أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > علوم > تاريخ

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 04/06/2008   #19
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


وهكذا يتضح لنا أن عمر قد اجتهد فألغى سهم المؤلفة قلوبهم مخالفة للنص القرآني، وأوقف حد السرقة على المحتاج، ثم عطله في عام المجاعة، وعطل التعزير بالجلد في شرب الخمر في الحروب، ونضيف إلى ذلك أنه خالف السنة في تقسيم الغنائم فلم يوزع الأرض الخصبة على الفاتحين، وقتل الجماعة بالواحد مخالفاً قاعدة المساواة في القصاص، ولا نملك ونحن نستعرض ما فعل، في ضوء الملابسات المحيطة بكل حادثة، إلا أن نكتشف حقيقتين هامتين:
أولاهما أنه استخدم عقله في التحليل والتعليل، ولم يقف عند ظاهر النص.


وثانيهما أنه طبق روح الإسلام وجوهره مدركاً أن العدل غاية النص، وأن مخالفة النص من أجل العدل، أصح في ميزان الإسلام الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص، وهذه الروح العظيمة في التطبيق، تخالف أشد المخالفة روح القسوة فيمن نراهم ونسمع عنهم، وتتـناقض مع منهجهم المتزمت، وتوقفهم أمام ظاهر النص لا جوهره، ونكاد نجزم أنهم لو عاشوا في زمن عمر، لاتهموه بالمخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة، ولقاعدة شرعية لا لبس فيها ولا غموض، ولحد من حدود الله لا شبهة في وجوب إقامته ولرفعوا عقيرتهم في مواجهته بالآيات التي لا يملون تكرارها (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)، دون توقف أمام أسباب التنزيل، أو حكمة النص أو العقوبة، ولعلهم يدركون أن التأسي بعمر وارد، وأن الباب الذي فتحه باجتهاده يتسع لكثير مما نراه ونقبله، ويرونه فينكرونه، ويسمح لنا بأن نوجه إليهم سؤالاً محدداً وواضحاً:
هل تعطيل إقامة الحد جائز، وهل مخالفة النص القرآني جائزة، وهل مخالفة السنة الثابتة، قولية كانت أم فعلية جائزة؟


ولعلهم أمام ثلاث إجابات لا رابع لها:
- أولها: أن الحكم بالجواز على إطلاقه لا يجوز ونحن نوافقهم على ذلك.
- وثانيها: أن الحكم بإنكار الجواز على إطلاقه لا يجوز و نحن نسلم معهم بذلك، وحجتنا عليه اجتهاد عمر.
- وثالثها: أن الحكم بالجواز جائز في بعض الحالات، وللضرورة، ولأسباب منطقية وواضحة، تتسق مع روح النص وعلته..


وفي هذا مساحة واسعة لنقاش طويل، وأخذ ورد، وحجة وحجة، واجتهاد واجتهاد، دون رمى لقفاز التكفير في الوجوه، ودون ادعاء باطل بأنهم المسلمون، وأننا الكافرون الظالمون الفاسقون، وأن ما في مخيلتهم وحدهم هو الإسلام، وأن ما في حياتنا كله هو الجاهلية بعينها، غاية ما في الأمر أنها جاهلية معاصرة إلى غير ذلك مما يرونه حقاً ونراه باطلاً، ويرونه علماً بالفقه ونراه جهلاً بالفقه وبالتاريخ، ويرونه إيماناً ونراه تعصباً مقيتاً.
ولعلنا لا نتجاوز سيرة عمر، دون أن نتوقف أمام قرار خطير وجليل، ربما مر على البعض دون أن يعيروه التفاتاً، بينما هو في رأينا مفتاح لتفسير ما بدأنا به الحديث، وهو الفتنة الكبرى التي حدثت في عهد عثمان، وانتهت بمصرعه، واستمرت طوال عهد علي وانتهت بمصرعه أيضاً.


لقد ألزم عمر كبار الصحابة بالبقاء في المدينة، وحظر عليهم مغادرتها إلا بإذنه، وفسر ذلك لهم في رفق بأنه يحب أن يستأنس بهم، ويهتدي بمشورتهم، بينما حقيقة الأمر أنه خشى أن يفتتن الناس بهم، وأن يفتتنوا هم أنفسهم بالناس، وبما يفتن الناس، وأجرى عليهم أرزاقاً محددة ومحدودة، ألزمهم بها، وألزم نفسه بها قبلهم، فقبلوها منه، مثلما قبلوا مجمل سيرته، التي لا تأتي إلا منه، ولعلهم ضاقوا بذلك أشد الضيق، وكرهوه غاية الكره، فهم في النهاية بشر يكرهون أن يمنعوا ما هو متاح للآخرين، لكن ضيقهم من عمر، كان يصطدم بسيرة عمر مع نفسه، ومع أهله وخاصته، فيستحيل الضيق رضا، والتبرم صمتاً، والكراهية صبراً جميلاً

لا اله الا الانسان
نشأ الدين عندما التقى أول نصاب بأول غبي
Religion can never reform mankind , because religion is Slavery
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #20
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ولعلنا في تخيلنا للكراهية أو التبرم أو الضيق لم نتجاوز الحقيقة، ولم نحلق في الخيال، دليلنا على ذلك أن أول ما فعله عثمان غداة ولايته، أن أطلق الصحابة يذهبون حيث شاءوا وزاد على ذلك بأن أجزل لهم العطايا، وذلك أمر يتفق مع طبيعة عثمان وما جبل عليه من لين ورقة وكرم وتسامح، ولم تكن عطايا عثمان هينة أو محدودة، فقد أعطى الزبير ستمائة ألف وأعطى طلحة مائة ألف.

ولعله كان يتألف قلوبهم، لعلمه أن اجتهاداته قد تختلف مع اجتهاداتهم، وأنه مقدم على أمور لن تكون منهم محل قبول، ومن صالحه أن يذهبوا في الآفاق، وأن يكون قبولهم لعطاياه مانعاً لهم من الثورة أو حتى الغضب، حين يعلمون أنه وهب ابنه الحارث مثلها، أو أنه اقطع القطائع الكثيرة في الأمصار لبنى أمية، غير أنهم لم يأبهوا لشيء من هذا في أول الأمر، فقد خرجوا إلى الأمصار، وإذا بالدنيا تقبل عليهم إقبالاً لم يخطر لهم على بال أو خيال، وأقبلوا هم أيضاً على الدنيا.


وحين تقبل الدنيا دون حدود، فلابد أن تـُدبـِر العقيدة ولو بقدر محدود، أما كيف أقبلت هذه، وكيف أدبرت تلك، فتعال معي وتأمل، وتدبر معي:
ثروات خمسة من كبار الصحابة أسماؤهم لوامع بل إن شئت الدقة أسماؤهم اللوامع، فهم جميعاً مبشرون بالجنة وهم من الستة الذين حصر فيهم عمر الخلافة، وأحدهم هو الخليفة المختار، وهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف، ننقلها إليك من كتاب موثوق به هو (الطبقات الكبرى لابن سعد).


يقول ابن سعد بسنده:
(كان لعثمان ابن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف (الألف ألف هي المليون) درهم و خمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار (الدرهم عملة فارس والدينار عملة الروم) فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة وترك صدقات كان تصدق بها ببر أديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتى ألف دينار).


1. كانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف. وكان للزبير بمصر خطط وبالإسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة


2. عن عائشة بنت سعد ابن أبي وقاص: مات أبي رحمه الله في قصره بالعتيق على عشرة أميال من المدينة، وترك يوم مات مائتى ألف وخمسين ألف درهم


3. كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيد الله من العقار والأموال وما ترك من الناض ثلاثين ألف درهم، ترك من العين ألفى ألف ومائتى ألف دينار، والباقي عروض

4. ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً، وكان فيما ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفاً .


و قد ذكر المسعودى تقديرات مقاربة لما سبق من ثروات مع اختلاف في التفاصيل، واستند طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى لتقديرات ابن سعد، وذكر ابن كثير أن ثروة الزبير قد بلغت سبعة وخمسين مليونا وأن أموال طلحة بلغت ألف درهم كل يوم.
ولعل القارئ قد تململ كثيرا، وهو يستعرض ضخامة ما تركه كبار الصحابة من ثروات، ولعله انزعج كما انزعجنا لحديث الملايين ولعله أيضاً يتلمس مهرباً بتصور أن الدراهم والدنانير لم تكن ذات قيمة كبيرة في عصرها، لكنى أستأذنه أن يراجع نفسه.


فابن عوف توفى بعد عمر بن الخطاب بثمانى سنوات، والزبير وطلحة توفيا بعد عمر بثلاث عشرة سنة، وأقصى ما يفعله التضخم (بلغة عصرنا الحديث) في تلك الفترة القصيرة، أن يهبط بقيمة النقد إلى النصف مثلاً، ويحكى المسعودى عن عمر أنه:
(حج فانفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر ديناراً فقال لولده عبد الله: لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا)، وإذا كانت الستة عشر ديناراً قد كفت عمراً وولده، أو كفت عمراً وحده، شهراً كاملاً، فلنا أن نتخيل ما تفعله عشرات الملايين، وما يملكه صاحب الذهب الذي يقصر جهد الرجال عن قطعة (بالفؤوس).
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #21
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ولنا أن نسوق مثالاً أوضح من المثال السابق، عن سادس الستة الذين رشحهم عمر، ونقصد به علياً، الذي توفى بعد طلحة والزبير بأربعة أعوام ونصف، وبعد ابن عوف بحوالي عشر أعوام، وهاكم ما تركه في رواية المسعودى:
(لم يترك صفراء ولا بيضاء، إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه، أرد أن يشتري بها خادماً لأهله، وقال بعضهم: ترك لأهله مائتين وخمسين درهما ومصحفه وسيفه).


