، فسألا أبا بكر: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخه ليس فيها كلأ، ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها؟ فأقطعهما أبو بكر إياها، على أنهما من المؤلفة قلوبهم، وكتب لهما كتاباً بذلك، وأشهد عليه، ولم يكن عمر حاضراً، فذهب إلى عمر ليشهد، فعارض عمر ذلك بشدة، ومحا الكتابة.. فتذمرا وقالا مقالة سيئة، قال لهما:"إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام. اذهبا فاجهدا جهدكم لا يرعى الله عليكما إن رعيتما".

والشاهد هنا، أن عمر أوقف حكماً كان مستقراً في أيام الرسول، وجزء من خلافة أبي بكر، بناء على اجتهاد له، في سبب إعطاء هؤلاء حيث اعتبر أن السبب الآن غير قائم، فلا داعي للإعطاء، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، كما عرفنا فعمر رضى الله عنه، لم يقف جامداًً عند حدود النص وظاهره ولا حدود الفعل، بل غاص إلى سببه وعلته، وحكم اجتهاداً منه في فهم الحكم، على ضوء ظروف الإسلام، حين صار قوياً في غير حاجة إلى تأليف قلوب هؤلاء..
كلام منطقي، وواضح، وصريح، يترتب عليه سؤال منطقي، وواضح، وصريح أيضاً، مضمونه: هل يجوز لنا أن نتأسى بعمر فنعطل نصاً، أو نجتهد مع وجوده، ويصل بنا الاجتهاد إلى مخالفته، إذا انعدمت علته أو تغيرت أسبابه؟


سؤال صعب، وإجابته خطيرة، وتداعيات إجابته أخطر، ليس على الإسلام، بل على قلوب عليها أقفالها، وعقول تعرف الضبة وتنكر المفتاح، غير أنا نلمح في أذهانهم طوق نجاة، قد يتشبثون به، وهو قولهم بأن ذلك قد يجوز، إن تشابهت الحالة أو تماثلت مع ما سبق دون أن ينصرف ذلك إلى قواعد الدين وتعاليمه الواضحة، مثل الحدود الثابتة بيقين في نصوص القرآن، ولعلنا بهذا القول نتفاءل كثيراًَ، ونتوقع منهم ما لا نعرفه عنهم قياساً على تجربة سابقة لنا معهم، لكن ما ضرنا إن تفاءلنا، وما خسراننا إن أحسنا الظن، وما أجدرنا بأن نسحب منهم طوق النجاة، وأن نحيلهم في ردنا عليهم إلى مثال آخر لاجتهاد عمر، عطل فيه حداً من الحدود الثابتة، وهو حد السرقة، إذا كان السارق محتاجاً، ثم أوقف تنفيذه في عام المجاعة، وجدير بنا قبل عرض هذا الاجتهاد، أن نرد على بعض من ادعوا التفقه، وأزعجهم اجتهاد عمر، فأفتوا بما يخالف الحقيقة، ظناً منهم أن أحداً لا يقرأ، أو أن الغاية تبرر الوسيلة.


ومثال ذلك ما ذكره الأستاذ الحمزة دعبس في حواره مع وزير مغربي، وهو حوار منشور في جريدة النور، التي يرأس الأستاذ الحمزة تحريرها، حين سأل الحمزة الوزير، محاولاً إحراجه، عن سبب عدم تطبيق الحدود الشرعية في المغرب، فكان رد الوزير أن تعطيل الحد اجتهاد، وأن لذلك سابقة تتمثل في تعطيل عمر لحد السرقة في عام المجاعة، فرد عليه الأستاذ الحمزة على الفور، بلغة الواثق من علمه،"إن عمر لم يطبق حد السرقة، لأن المبلغ المسروق كان أقل من النصاب"، والحقيقة أن الواقعة التي عطل فيها عمر الحد، والتي وردت في"الموطأ"للإمام مالك، كانت تتعلق بسرقة ناقة، وهي ما يفوق النصاب كثيراً، بل ما يتناوله البسطاء في أحاديثهم عندما يتندرون فيقولون: إن سرقت فاسرق جملاً، دلالة على ضخامة حجم السرقة وجسامته .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #18
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