نحن هنا أمام نموذج ونماذج، ومثال وأمثلة، وتركة وتركات، وأمام مؤشر خطير لما حدث للمسلمين، وأمام نذير خطير لما سيحدث لهم، فالدين والدنيا لا يجتمعان معاً إلا بشق الأنفس، وجمع المال على هذا النحو لا يستقيم مع نقاء الإيمان وصفاء السريرة إلا بجهد مجهد وجهيد، وقول الرسول عن ابن عوف أنه يدخل الجنة حبواً يطرق الأذهان في عنف، فغنى عبد الرحمن وثروته يثقلان خطوه إلى الجنة، ولا لوم ولا تثريب على المسلم إن أثرى كما يشاء، وأدى حق الله في ماله كما يحب، لكن ميزان كبار الصحابة ليس كميزان غيرهم، فهم أثقل من غيرهم بالزهد، وأجدر من غيرهم بالخصاصة، وقد عهدناهم حين هاجروا من مكة قبل ذلك بسنوات لا يملكون غير ملابسهم، ويبيتون على الطوى سجداً خاشعين، وكانوا في الميزان أغنى الأغنياء، لكن الزمن قد دار إلى غير عودة، وما ضر المقبل على الثروة أن يقبل على الحكم .

فهما وجهان لعملة واحدة هي الدنيا المقبلة، وسوف يأتي على خليفة بعد عثمان، وسوف يكون الخليفة الحق في الزمان الخطأ، وسوف يحدث له ما حدث، لأنه لابد أن يحدث، غاية ما في الأمر أنه كانت هناك جذوة من العقيدة ما زالت مشتعلة، أبقت حكمه قرابة الخمس سنوات، ولم يكن له أن يتساءل مستنكراً: أعصى و يطاع معاوية؟ فالتساؤل على مرارته مجاب عليه: نعم يا أبا الحسن، تعصى لأنك على دين، ويطاع معاوية لأنه على دنيا، فكما تكونوا يول عليكم، وقد كان القوم أقرب إلى معاوية منك، ولم يكن لهم أن يصبروا عليك وأنت تحاول إدارة العجلة إلى الخلف، إلى الزمن السعيد والصحيح، فليس لها أن تدور إلا حيث تريد لها الرعية أن تدور، وإذا كان أصحابك قد أقبلوا على الدنيا هذا الإقبال، أتنكر أنت على الرعية أن تقبل هي الأخرى آخذة منها بنصيب، ساعية إلى من ييسر لها ما ترضاه، ويتألف قلوبها بما أنست إليه، وتألفت معه، وأقبلت عليه، وأدبرت أنت عنه.

هون عليك يا أبا الحسن، فسوف يأتي بعدك بسبعين عاماً من لا يستوعب درسك فيحاول ما حاولت، ويقضى بأسرع مما قضيت، سوف يأتي عمر بن عبد العزيز، ولن يستمر أكثر من سنتين وثلاثة أشهر، وسوف يموت دون الأربعين، مسموماً في أرجح الأقوال مخلياً مكانه ليزيد بن عبد الملك، شاعر المغاني والقيان، عاشق سلامة وجبابة، وأول شهداء العشق والغرام في تاريخ الخلفاء، كما سنروى للقارئ بعد قليل.

وسوف يأتي بعد عمر بن عبد العزيز بقرن ونصف، خليفة عباسي اسمه المهتدى بالله يحاول أن يحتذي حذوه فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويزهد في الدنيا، ويقرب العلماء، ويرفع من منازل الفقهاء، ويتهجد في الليل، ويطيل الصلاة، ويلبس جبة من شعر وسوف يكون مصيره كما ذكر المسعودى: (فـثـقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة حتى قتلوه، ولما قبضوا عليه قالوا له أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول وأهل بيته والخلفاء الراشدين، فقيل له: إن الرسول كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وأنت إنما رجالك تركي وخزرى ومغربي وغير ذلك من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم في أمر أخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟).

وقد قتل المهتدى بعد أقل من أحد عشر شهراً من خلافته، واختلف في قتله، فذكر البعض أنه قتل بالخناجر، وشرب القتلة من دمه حتى رووا منه، (ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات، ومنه من رأى أنه جعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات، وقتل خنقاً؟ كبس عليه بالبسط و الوسائد حتى مات)، لا تحزن يا أبا الحسن ولا تغضب، فزمانك لا شك أعظم من زمن من يليك، وحسبك أن عهدك كان فيصلاً أو معبراً إلى زمان جديد، لا ترتبط فيه الخلافة بالإسلام إلا بالاسم، ولا نتلمس فيها هذه الصلة بين الإسلام والخلافة، إلا كالبرق الخاطف، يومض عامين في عهد عمر بن عبد العزيز، وأحد عشر شهراً في عهد المهتدى وخلا ذلك دنيا وسلطان، وملك وطغيان، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال، وربما لم تخطر للقارئ على بال ما نقلوه إليه كان ابتساراً للحقيقة، وإهداراً للحقائق، وانتقاصاً من الحق .

وإذا كان الشيء يذكر يا أبا الحسن، فدعنا نقص على القراء ما راعك وما سيروعهم، وما أفزعك وما سيفزعهم، وسوف ننقله إليهم موثقاً بالرسائل، تلك التي تداولتها أنت وابن عمك وأقرب الناس إليك، عبد الله بن عباس، حبر الأمة وبحرها، وأحد أكثر من نقلت عنهم أحاديث الرسول، وواليك على البصرة، أعظم الأمصار وأجلها خطراً، ولعلك يا أبا الحسن كنت تتوقع أن تسمع عن عبد الله بن عباس أي شئ إلا ما سمعت، حين أتتك من صاحب بيت المال في البصرة (أبو الأسود الدؤلى) رسالة ينبئك فيها أن (عاملك و ابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك).


ولعلك يا أبا الحسن لم تصدق، ولعله لم يكن أمامك إلا أن ترسل لعبد الله بن عباس مستفسراً، متمنياً أم يحصحص الحق فيسفر عن بياض صفحته، وهو خطابك إليه مختصراً: "أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وأخربت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين: بلغني أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلى حسابك واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس".
ويأتيك يا أبا الحسن"أما بعد، فإن الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ، فلا تصدق على الأظناء، رحمك الله، والسلام .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #22
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


رد كأنه إحدى رسائل التلكس في أيامنا الحاضرة، وهو رد لا يغنى من جوع، ولا يسمن من شبع، فعلي قد طلب حساب بيت المال، فلم يظفر من ابن عباس إلا بنفي التهمة وبالسلام، وما عليه إلا أن يعاود الكرة، موضحاً ما يطلبه، مؤكداً عليه، محاولا استثارة النخوة الدينية لديه، ولنقرأ خطاب علي:

"أما بعد، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت منه، فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام".
لم يعد الأمر اتهاماً ينفيه ابن عباس، بل طلباً واضحاً ومحدداً، ومطلوب من ابن عباس أن يجيبه، وهو أن يكتب له (كشف حساب) يوضح في جانب منه موارده من الجزية، وفي الجانب الآخر أوجه الإنفاق.


والحقيقة أن ابن عباس قد أجاب، وهو في إجابته لم يذكر شيئاً عن موارده وإنفاقه، وإنما تقدم بالخصومة بينه وبين علي خطوة واسعة، ورد عليه اتهاماً باتهام، فعلي يتهمه باغتصاب المال، وهو يتهم علياً بسفك دماء الأمة من أجل الملك والإمارة، وهكذا جريمة بجريمة، بل أن جريمة علي (هكذا قال وهكذا أفتى) أعظم عند الله من جريمته التي لم ينفيها أو يعتذر عنها، ولنقرأ معاً رسالة عبد الله بن عباس إلى علي (أما بعد، فقد فهمت تعظميك على مرزئة ما بلغك أني رزأته أهل هذه البلاد، والله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها، أحب إلى من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة. فابعث إلى عملك من أحببت".
استقالة أسبابها غير مقنعة، ضرب علي عند قراءتها كفاً بكف، مردداً:


"وابن عباس لم يشاركنا في سفك هذه الدماء؟"ولو رمى ابن عباس باستقالته تلك واكتفى، لآخذناه على ما جاء فيها، ولبررناها بغضبه من اتهام ظالم وجسيم، أطلق منه نوازع الغضب وانفعالات الثورة، فكتب ما كتب تحت وطأة الغيظ وفي ظل انفعال من يتهم وهو برئ، لكنه فعل بعد كتابة هذا الخطاب ما لم يخطر لعلي على بال، وما لا يخطر للقارئ على بال، وما لا سبيل إلى نجاته من وزره أمام الله، وأمام علي، وأمامنا جميعاً..


لقد جمع ما تبقى من أموال في بيت المال، و قدره نحو ستة ملايين درهم، ودعا إليه من كان في البصرة من أخواله من بنى هلال، وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه ففعلوا، وحاول أهل البصرة مقاومتهم وناوشوا بنى هلال قليلاً، ثم أقنعوا أنفسهم بترك المال عوضاً عن سفك الدماء، ومضى ابن عباس بالمال، آمناً، محروساً، قريراً، هانئاً، حتى بلغ البيت الحرام في مكة، فاستأمن به، وأوسع على نفسه، واشترى ثلاثة جوار مولدات حور بثلاثة آلاف دينار..

صدمة هائلة، لا لعلي فقط، بل لنا جميعاً، نحن الذين عشنا عمرنا نقرأ عن فقه العباد له، وزهد العباد له، وورع العباد له، (يقصدون عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب)، فإذا بنا نحارفهما، ونمسك ألسنتنا غصباً أمام أشهر العباد له، ونخشى أن نصف فعله بما يستحق فلا ننجو من الألسنة الحداد ومما هو أكثر، لكنا يجب أن لا نكون أرفق ببعض الصحابة من أنفسهم، ولا أقل من أن نصفهم بما وصف بعضهم به بعضاً، وحسبنا أن علياً أوجز رأيه في ابن عباس بأنه (يأكل حراماً ويشرب حراماً) وليس لنا إلا أن نقول مع علي:


صدقت إن صدق ما قلت وحدث ما فعل، بل أننا نتساءل ومعنا كل الحق، هل الاستيلاء على أموال المسلمين بالباطل حلال على مسلم لكونه عاصر الرسول أو الخلفاء أو الصحابة، حرام علينا لأننا جئنا في عصر بعد العصر، وعاصرنا زماناً غير الزمان؟، هي حرام عليهم بقدر ما هي حرام علينا، بل هي حرام عليهم أكثر، لأنهم يعرفون من الدين أكثر، ومتفقهون فيه أكثر، ولأنهم الأئمة والمنارة، فإذا فسد الأئمة فمن أين يأتي الصلاح؟، وإذا أظلمت المنارة فبمن نسترشد؟
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #23
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ولعلي قبل أن أستطرد في الحديث، وللحديث بقية، أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد، ممن اغتالوا الرئيس السادات في المنصة، كان مشهوراً عنه أنه يكحل عينيه، وعندما سئل، قال تأسياً بابن عباس، ولعله لو قرأ ما قرأناه عنه ما تأسى به وما أكتحل مثله، واقرأوا معي رسالة علي لابن عباس، بعد أن استقر في مكة، هانئاً بين جواريه، قانعاً بأموال المسلمين .

(أما بعد، فأني كنت أشركتك في أمانتي، ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إليّ. فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلطت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزي الهزيلة وظالعها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك لا أباً لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله !


أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟ أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله، وأد أموال القوم فإنك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده، وأقمع الظالم، وأنصف المظلوم، والسلام).


خطاب يقطر دماً، ولو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع وتاب، ورجع عن فعله وأناب، لكنه يرد مستخفاً في سطرين لا أكثر فيقول (أما بعد، بلغني كتابك تعظم على إصابة المال الذي أصبته من مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال لأعظم مما أخذت منه والسلام).
هذه المرة يأتي الرد سافراً، نعم أخذت، لكنه حقي، بل إن حقي فيه أكثر، أي حق؟ وبأي حق؟ وهل لعبد الله بن عباس في بيت مال المسلمين حق أكثر مما لرجل من المسلمين؟


هذا ما تساءل به علي في رده على هذا الخطاب، وهو رد بليغ وحزين لا أريد أن أشغل به القارئ فأزيده حزناً فوق حزن، لكني أنتقل به فجأة إلى رد (برقى) آخر من ردود ابن عباس، حسم به النقاش، وأنهى به الجولة، وختم به حديث الدين والعقيدة، مهدداً بسطوة الدنيا وسيفها، وسلطانها وزيفها، قائلاً لابن عمه علي:
"لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به".


وهكذا أصبحت الموعظة الحسنة أساطير لدى عبد الله بن عباس، وأصبحنا نحن في حيص بيص كما يقولون، نضرب كفا بكف، ونتساءل في مرارة، هل نأتمن على ديننا من لم يؤتمن على دنيانا؟.


لا بأس أن نترك علياً لأحزانه، وهو يرى (كما يقول) أن أمانة الناس قد خربت، والأمة قد فتنت، وابن عمه قد انقلب عليه، وفضل رغد العيش من مال المسلمين في مكة، على نضال العقيدة من أجل الإسلام في الكوفة ولن يمر وقت طويل حتى يقتل علي،، وحتى نرى عبد الله بن عباس، ضيفاً على معاوية في مقر خلافته في دمشق، مستقبلاً بالتوقير والملاطفة والعطايا، غير أن العلة لم تكن فقط في نكوص رموز العقيدة عن حمل أعبائها، بل كانت هناك علل أخرى قد تسللت إلى بنيان الدولة الإسلامية الوليدة فأجهزت عليه وهنا نترك حديث العقيدة ورموزها إلى حديث الدنيا وسياستها، ونشير إلى أن أي حكم في التاريخ لا بد له مهابة، وأن هيبة الحكم محصلة للتفاعل بين الحاكم والمحكوم، وهي في النهاية ضرورة ليس لصلاح الحكم، فهذا أمر آخر، بل لتوطيد دعائمه، واستمراره واستقراره، ولا شك في أن أبا بكر بحروب الردة قد حفظ هذه الهيبة بل ورسخها في نفوس المحكومين، ولا شك في أن عمر بعنفه وعدله معاً قد وصل بهذه الهيبة إلى أقصى الدرجات.


ولا شك أيضاً في أن عثمان قد هبط بها رويداً رويداً حتى تلاشت أو كادت، فهو مرة يصدر قراراً خاطئاً، ثم لا يلبث أن يقف على المنبر لكي يعتذر ويبكي (حتى يبكي الجميع)، ثم لا يلبث أن يعود عن اعتذاره إلى عنف لا يملك مقوماته، وهو في تأرجحه بين العنف واللين، وتراوحه بين القرار وعكسه، يفقد الحكم هيبته لدى الرعية شيئاً فشيئاً، حتى يصل الأمر إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين، وإلى قذفه بالحجارة وهو على المنبر حتى يغشى عليه، وإلى محاصرته ومنع المياه عنه، بل أن يرسل إليه الأشترالنخعى خطاباً يفتتحه بالعبارة التالية:

"من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره"
ولعلى أجزم بأنه لم يكن هناك سبيل لعودة هذه الهيبة إلا برجل دنيا وسياسة وحكم من شاكلة معاوية، رجل لا يتحرج أن يقتل حُجر بن عدى، على إيمانه وعدله وزهده، حين يعبر حجر الخيط الرفيع بين معارضة الحكم ومحاربته، وبين الاعتراض على الحاكم، والثورة عليه، لأن القضية في نظره حكم أو لا حكم، وسلطة أو لا سلطة، وهيبة أو لا هيبة
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #24
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ولعل هذا المنطق هو ما حفظ جيش (معاوية) من الانقسام، بينما سلك (علي) طريق الدين، فحاور المنشقين، وكلما أتوا بحجة أتى بحجة، وإذا ذكروا آية أفحمهم بآية، وإذا استشهدوا بحديث رد عليهم بحديث، وكلما طال النقاش زادت الفرقة واتسع الانقسام، ولم يعد هناك بد من أن يرفع عليهم السيف و أن يرفعوا عليه السيف، و في النهاية صرعته سيوفهم، لأنه هكذا ينتهي التطرف بالمتحاورين معه، وهكذا يحسم الحوار (الديني – الديني) دائماً، يحسمه الأكثر تطرفا لصالحه، عادة يحسم معه أشياء كثيرة .

منها مبدأ الحوار ذاته، وحياة المحاور ذاتها، وإذا كنا نرى في أيامنا من المتطرفين عجباً، فلأنهم رأوا منا عجباً، تحسسوا هيبة الدولة فلم يجدوا هيبة ولا دولة، عجموا عود النظام في الهين من الأمر فوجدوه مرناً مثل (اللادن)، زادوا فوجدوه قد ازداد ليناً، تمادوا فإذا به ينثني معهم أينما انثنوا، عاجلوه بالجليل من الأمر فعاجلهم بضبط النفس، انتظروا اللوم من قيادات الفكر السياسي ورموز المعارضة فلم يجدوا إلا من يشيد أو يستزيد، ومن يصف مجرميهم بالشهداء، أو ينعت فأسديهم بالشرفاء، ولو طبقت عليهم الشريعة التي ينادون بها لعوملوا معاملة المفسدين في الأرض، ولقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولصلبوا في ميادين القاهرة والإسكندرية.

ما علينا ولنعد إلى صفحات التاريخ، فقد توقفنا عند عثمان وعلي وذكرنا أن الخلافة الإسلامية قد انتهت علاقتها بالإسلام بعدهما، ولم تكن لها بالإسلام صلة إلا في ومضات خاطفة تمثلت في عهد عمر بن عبد العزيز أو المهتدى، ولعلها بدأت هذا المسار كما أشرنا في بداية عهد عثمان، وإذا كنا ننزع صفة الإسلام عن الخلافة فيما ذلك من عهود فإن لنا في ذلك حجة سوف نسردها في موقعها من السرد، والصحيح في رأينا أنها كانت خلافة عربية، إن جاز التعميم وهو جائز، والأدق أن نقول أنها قرشية إن شئنا الدقة في اللفظ وهو دقيق، فقد حكمت قبيلة قريش المسلمين أكثر من تسعمائة سنة)، بينما حكم الإسلام ربع قرن أو أقل .

فالخلفاء الراشدون قرشيون، والأمويون قرشيون والعباسيون قرشيون، وقد استمرت الدولة العباسية بصورة رسمية ثم بصورة شكلية بعد سقوط بغداد حتى سقوك دولة المماليك في أيدي العثمانيين عام 918 هـ، وأكاد أجزم بان قبيلة قريش بذلك تمثل أطول أسرة حاكمة في تاريخ الإنسانية كلها، بل إن التاريخ لا يحدثنا عن أسرة واحدة حكمت نصف هذه الفترة، ولو كان الأمر أمر رضا من المسلمين، أو اختيار منهم لهان علينا وما توقفنا عنده، لكننا نتوقف عنده طويلاً، ونتأمله كثيراً لكونه ارتبط بأعز ما نملك وهو العقيدة، وتستر بأقدس رداء وهو الدين، واستند إلى أحاديث نبوية ننكرها على من ادعوها، لأنها لا تمت لروح الإسلام بصلة.

وحسبك ذلك الحديث الذي استند إليه العباسيون حتى استمر حكمهم قرابة سبعمائة وستة وثمانين عاماً، ومضمونه أن الخلافة إذا انتقلت إلى أيدي أولاد العباس، ظلت في أيديهم حتى يسلموها إلى المهدى أو عيسى بن مريم، وهو حديث كاذب، ومختلقة كذوب، وأنا وأنت أيها القارئ لا نختلف الآن على كذب الحديث ولا تكذيب قائلة، حجتنا في ذلك أنه ببساطة لم يتحقق، لكن هذه الحجة لم تكن متاحة لأجدادنا، وما كان لهم إلا أن يخضعوا صاغرين للحديث، وإلا اتهمهم فقهاء العصر، شأنهم شأن بعض الفقهاء الذين يظهرون في كل عصر، بنقص في دينهم، والتواء في عقيدتهم، وحسبنا أن مراجع الحديث ومنها الصحيحان وابن حنبل والدرامى وأبو داود تجمع على حديث يأتي حديث لو اجتمع عليه أهل الأرض لعارضناه، فالإسلام السمح، الذي أتى ليساوى بين العربي والأعجمي، لا يميز أسرة من الأسر عن غيرها بدم أزرق، لمجرد أنها قريش، وها هو عمر يعلن قبيل وفاته (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته)، وما كان سالم قرشياً، وما كان عمر بالذي يجهل حديثاً له هذا القدر من الأهمية، وها هو سعد بن عبادة (الخزرجى) ينافس أبا بكر على الخلافة، ويرفض بيعته حتى وفاته، ولو علم سعد بالحديث ما نافس ولا أنكر ولا رفض ولا أصر، لكنه هكذا كان الأمر.