والمثال الثاني ما يتردد كثيراً على ألسنة بعض الفقهاء، وفي مقالات بعض الكتاب ممن يسمون أنفسهم بالإسلاميين من أن عمر لم يعطل الحد، بل أقام شروطه، لأن من هذه الشروط توفير الحد الأدنى للمعيشة والمعاش، وردنا على ذلك يسير، ورأينا فيه أنه مغالطة واضحة، لأن جميع ما توافر أمام عمر وقت أن أجتهد، لم يكن يزيد عن أمرين:

* أولهما: نص قرآني صريح واضح قاطع بقطع اليد في السرقة دون ذكر لأية شروط.

* وثانيهما: سنة قولية وفعلية نقلتها لنا كتب الأحاديث الصحاح وراجعناها جميعاً فلم نجد إلا اختلافاً حول تحديد النصاب أي الحد الأدنى لقيمة ما يسرق، فتقطع اليد في مقابله، ولعلنا نضيف إلى علمهم تصحيحاً، وإلى معلوماتهم تصحيفاً، فنذكر لهم أن ما اختلط في أذهانهم، هو الشروط التي ذكرها الفقهاء بعد عمر بحوالي قرن أو قرنين، وهي شروط عديدة تمثل اجتهاداً منهم لمسايرة ما واجهوه من ظروف الحياة وهي متغيرة، بنصوص الشريعة وهي ثابتة، وكل ذلك أتى بعد عمر بكثير ولم يكن عمر في اجتهاده مقتفياً أثر الشافعي أو أبى حنيفة، وإنما كان العكس هو الصحيح، وكان اجتهاد عمر في هذه الواقعة هو الذي فتح باب الاجتهاد لهم، وهو الذي قنن لهم شرطاً فأضافوا شروطاً، ولنقرأ معاً ما أورده الدكتور النمر في كتابه (الاجتهاد) بشأن هذا الاجتهاد من عمر:

(عدم إقامة الحد على السارق: وهذا اجتهاداً جديد في إقامة الحد، اجتهد عمر في ألا يقيمه بعد ثبوت السرقة على السارقين.. ووجوب الحد عليهم، في الحضر لا في السفر، ولا في الغزو.

فقد روى مالك في الموطأ، أن رقيقا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها، فأمر عمر بقطع أيديهم، ثم أوقف القطع، وفكر في أن يعرف السبب الذي من أجله سرق هؤلاء فلعلهم جياع، وجاء حاطب فقال له عمر، إنكم تستعملونهم، وتجيعونهم والله لأغرمنك غرامة توجعك، وفرض عليه ضعف ثمنها، وأعفى السارقين من القطع لحاجتهم..

ولم يقف عمر بهذا عند ظاهر النص جامداً، بل غاص إلى ما وراءه، ووجد أنه لا يقام حين يكون السارق في حاجة تلجئه إلى السرقة، كما قال لحاطب:"لولا أنكم تستعملونهم و تجيعونهم، حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه، لقطعتهم".

وعمر بهذا وضع أساساً لعدم تطبيق الحد على المحتاجين الذين تحدث عنهم، وهي وجهة نظر جديدة في تطبيق الآية:
"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالاً من الله.."
المائدة / 38
راعى فيها عمر علة القطع وظروفه، ودار مع العلة، وإن أدى ذلك إلى تخصيص النص أو ترك ظاهره – كما قال المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى، وهذه النظرة هي التي حملته على إيقاف حد السرقة أيضاً عام المجاعة، كما حملته على إيقاف الحدود في السفر مثل ما فعل حذيفة أيضا فأوقف الحد على شارب الخمر، وقال:"تحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطعمون فيكم؟".


وقد أصدر عمر أمره إلى قواده ألا يجلدوا أحداً حتى يطلعوا من الدرب راجعين، وكره أن تحمل المحدود حمية الشيطان على اللحوق بالكفار، وهو لم يوقف الحد وإنما أجله لظروف، حتى تزول هذه الظروف، وهذه كلها اجتهادات لأحكام جديدة، لم تكن قبل ذلك.. وفيها ظاهرة مخالفة لما كان في أيام الرسول وأبي بكر).
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 04:35 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.26683 seconds with 12 queries