وهكذا خضع أجدادنا لحكم الخلفاء، الفضلاء منهم (و ما أندرهم) والسفهاء منهم (وما أكثرهم)، خوفاً من اتهامهم بالخروج على الطاعة، أو المخالفة للجماعة، ويا حسرة على إسلام عظيم أتي ليساوي بين الناس، فأحاله البعض بالكذب، إلى دين يرسخ التفرقة العنصرية، ويرفع البعض فوق البعض بالنسب، ولعل المنادين بالخلافة في عصرنا الحديث، يدلوننا على سبيل نتحقق به من أنسابنا، فربما كنا قرشيين دون أن ندري، فنزايد في السياسة مع المزايدين، ونطمع في الحكم مع الطامعين ونكره المنطق مع الكارهين .
  رد مع اقتباس
قديم 04/06/2008   #25
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


وأخيراً ونحن نتجاوز عهد الراشدين إلى غيرهم، يجدر بنا أن نستخلص نتيجتين:

النتيجة الأولى:
أن من يتصورون أنه من الممكن إعادة طبع نسخة كربونية من عصر الراشدين، في عصرنا الحديث، إنما يركبون شططاً من الأمر، وقد يصلون بأنفسهم وبنا نتائج مؤسفة، فليس كل ما كان مقبولاً في عهد الصحابة مقبولاً وصحيحاً في عصر غير العصر، ومع قوم غير القوم، وحتى في أفعال الرسول نفسه، هناك مساحة واسعة لتأسيه بعصره، ومعايشته لتقاليد قومه، كالزي والعلاج، وهي مساحة لسنا مطالبين بالأخذ بها أو اعتبارها سنة واجبة الإتباع والنفاذ، فالرسول لم يأت بزي جديد، وإنما ارتدى زي الجاهلية، وزي الأعاجم عندما أهدي إليه، وعليه فليس الزي النبوي وارد اكسنة للتأسي والمتابعة، وما يقال عن الزي يقال عن الطب، ويقال عن كثير من المفاهيم التي سادت في عصرنا الحديث، وتقبلها الناس قبولاً حسناً، وهي أقرب ما تكون إلى الروح العامة للإسلام إذا ما فهمناها بمنطق مخالف للمنطق (الكربوني) سالف الذكر، الذي لو اتبعناه لوصل بنا نتائج أقل ما توصف به أنها مؤسفة، بل وربما جاز وصفها بما أكثر..


ولنأخذ مثالاً.. التعذيب..
لن يختلف اثنان على القول بأن التعذيب بالإيذاء البدني أو النفسي للحصول على اعتراف أو قبل تنفيذ حكم أو خلال تنفيذ حكم أمر ينكره الدين، ويتنافى مع جوهره في العدل والرحمة.
هذا هو التفسير العصري، أي الذي يأخذ روح العصر فيطابقها على روح الدين وجوهره أو يفعل العكس وهو في الحالتين مقنع ومقبول وصحيح، فماذا عن التفسير الكربوني؟


إليكم واقعتين شهيرتين:
الواقعةالأولى: في حادثة الإفك المعروفة،، حين اتهم البعض عائشة فدعا الرسول عليا لاستشارته (فقال يا رسول الله إن النساء لكثير وأنك لقادر على أن تستحلف وسل الجارية فإنها تصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم (بريرة) يسألها فالت فقام إليها (علي) فضربها ضرباً شديداً وهو يقول اصدقي رسول الله فتقول والله ما أعلم إلا خيرا..)


هنا إيذاء بدني من علي للجارية بقصد الحصول منها على اعتراف ولم ينكر الرسول شيئاً مما فعله علي، والتفسير (الكربوني) هنا يصل بنا إلى أنه من (السنة) أن يعذب المتهم للحصول على اعترافه ويصبح ما يثار حول تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية في السجون أمراً مشروعاً، وشرعياً، بل ومحمودا لأنه تأس بالسلف الصالح..

بينما وجهة النظر المقابلة، المتسعة الأفق الملتصقة بروح العقيدة، تستـنكر التعذيب، وترى أن هذا حتى لو كان أمراً مقبولاً في عصر الرسول، لا ينسحب على غيره من العصور، وإذا كانت الحضارة قد أضافت فيما أضافت، مفهوماً واسعاً لحقوق الإنسان، يرفض فيما يرفض أن يعذب متهم للحصول على اعتراف، فإننا نقبل هذا المفهوم من منطلق إسلامي، ولا نرفضه لمجرد التأسي بعصر أياً كان هذا العصر، لسببين بسيطين واضحين: أولهما أننا في عصر غير العصر وثانيهما أن الإسلام لا يتنافى مع روح العصر، أي عصر، في كل ما هو إنساني وسمح وعادل.

الواقعة الثانية:
بعد وفاة الإمام على بن أبي طالب بطعنات من عبد الرحمن بن ملجم (دعا عبد الله بن جعفر بابن ملجم، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فجعل يقول:"إنك يا ابن جعفر لتكحل عيني بملمول مض"أي بمكحال حار محرق"ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع، فجزع من ذلك، فقل له ابن جعفر: قطعنا يديك ورجليك، وسملنا عينيك، فلم تجزع، فكيف تجزع من قطع لسانك، قال: إني ما جزعت من ذلك خوفاً من الموت، لكني جزعت أن أكون حياً في الدنيا ساعة لا أذكر الله فيها. ثم قطع لسانه، فمات)، والرواية يذكرها ابن سعد مضيفاً إليها حرقة بعد موته ويذكرها ابن كثير دون ترجيح ويقتصر الطبري وابن الأثير على الحرق بعد القتل.


والرواية لا تعبر في رأينا عن روح الإسلام أو تعاليمه، حتى لو اقتصرت على حرق الجثمان بعد القصاص فقد نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور، ونهى (علي) قبل وفاته في رواية لابن الأثير عن المثلة بقاتله، لكنها تعبر من وجهة نظرنا عن روح عصر، سادته القسوة، وتحجر القلب وكان مقبولاً فيه أن يحدث ما فعله عبد الله بن جعفر بابن ملجم، دون استنكار، بل ويكمل المشاهدون المشهد بحرق الجثمان، بينما أضافت الحضارة إلى سلوكنا كثيرا من الإحساس بعذاب الآخرين، وصعوبة تقبل التمثيل بهم أو تعذيبهم، بل إنه من الصعب أن نتصور صمود مجموعة من المشاهدين لمثل ما فعله عبد الله بن جعفر، بكلب ضال أو بقط شارد..

غير أن لكل حقيقة وجهين، وما أيسر أن يجد أنصار (الكربون) تبريراً لفعل عبد الله بن جعفر، وللإقتداء به، بإلصاق تهمة الإفساد في الأرض بابن ملجم، والتأسي بالحسن والحسين، حيث لم يذكر عنهما أنهما أنكرا التمثيل بالجثمان بحرقه بعد القصاص. ولعلنا نتساءل ونحن نتأمل صمود عبد الرحمن بن ملجم، وصبره على قطع أطرافه وسمل عينيه بالحديد المحمى ثم جزعه عند قطع لسانه (حتى لا تمر عليه لحظة لا يذكر فيها الله).. هل هناك مثال أبلغ من هذا المثال، على ما يمكن أن يؤدي إليه التطرف عندما يتسلط على الوجدان فلا يميز المتطرف بين الكفر والإيمان، ويصل به الأمر إلى قتل على ابن أبي طالب، والتلهي عن المثلة به بقراءة القرآن، والجزع فقط عند قطع اللسان، حتى لا يحرم لحظة من ذكر الرحمن؟.

لا جديد إذن تحت الشمس، وقد لا نجد في زماننا نظيراً لعلي، لكننا نجد كثيراً من أمثال عبد الرحمن..
ونعود إلى هواة الكربون..


أليس الأجدر بهم، رحمة بنا، وبالإسلام، أن نلتزم بالقرآن، وبالسنة في شئون العبادة، وأن نترك في نفس الوقت، مساحة من أذهاننا للتعرف على العصر والالتقاء معه، وقبول ما يأتي به من قيم تتناسق مع جوهره، ولا تتناقض مع الإيمان والعقيدة، وأن نقبل ما نقبل، ونترك ما نترك، بقلب مؤمن وفكر مفتوح، فلا نرفض حقوق الإنسان لأنها أتت من الأعاجم، ولا نرفض الديموقراطية لأنها بدعة، ولا نرفض عصرنا على إطلاقه، ولا نقبل عصر الراشدين على إطلاقه، ونستخدم العقل في النقل، والكربون في طبع مستحدثات الحضارة، تلك التي لا علاقة لها بالفكر أو العقيدة، وإنما علاقتها وطيدة بالتقدم، ذلك الذي أزعم أنه ليس ركنا من أركان الإسلام، بل هو الإسلام.

النتيجة الثانية:
أن قواعد الدين ثابتة، وظروف الحياة متغيرة، وفي المقابلة بين الثابت والمتغير، لا بد وأن يحدث جزء من المخالفة، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل، فقد كان الأمر ينتهي دائما بتغير الثوابت الدينية، وقد حدث هذا دائماً ومنذ بدء الخلافة الراشدة وحتى انتهت، وتغيير الثوابت هو ما نسميه بالاجتهاد، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقاً، لكنه قائم ومتاح، وما أوردناه من أمثلة لاجتهادات عمر يصلح دليلاً على ما نقول، غير أنه في بعض الأحيان تفرض تعقيدات الحياة نوعاً من المخالفات، الحادة ليس فيه شئ من تناغم الاجتهاد في ربطة بين الأسباب والنتائج، فتصبح المخالفة صريحة وواضحة لا يمكن تبريرها بالاجتهاد لافتقاد أسبابه، وإنما تبرر فقط بأن عدم المخالفة مستحيل أو في احسن الأحوال غير ممكن .


وقد حدث ذلك في عهد الراشدين كما يحدث في كل عهد، ومثاله ما حدث عقب مقتل عمر ابن الخطاب، حين انطلق ابنه عبيد الله ابن عمر، و قتل ثلاثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده، ولم يثبت ذلك في حق أحد منهم، وكان أحدهم الهرمزان، الذي أسلم وصح إسلامه، وقد واجه عثمان هذا الموقف في بدء ولايته وكان رأي الدين فيه واضحاً، أعلنه علي وأصر عليه، وهو أن يقتل عبيد الله بدم من قتل، لكن عثمان لم يملك إلا المخالفة لأسباب (إنسانية)، فقد تساءل الناس في شفقة، أيقتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟ ألا يكفي آل عمر قتل عمر؟، أيفجعون فيه ثم في ولده قبل أن تجف دموعهم عليه؟.. منطق.. وإنسانية.. وظروف متغيرة.. لكن حكم الدين ثابت وواضح ولا لبس فيه.. حكم الدين هو القصاص، ولا بد من قتل عبيد الله..

ويقال أن عمرو بن العاصي أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان، وسأل عمرو أن يخرجه من المأزق الصعب، فسأله عمرو: هل قتل الهرمزان في ولاية عمر؟ فأجابه عثمان: لا كان عمر قد قتل، فسأله ثانية: وهل قتل في ولايتك؟ فأجابه عثمان: لا، لم أكن قد توليت بعد، فقال عمرو: إذن يتولاه الله..

والشاهد هنا أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله، ولم يتحمل عبيد الله وزر القتل أو حتى دية القتلى، وهو ما رفضه علي، الذي ظل يتوعد عبيد الله كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله بدم الهرمزان، وما أن تولى علي حتى هرب عبيد الله إلى جيش معاوية، وحارب عليا إلى أن قتل في معركة صفين..
ويشاء القدر أن يقع على نفس المأزق، بل ربما بصورة أعقد، فقد ولى ولم يقدر على قتله عثمان لأنهم كانوا مسيطرين على المدينة، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم، وعندما أعلن معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع علي إليه قتله عثمان، فوجئ علي بجيشه يهتف في صوت واحد، كلنا قتلة عثمان، فزاد الموقف تعقيدا، وأصبح مستحيلاً على الإمام علي أن يثأر من القتلة أو حتى يحاسبهم..


هي الحياة وليست الجنة، والبشر وليس الملائكة، وخلا عصر النبوة لا يوجد عصر للنقاء المطلق، أو انعدام المخالفة المطلق وكلما تغير العصر أو تقدم، تعددت المتغيرات، وزادت المخالفات، وإذا كانت الاجتهادات واسعة، والمخالفات واردة، قبل أن يمر ربع قرن على وفاة الرسول، وفي عهد معاصريه فكيف بنا بعد أربعة عشر قرناً من وفاة الرسول، ألا نتوقع أن يزداد حجم (المخالفات الاضطرارية)، وأن نتوسع في (الاجتهادات الضرورية)، وأن نقبل بحد أدنى من تطبيقات الدين، أقل بكثير مما قبله سلف أصلح، في عصر أكثر تخلفاً، وأقل تعقيداً انغلاقاً، وأكثر اتفاقاً.. الحقيقة أن القارئ الحرية كل الحرية في أن يرفض ما أقول وأن يستنكر ما أتوصل إليه، وما أراه رغم كل ما أتوقعه من استنكار واعتراض، حقاً وعدلاً، وأمراً واقعاً لا مهرب منه، وسوف يرى القارئ فيما سنذكره عن خلفاء بن أمية وبنى العباس، ما يؤكد له صحة ما نقول، وحقيقة ما ندعى..
  رد مع اقتباس
قديم 05/06/2008   #26
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


قراءة جديدة في أوراق الأمويين

للقارئ الآن وهو ينتقل معنا من عصر الراشدين إلى ما يليه، أن يهيئ ذهنه للدعابة، ووجدانه للأسى، فحديث ما يلي الراشدين كله أسى مغلف بالدعابة، أو دعابة مغلفة بالأسى، أما المجون فأبوابه شتى، وأما الاستبداد فحدث ولا حرج.

ليسمح لنا القارئ في البداية أن نقص عليه ثلاث قصص موجزة، يفصل بينها زمن يسير، واختلاف كثير، وهي إن تنافرت تضافرت، مؤكدة معنى واضحاً، وموضحة مساراً مؤكداً، ومثبتة ما لا يصعب إثباته، وما لا يسهل الهروب منه.

القصة الأولى:
عام 20 هـ وقف عمر خطيباً على منبر الرسول في المدينة، وتحدث عن دور الرعية في صلاح الحاكم وإصلاحه فقاطعه أعرابي قائلاً: والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فانبسطت أسارير عمر، وتوجه إلى الله حامداً شاكراً، وذكر كلمته المأثورة المشهورة: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر، من يقومه بحد السيف إذا أخطأ …


القصة الثانية:
عام 45هـ قال ابن عون: كان الرجل يقول لمعاوية: والله لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنك فيقول: بماذا؟ فيقول: بالخشب فيقول: إذن نستقيم. (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص195)


القصة الثالثة:
عام 75هـ خطب عبد الملك بن مروان، على منبر الرسول في المدينة، بعد قتل عبد الله بن الزبير قائلاً (والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه).


ثم نزل ثلاث قصص موجزة، لكنها بليغة في تعبيرها عن تطور أسلوب الحكم، واختلافه في عهود ثلاثة، أولها عهد عمر بن الخطاب، درة عهود الخلافة الراشدة، وثانيها عهد معاوية ابن أبي سفيان مؤسس الخلافة الأموية، وثالثها عهد عبد الملك ابن مروان، أبرز الخلفاء الأمويين بعد معاوية، وأشهر رموز البيت المرواني، الذي خلف البيت السفياني بعد وفاة معاوية بن يزيد، ثالث الخلفاء الأمويين.

أما القصة الأولى:
فهي نموذج لصدق الحاكم مع الرعية، وصدق الرعية مع الحاكم، ونحن لا نشك ونحن نقرأها في أن الأعرابي كان صادقاً كل الصدق في قوله، وأنه كان يعني تماماً ما يقول، وأنه كان على استعداد بالفعل لرفع السيف في وجه عمر وتقويمه به إن لزم الأمر ونحن لا نشك أيضاً في أن عمر كان يدرك تماماً أن الأعرابي صادق في مقولته، وأنه لهذا سعد، ومن أجل هذا حمد الله، وكان في سعادته وحمده صادقاً كل الصدق، مع الله، ومع نفسه، ومع الأعرابي، وباختصار فنحن أمام حوار تؤدي فيه الكلمات دورها الطبيعي، حيث تعبر عن دخائل النفوس، في دقة، ووضوح، واستقامة.

وأما القصة الثانية :
فهي نموذج رائع لخداع الكلمات حين يصبح للعبارة ظاهر وباطن، وللكلمة مظهر ومخبر، فالرجل في تهديده أقرب للمداعبة، وأميل إلى الرجاء، ومعاوية في رده عليه يحسم الموقف بتساؤله (بماذا)؟ وهو تساؤل يعكس ثقة عالية في النفس، وهي ثقة تهوى فوق رأس الرجل ثقيلة وقاطعة، شأنها شأن السيف الحاسم البتار، وما أسرع ما ينسحب الرجل سريعاً محولاً الأمر كله إلى الدعابة، وهنا يدرك معاوية أن الرجل قد ثاب إلى رشده، فيعيد السيف إلى غمده الحريري، وينسحب هو الآخر في مهارة وخفة، مرضياً غرور الرجل، ما دام الخشب هو السلاح، وما دام القصد هو المزاح، والقارئ للحوار لا يشك في أن الرجل قال شيئاً وقصد شيئا آخر، وأن معاوية قال شيئاً وقصد شيئا آخر، وأن كلا الرجلين فهم قصد الآخر، فكـَّر في الوقت المناسب، وفـَّر في الوقت المناسب وأن الرجل في كـّرِه نحو معاوية، وفي فـّره منه لم يكن أبداً كجلمود صخر وإنما كان مثل كرة القش، ظاهرها متماسك وباطنها هش.


وننتقل إلى القصة الثالثة:
وهي أقرب من القصة الأولى في وضوحها وصراحتها واستقامة ألفاظها، غير أنها هذه المرة تعلن عكس ما أعلنه عمر، وتهدد بالقتل في حسم وصراحة، ليس لمن يخالف الأمير ويعترض عليه، وليس لمن يرفع في وجه السيف أو حتى الخشب، بل لمن يدعوه إلى(تقوى الله) وقد خلد عبد الملك نفسه بذلك، فوصفه الزهري بأنه أول من نهى عن الأمر بالمعروف.


هذه قصص ثلاث توضح كيف تطور الأمر من خلافة الراشدين إلى خلافة معاوية، الرجل المحنك المجرب، الناعم المظهر، الحاسم الجوهر، المؤسس للملك، بكل ما يستوجبه التأسيس من سياسة وحنكة، ومظهر ومخبر، ثم كيف أصبح الأمر عندما استقر الملك، ولم يعد هناك داع للخفاء، أو مقتضى للخداع أو المداهنة، وبمعنى آخر فإن القصص الثلاث تنتقل بنا بين حالات ثلاث، أولها العدل الحاسم، وثانيها الحسم الباسم، وثالثها القهر الغاشم.
وكل ذلك خلال نصف قرن لا أكثر، وقد رأينا أن نوردها في بدء حديثنا عن خلافة الأمويين لدلالتها، حتى يخلد القارئ معنا إلى قدر من الرياضة الذهنية والابتسام، بعيداً عن صرامة السرد ومرارة الحقائق.



  رد مع اقتباس
قديم 05/06/2008   #27
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ولعل القارئ قد تعجب من اجتراء عبد الملك، لكنا نسأله من الآن فصاعداً أن يوطن نفسه على العجب، وأن يهيئ وجدانه للاندهاش، وأن يحمد لعبد الملك صدقه مع نفسه ومع الناس، فسوف يأتي بعد ذلك خلفاء عباسيون يخرجون على الناس بوجه مؤمن خاشع، وتسيل دموعهم لمواعظ الزهاد، ثم ينسلون إلى مخادعهم فيخلعون ثياب الورع، وتلعب برؤوسهم بنت الحان، فينادمون الندمان، ويتسرون بالقيان، ويقولون الشعر في الغلمان، وهم في مجونهم لا يتحرجون حين تناديهم جارية لعوب بأمير المؤمنين، أو يخاطبهم مخنث (معتدل القامة والقد) بخليفة المسلمين، مادمنا نتحدث عن وضوح عبد الملك، وصدقه مع نفسه، فلا بأس من قصة طريفة يذكرها السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء ص 217):

(قال ابن أبي عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك، والمصحف في حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك).
ونحن لا نجد تناقضاً بين أفعال وأقوال عبد الملك بعد ولايته، وبين ما تـُحدثنا به نفس المراجع عن فقهه وعلمه ومن أمثلة ذلك:


(قال نافع: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميراً ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك ابن مروان، وقال أبو الزناد: فقهاء المدينة سعيد بن الملك بن مروان، وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب، وقال عبادة بن نسى: قيل لابن عمر: أنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: أن لمروان ابنا فيها فسألوه).


نقول لا تناقض على الإطلاق لأن ذلك كله كان قبل ولايته، فلما ولي أدرك أن عهد النسك والعبادة قد ولى، وأطبق المصحف وأطلق شيطان الحكم والإمارة وصدق في قوله للمصحف أن هذا هو آخر العهد به، ودليلنا على ذلك أن ساعده الأيمن كان الحجاج، وإذا ذكر الحجاج هربت الملائكة وأقبلت الشياطين، وقد عرف عبد الملك للحجاج مواهبه وأدرك أنه بالحجاج قد وطد دعائم الحكم وأرسى قواعد الخلافة، فكانت وصيته الأخيرة لولده وولى عهده الوليد أن يحفظ للحجاج صنيعه وأن يلزمه وزيراً ومشيراً، وقد كان .

بهواه، ولنا أن نذكرهم أنه فعل ما فعل، وسفك ما سفك وقتل من قتل، تحت عباءة إمارة المؤمنين، وخلافة المسلمين، وأن المسلمين جميعاً كانوا يرددون خلف أئمتهم كل جمعة دعاء حاراً أن يعز الله به الدين، وأن يوطد له دعائم الحكم والتمكين، وأن يديمه حامياً للإسلام وإماماً المسلمين وأن فقهاء عصره كانوا يرددون حديثاً تذكره لنا كتب التاريخ، مضمونه أن من حكم المسلمين ثلاثة أيام، رفعت عنه الذنوب ولعلنا نظلم عبد الملك كثيراً إذا قيمناه من زاوية العقيدة، فلم يكن عبد الملك فلتة بين من سبقه أو من لحقه، وكان في ميزان السياسة والحكم حاكماً قديراً، ورجل دولة عظيماً بكل المقاييس، فقد أخمد فتنة عبد الله بن الزبير، وغزا أرمينية، وغزا المغرب، وغزا المدن، وحصن الحصون، وضرب الدنانير لأول مرة، ونقل لغة الدواوين من الفارسية إلى العربية، وقد لخص أسلوبه في الحكم في وصيته لابنه الوليد وهو يحتضر:

يا وليد اتق الله فيما أخلفك فيه (لاحظ مفهوم الحكم بالحق الإلهي في هذه العبارة)، وانظر الحجاج فأكرمه فأنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت أحوج إليه منه إليك، وادع الناس إذا مت إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا – ثم أخذته غفوة فبكى الوليد فأفاق وقال – ما هذا؟ أتحن حنين الأمة؟ إذا مت فشمر وائتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه.)

وقد حفظ الوليد الوصية وقام بها خير قيام فكان رجل دولة وحكم من طراز فريد، وكان فاتحاً عظيما للثغور، فقد فتح الهند والأندلس، وكان أبعد ما يكون عن حديث الدين والعقيدة فلم يذكر عنه فيهما لا قليل ولا كثير، إلا بضعة أقوال عن أنه كان يلحن كثيراً في قراءاته للقرآن، وفي خطبه على المنابر، وقد حكم عبد الملك عشرين عاماً وحكم الوليد عشرة أعوام، أي أن عبد الملك والوليد حكما ثلاثين عاماً من اثنتين وتسعين عاماً هي عمر الدولة الأموية .
  رد مع اقتباس
قديم 06/06/2008   #28
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


تلك الدولة التي لا يجوز أن نتحدث عنها دون أن نتوقف أمام ثلاثة خلفاء هم اليزيدان (يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك) والوليد بن يزيد.

أما يزيد بن معاوية، فقتله للحسين معروف، وقد أفاض فيه الرواة بما لا حاجة فيه لمزيد، غير أن هناك حادثة يعبرها الرواة في عجالة، بينما نراها أكثر خطراً من قتل الحسين، لأنها تمس العقيدة في الصميم، وتضع نقاطاً على الحروف إن لم تكن النقاط قد وضعت على الحروف بعد، وتستحق أن يذكرها الرواة، وإن يتدارسها القارئ في أناة، وأن يتذكر أنها حدثت بعد نصف قرن من وفاة الرسول، فقط.. نصف قرن..

لقد هاجم جيش يزيد المدينة، حين خلع أهلها بيعته وقاتل أهلها قليلاً ثم انهزموا فيما سمى بموقعة (الحرة) فأصدر قائد الجيش أوامره باستباحة المدينة ثلاثة أيام قيل أنه قتل فيها أربعة آلاف وخمسمائة، وأنه قد فضت فيها بكارة ألف بكر، وقد كان ذلك كله بأمر يزيد إلى قائد جيشه (مسلم بن عقبة):

ادع القوم ثلاثا فأن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليها فأبحها ثلاثاً، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس)

ولم يكتف مسلم باستباحة المدينة بل طلب من أهلها أن يبايعوا يزيد على أنهم (عبيد) له، يفعل فيهم وفي أموالهم وفي أولادهم ما يشاء، وهنا يبدأ مسلسل المفاجآت في الإثارة، فالبعض ما زال في ذهنه (وهم) أنه في دولة الإسلام، وأنه قادر على إلزام مسلم ويزيد بالحجة، بما لا سبيل إلى مقاومته أو حتى مناقشته، وهو لا يقبل شروط مسلم، ويرد عليه كأنه يلقمه حجراً: (أبايع على كتاب الله وسنة رسوله).

ولا يعيد مسلم القول، بل يهوى بالسيف على رأس العابد الصادق في رأينا، والرومانسي الحالم في رأى مسلم، ويتكرر نفس المشهد مرات ومرات، هذا يكرر ما سبق، فيقتل، وهذا يبايع على سيرة عمر فيقتل، ويستقر الأمر في النهاية لمسلم، وما كان له إلا أن يستقر، فالسيف هنا أصدق أنباء من الكتب، وهو سيف لا ينطق بلسان ولا يخشع لبيان ويصل الخبر إلى يزيد، فيقول قولاً أسألك أن تتمالك نفسك وأنت تقرؤه، وهو لا يقوله مرسلاً أو منثوراً، بل ينظمه شعراً، اقرأه ثم تخيل وتأمل وانذهل:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها واستمر القتل في عبد الأشل



والذي يعنينا هو البيت الأول الذي يقول فيه (ليت أجدادي في موقعة بدر شهدوا اليوم كيف جزع الخزرج من وقع الرماح والنبل)

أما من هم أجداده، فواضح أنهم أعداء الخزرج في موقعة بدر، والخزرج أكبر قبائل الأنصار، وكانوا بالطبع في بدر ضمن جيوش المسلمين، وهنا يزداد المعنى وضوحاً، فيزيد خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، يتمنى لو كان أجداده من بني أمية، ممن هزمهم الرسول والمهاجرون والأنصار في بدر، يتمنى لو كانوا على قيد الحياة، حتى يروا كيف انتقم لهم من الأنصار في المدينة، ثم نجد من ينعت الخلافة بالإسلامية .

  رد مع اقتباس
قديم 06/06/2008   #29
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ولا يتوقف أمام هذه الحادثة لكي يقطع الشك باليقين وليتحسر على الإسلام في يد حكام المسلمين، وليترحم على شهداء الأنصار انتقاماً منهم لمناصرتهم للرسول والإسلام، وعلى يد من، على يد (أمير المؤمنين) وحامي حمى الإسلام والعقيدة، ويروي ابن كثير في (البداية والنهاية) الأبيات السابقة في موضعين أحدهما موقعة الحرة وثانيهما عندما وصل رأس الحسين إلى يزيد.

ولو صدقت الثانية لكانت أنكى وأمر، لأن الانتقام هنا مباشر من الرسول في آل بيته، ويضيف ابن كثير بيتاً يذكره متشككاً دون أن يقطع الشك باليقين، داعياً باللعنة على يزيد إن كان قد قاله والبيت يقول:


لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحي نزل

ولعلى استبعد أن يقول يزيد هذا، فللفكر درجات، وللمروق حدود، وللتفلت مدى، وكل ذلك لم يشفع لفقهاء عصر يزيد ولكـُتاب تاريخ الخلافة الإسلامية أن يذكروا أن يزيد مغفور له، وأن ذلك ثابت بالأحاديث النبوية، فابن كثير يذكر (البداية والنهاية – المجلد الرابع الجزء الثامن ص 232.):

(كان يزيد أول من غزا مدينة القسطنطينية في سنة وأربعين.. وقد ثبت في الحديث أن رسول الله قال:"أول جيش يغزوا مدينة قيصر مغفور له")... ولا تعليق
وننتقل إلى يزيد بن عبد الملك، التاسع في الترتيب بين خلفاء بني أمية، وأحد أربعة تولوا الخلافة من أبناء عبد الملك بن مروان هم على الترتيب، الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ونحن نخص منهم يزيد بالحديث، لأنه أتى في أعقاب عمر بن عبد العزيز، الذي قيل عنه أنه ملأ الدنيا عدلاً طوال عامين، فإذا بيزيد يأتي بعده لكي يملأها مغاني وشراباً ومجوناً وخلاعة، طوال أربعة أعوام، ويذكر السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 246.):
أنه ما أن ولي (حتى أتى بأربعين شيخاً فشهدوا له ما على الخليفة حساب ولا عذاب).
وهنا يدرك القارئ أن العلة لم تقتصر على الخلفاء، وإنما امتدت أيضاً إلى العلماء والفقهاء، وأنه ما دام هؤلاء يفتون أنه لا حساب على يزيد ولا عذاب ولا عقاب، فليفعل يزيد ما يشاء، وليتفوق على خلفاء الدولة الإسلامية كلها في بابين لا يطاوله فيهما أحد وهما العشق والغناء، فقد بدأ خلافته بعشق (سلامة) وانتهت خلافته، بل وحياته بسبب عشقه لجارية أخرى اسمها (حبابة).

وقبل أن نتحدث عن بعض من ذلك، نذكر له أيضاً رغبة تفرد بها بين الخلفاء، وذكرت له، ونقلت عنه، وهي رغبته في أن (يطير)..

وقصة ذلك أنه كان يوماً في مجلسه، فغنته حبابة ثم غنته سلامه (فطرب طرباً شديداً ثم قال: أريد أن أطير، فقالت له حبابة: يا مولاي، فعلى من تدع الأمة وتدعنا)..
طبعاً، ماذا يفعل المسلمون لو طار الخليفة، من يملأ أنحاء الدولة الإسلامية طرباً وغناء، وعشقاً واشتهاء، ويذكر المسعودي (أن أبا حمزه الخارجي قال: اقعد يزيد حبابة عن يمينه وسلامه عن يساره، وقال أريد أن أطير، فطار إلى لعنة الله وأليم عذابه.


ويروي ابن كثير قصة وفاة يزيد على النحو التالي (البداية والنهاية لابن كثير – مجلد 5 جزء 9 ص 242 ويذكر المسعودي نفس الرواية في مروج الذهب ج 3 ص 207):
(وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبّابة – بتشديد الباء الأولى وكانت جميلة جداً، وكان قد اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان: لقد هممت أن أحجر على يديك، فباعها، فلما بقى أفضت إليه الخلافة قالت امرأته سعدة يوماً: يا أمير المؤمنين، هل بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء الستارة، وقالت له أيضاً:

يا أمير المؤمنين، هل بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء؟، قال: أو ما أخبرتك؟ فقالت هذه حبابة – وأبرزتها وأخلته بها وتركته وإياها – فحظيت الجارية عنده وكذلك زوجته أيضاً، فقال يوماً أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك، وجمع إليه في قصره ذلك حبابة.

وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة، فبينما هو معها في ذلك القصر، على أسر حال وأنعم بال، وبين أيديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك، فشرقت بها وماتت، فمكث أياماً يقبلها ويرشفها وهي ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أياماً عندها على قبرها هائماً ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه .
  رد مع اقتباس
قديم 06/06/2008   #30
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


والقصة كما يذكرها ابن كثير، نموذج فريد لصحيح العشق، وأصيل الغرام، ولا بأس أن تذوب لها قلوب الصبية، وتنفطر لها قلوب الصبايا، وتسيل من أجلها قلوب المحبين، لكنها – في تقديرنا – شاذة أشد ما يكون الشذوذ، بعيدة أكثر ما يكون البعد، عندما يتعلق الأمر بأمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخادم الحرمين، وحامي حمى الإيمان، والملتزم بأحكام القرآن، وبسنة نبي الرحمن.

ولعلنا نتساءل ومعنا كل الحق، ما بال المطالبين بعودة الخلافة يستنكرون الحانات، ويفسقون المغنيات ويكفرون الراقصات، بينما هذا من ذاك بل هذا بعض ذاك، ولقد عاصر يزيد أئمة كباراً، وفقهاء عظاماً من أمثال الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهم، وكانوا أقرب ما يكونون إلى التقية، وكانوا يوصلون بالعطايا ويتحفون بالهدايا، ويؤدون أحياناً دوراً مرسوماً بدقة، محدداً بحنكة، يظهر فيه الخليفة مسبل العينين .

يسألهم فيجيبون، ويطلب منهم الموعظة فيعظون، وربما خوفوه من النار، وعذاب الجبار، ووحدة القبر، وموقف الحشر، وهو منصت خاشع، تسيل دموعه مدراراً، بينما هم مدركون لحدود الحديث، ومدى الموعظة، لا يتجاوزون إلى التعريض بالخلافة، أو التهديد بتأليب الرعية، أو الحكم بالكفر، ذلك كله خارج السيناريو المرسوم والمعلوم، والذي ينتهي دائماً بصراخ الخليفة ونحيبه، حتى يخشى عليه أو يغشى عليه، أيهما أقرب إلى قدراته، وأنسب لملكاته، وما أسرع ما ينتقل الأمر إلى الرعية بسرعة البرق، فيتداولونه في خشوع وإيمان، وينقله إلينا كتاب الديوان، فنشربه كما شربته رعية يزيد وغير يزيد، ونشرب معه المزيد، مما تسطره أقلام المحترفين، وتردده على مسامعنا ألسنة المكفرين والجهاديين، ما علينا، ففي الجعبة مزيد.

غير أنا نتوقع أن يعترض علينا معترض، رافعاً في وجهنا ما يراه حجة، منكراً علينا ما أنكرناه على يزيد، مؤكداً لنا أن يزيد لم يرتكب منكراً، ولم يقترف إثماً، فالتسري بالجواري والتمتع بما ملكت الأيمان أمر لا ينكره الشرع، ولا يشترط فيه القران، ولا ينهى عنه القرآن، وهو رخصة ترخص بها يزيد، وترخص بها كبار الصحابة قبل يزيد، والله يحب أن تؤتي رخصة كما تؤتي عزائمه.

وقد كان يزيد ككثيرين في عصرنا، يتعشقون الرخص، ويسبقون بها العزائم، وهنا نقول له قف، وحاذر فأنك تركب صعباً، فنحن وأن وافقناك على أن التسري بالجواري والتمتع بها ملكت الأيمان، لا يتناقض مع روح عصر يزيد، ولا يخالف أحكام القرآن، إلا أنك يجب أن تدرك أن للإسلام روحاً، وللدين جوهراً، وللرخص حدوداً.

وليس منطقياً أن تكون إباحة التسري سبيلاً إلى التهتك، أو التمتع بما ملكت الأيمان وسيلة لهجر الإيمان، أو الحلال سبيلاً إلى التحلل، وإذا كنا نناشد الرعية غض البصر، ونتوعدهم بالعذاب إذا زنى النظر، فلا أقل من أن ننهى الخليفة عن التفرغ للخلوة على أسر حال وأهنأ بال، لاثماً راشفاً متمنياً أن يطير، لا لشيء إلا لأن الله أعطاه جناحين، من مال وسلطان، فتوسع فيما ملكت الأيمان.

ولعل يزيد لم يكن في ذلك فلتة، فقد روي عن الخليفة المتوكل – العباسي أنه: (كان منهمكاً في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سرية، ووطىء الجميع) (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 349 – 350).

وقد تثير هذه القدرات الخارقة لعاب منتجي أفلام (البورنو) في عصرنا الحديث، لكنها ممجوجة مكروهة إن كان الحديث عن الحكام، في الإسلام أو حتى في غير الإسلام، ولعل هذا كاف حتى يلزم المعترض علينا حده، ويثوب إلى رشده، ويتركنا ننتقل من حديث يزيد إلى حديث ولده، الوليد بن يزيد الذي أوصى له يزيد بالخلافة بعد أخيه هشام، ووفى هشام بعهده لأخيه، رغم ما كان يسمعه ويأتيه، من أخبار فسق الوليد ومجونه، وهي أخبار تأكدت بعد ولايته، حين فاق الوليد أباه بل فاق ما عداه، وفعل ما لم يفعله أحد في الأولين والآخرين، حيث يروي عنه أنه قد اشتهر بالمجون وبالشراب وباللواط وصدق أو لا تصدق، برشق المصحف بالسهام، وكان إلى جانب ذلك شاعراً مطبوعاً، سهل العبارة، يحسن اختيار الألفاظ ورويه .
  رد مع اقتباس
قديم 06/06/2008   #31
شب و شيخ الشباب اللامنتمي
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اللامنتمي
اللامنتمي is offline
 
نورنا ب:
Sep 2007
المطرح:
في عينيها !
مشاركات:
2,873

افتراضي



يَلزمني لُفافتي تبغ


وَ فنجانُ قهوة


كي أدققَ هذهِ النصوص جيداً


سأعود









" أعطني سـَريراً وكِتاباً تكونُ قد أعطيتني سـَعادتي "
  رد مع اقتباس
قديم 07/06/2008   #32
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


اقتباس:
كاتب النص الأصلي : اللامنتمي عرض المشاركة
يَلزمني لُفافتي تبغ

وَ فنجانُ قهوة
كي أدققَ هذهِ النصوص جيداً
سأعود
هي نصوص فيها كلام كبير , دفع كاتبها دمه ثمنا لها , تستحق القراءة و التدقيق , مرحبا بك
  رد مع اقتباس
قديم 07/06/2008   #33
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


وقد شاء الله أن يروقه هذه الموهبة حتى يخلد لنا آثاره شعراً يتناقله الرواة، ويتبعونه بالعياذ بالله، وبلا حول ولا قوة إلا بالله، وربما بشهادة أن لا إله إلا الله، ومن حسن حظ الوليد، وسوء حظ القارئ أن كثيراً من شعره وبعضاً من قصصه، لا نستطيع روايته لوقاحة ألفاظه، وشذوذ أفعاله، لكن لا بأس أن نبدأ حديث الوليد بالمدافعين عنه:

فقد (قال الذهبي: لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر والتلوط، فخرجوا عليه لذلك، وذكر الوليد مرة عند المهتدي فقال رجل: كان زنديقاً، فقال المهتدي: مه، خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق)

هذا حديث المدافعين عن الوليد، المنكرين أن يتهم بالكفر، أو أن يوصف بالزندقة، وهم في دفاعهم يسوقون حججاً هشة، فمن قائل أنه لم يتجاوز التلوط أو شرب الخمر، وكأن ذلك هين ويسير، ومن قائل أن الله أرحم من أن يجعل خلافته في زنديق، بينما نرى أن الله قد رحمنا بخلافة الزنادقة، من أمثال الوليد، حتى يعطي أمثالنا حجة نفحم بها المزايدين، المدعين أن الدولة لا تنفصل عن الدين، وأنهما معاً حبل الإسلام المتين، بينما حقيقة الأمر أن الإسلام في أعلى عليين، وأنه لا يضار إلا بالمسلمين، وعلى رأسهم الحكام باسم الإسلام، وإنه لا ضمان للمحكومين إن جار الحكام وأفسدوا، فبيعتهم مؤبدة، والشورى – إن وجدت – غير مُلزِمة، أو إن شئنا الدقة مقيدة.

وأقرأ معي ما فعل الوليد حين (قرأ ذات يوم –"واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد"– فدعا بالمصحف فنصبه غرضاً للنشاب"السهام"وأقبل يرميه وهو يقول:

أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم الحشر فقل يارب خرقني الوليد

وذكر محمد بن يزيد المبرد"النحوي"أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته عن ربه، ومن ذلك الشعر:

تلعب بالخلافة هاشمي بلا وحي أتاه ولا كتاب
فقل لله يمنعني طعامي وقل لله يمنعني شرابي

ولعل القارئ بعد قراءة ما سبق لا يذهل كما ذهلنا، ولا ينزعج كما حدث لنا، ونحن نذكر له أن الوليد حاول نصب قبة فوق الكعبة ليشرب فيها عام حج هو ورفاقه وأن حاشيته نجحت في إقناعه أن لا يفعل بعد لأى، وأنه في (تلوطه) راود أخاه عن نفسه، فالواضح من سيرته أنه أطلق لغرائزه العنان، حتى غلبت شهوة الغناء والشراب على الخاصة والعامة في أيامه كما يذكر المسعودي، وتألق نجوم الغناء في عصره، فكان منهم ابن سريج ومعبد والغريض وابن عائشة وابن محرز وطويس ودحمان، ولعله أدرك أنه تجاوز الحد، فلم يعد يعنيه أن يضيف إلى ذنوبه ذنباً، أو إلى سيرته مثلباً، شأنه في ذلك شأن ضعاف الإيمان، حين يقنطون من رحمة الله، فيضاعفون من معاصيهم، ونحن في هذا لا نلتمس له عذراً، وإنما نعبر عن رأيه هو في نفسه، حين أطلقه شعراً فقال:

اسقني يا يزيد بالقرقارة قد طربنا وحنت الزمارة
اسقني اسقني، فإن ذنوبي قد أحاطت فما لها كفارة

وبالفعل، فقد أحاطت به الذنوب، وتألب عليه الصالحون، وانتهى الأمر بخروج ابن عمه يزيد بن الوليد عليه، وقتله، بعد خلافة قصيرة استمرت عاماً وثلاثة أشهر وشاء القدر أن تكون خلافة يزيد أقصر، فلا تستمر إلا خمسة شهور يموت بعدها ليتولاها بعده شقيقه إبراهيم لمدة سبعين يوماً فقط ثم يعزل على يد مروان بن محمد، انتقاماً لمصرع الوليد بن يزيد، ثم ينتهي عصر الدولة الأموية بمصرع مروان على يدي العباسيين، بعد خلافة استمرت حوالي خمس سنوات.
  رد مع اقتباس
قديم 07/06/2008   #34
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ونتوقف قليلا قبل أن ننتقل إلى خلافة العباسيين، مستخلصين نتيجتين نوجزهما فيما يلي:

النتيجة الأولى:
أننا نشهد في الدولة الأموية عهداً مختلفاً كل الاختلاف عن عهد الراشدين، أضاف إلى فتوحات الإسلام الكثير، حتى امتدت الدولة الإسلامية من الهند شرقاً إلى الأندلس غرباً، وأضاف إلى سلطة الدولة وهيبتها وتماسكها الكثير، حيث لم يخرج فيها أحد من الأمويين على آخر، إلا في نهاية الدولة حين خرج يزيد على الوليد، ثم خرج مروان على يزيد فكان ذلك نذيراً بالنهاية، بينما حفل تاريخ العباسيين بكثير من الخروج والانقسام داخل الأسرة الحاكمة حتى قتل الإبن أباه، والأب ابنه، وشاع خلع الخلفاء وسمل أعينهم، وقتلهم بسحق مذاكيرهم، وغير ذلك من الأحداث على مدى الخمسمائة عام الأخيرة في حكم العباسيين.


وعلى حين يبدو أبو جعفر المنصور، والمأمون، رجال دولة متفردين في تاريخ الدولة العباسية، لا يناظرهم أحد، ولا يطاولهم مطاول، نرى أن الدولة الأموية على قصر عمرها قد حفلت برجال الدولة العظام، وعلى رأسهم معاوية، ورجل الدولة الأول في تاريخ الدولة الإسلامية كلها.

وقد يتساءل البعض، وأين عمر؟
ونرد عليه بأن عمر قد تفرد بأنه الوحيد في تاريخ الخلافة الإسلامية الذي يمكن أن يطلق عليه وصف (رجل الدين والدولة معاً)، بينما لا تجتمع الصفتان بعد ذلك لأحد، فهناك رجال الدين مثل علي بن أبي طالب، (رابع الراشدين)، وعمر بن عبد العزيز، (الأموي)، والمهتدي (العباسي).


وهناك رجال الدولة مثل (معاوية)، (عبد الملك بن مروان)، (الوليد بن عبد الملك)، (هشام بن عبد الملك)، وهم أربعة خلفاء حكموا سبعين عاماً، بينما حكم الفترة الباقية (اثنتين وعشرين عاماً) عشرة خلفاء بالتمام والكمال.
وحينما نذكر أسماء الخلفاء الأربعة السابقين مقترنا بلقب (رجل الدولة)، نضع في اعتبارنا هيبة الحكم، وفتح الثغور، وعمارة البلدان، وفي تقديرنا أن هؤلاء الخلفاء، قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بفصلهم بين الدين والدولة عند قيامهم بأمانة الحكم، ولعل موقف معاوية من (علي) مثال أوضح على ذلك، ولعل موقف عبد الملك بن مروان من المصحف عندما بلغته نبأ ولايته مثال أوضح، وقد أدرك كل منهم أنه لا يولى بصفته الأصلح دنياً، أو الأكثر إيماناً .


وإنما يولى بوسائل دنيوية محضة، وعليه إن أراد أن يستمر، أن يضع نصب عينه أن الولاية من جنس التولية، فكلاهما دنيا وسطوة وحكم، وقد أجاد الخلفاء الأربعة اختيار معاونيهم، فكان منهم عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، ومسلم بن عقبة، والحجاج بن يوسف الثقفي، وهم بموازين السلطة والسطوة رجال، وبمقاييس عصرهم قادة، وهم أهل الدهاء لا النقاء، والسيف لا المصحف، وقد أرتأوا جميعاً أن أسهل السبل لإسكات المعارض قطع رأسه، وأن الخوف إذا تمكن من النفوس توطن فيها، فمكنوه ووطنوه وتعهدوه بالرعاية حتى صار مارداً، وحذوا حذو مؤسس دولتهم معاوية، رجل الغاية لا الوسيلة، رجل الحكمة الشهيرة (إن لله جنوداً من عسل)، حيث يروى عنه أنه كان يضع السم لمعارضيه في العسل، وأنه هكذا كانت نهاية الحسن، والأشتر النخعي وغيرهم، ورغم أن أحداً لا يقر معاوية، أو غيره على فعالهم أو على الأقل لا يدعو للتأسي بهم، إلا أنه من الواجب أن نتعلم مما فعلوا درساً بليغاً...

إن على الحاكم ـ أي حاكم ـ أن يتعرف جيداً على ساحته، وأن يتمسك جيداً بأسلحته، وأن ينأى بنفسه وبحكمه عن استعارة سلاح الآخرين، أو الانتقال إلى ساحتهم، أو الرقص على أنغامهم، ولو حاول معاوية أو عبد الملك، ولو حاول مساعدهم مثل زياد أو الحجاج، أن يحتكموا إلى القرآن، أو يناظروا مخالفيهم حول صحيح الإيمان، أو يفسروا قراراتهم بتعاليم الإسلام، أو يتباهوا على المخالفين لهم والخارجين عليهم بالصلاح والتقوى ونظافة اليد ونقاء السريرة، لانتهي حكمهم قبل أن يبدأ، ولأخلى معاوية مكانه لحجر بن عدى، ولتنازل عبد الملك عن منصبه للحسن البصري، لكنهم احتكموا للسيف، وهو دستور عصرهم، فدانت لهم الدولة، وسهل عليهم الحكم، وربما سعدت الرعية بالاستقرار والأمن والأمان.

ولعل عصرنا لا يخلو من سيف متحضر هو الدستور، لا يسيل دماً وإنما يحفظ استقراراً، ولا يطيح برؤوس وإنما يلزمها جادة الصواب، وليس لحاكم في عصرنا، أو لنظام حكم في عالمنا المعاصر إلا أن يستوعب درس السابقين، بأسلوب العصر لا بأسلوبهم، وليس له أن يحاور الخارجين في ساحتهم، أو بسلاحهم أو أن يرقص على أنغامهم، وإنما عليه أن يلزمهم بالمحاورة في ساحته، فليس أمامه ولا أمامهم ساحة غير ساحة الدستور، وليس هناك من سلاح إلا القانون، وليس هناك من أنغام إلا الديمقراطية والشرعية .

ليحمدوا الله أن يجدوا فينا يزيداً، ولم يتطرف منا وليد، ولم يتول وزارة الداخلية في بلادنا حجاج، ولم يتملك منا عبد الملك، ولم يدع أحد من حكامنا أنه لا حساب عليه ولا عقاب، غاية ما في الأمر أنه يوكل إلينا حساب السياسة في أمور السياسة، ويحتكم أمامنا إلى الدستور ومؤسسات الدولة في أمور الحكم، ويترك ونترك حساب الآخرة إلى الله وليس إلى الجماعات الإسلامية أو أئمة المساجد المسيسين.
  رد مع اقتباس
قديم 07/06/2008   #35
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


النتيجة الثانية:
أن الشعر والأدب وفن العمارة والغناء بل وأكثر من ذلك مذاهب الفقه واجتهادات الفقهاء، قد بدأت في الظهور والتألق مع نهاية الدولة الأموية، ومع انحسار القيود (الشكلية) للدولة الدينية ووصلت للغاية في العصر العباسي الأول.
يكاد القارئ يلاحظ علاقة طردية بين دنيوية الدولة وتألق الفكر والأدب والعلوم والفنون والفقه، فحينما تزداد هذه يتألق أولئك، وعلى العكس من ذلك يضمحل كل شيء مع ازدياد سطوة الدين في الدولة الدينية إلا العبادة وقصص الزهاد وأقوال الصالحين.


ولا أحسب أن ما أذكره هنا استنتاج بقدر ما هو حقيقة بسيطة وواضحة، وقد مضى عهد الراشدين، وخلدت لنا كتب التاريخ سكناته وأحداثه، فلم تسمع فيه قصيدة لافتة، أو فنا يطرب أو يهز الوجدان أو يبقى للأجيال، ذلك لأن الفن حرية، والحرية لا تتجزأ، والفنان لا يتألق إلا إذا أحس بفكره طليقاً، وبوجدانه منطلقاً، وبوجدان الآخرين مرحباً، وبأذهانهم سعيدة بإبداعاته، مستعدة أن تغفر له شطحاته، مقبلة على الحياة لا على الموت، متفتحة للنغم لا للوعيد.

ولا أحسب أن ذلك كله جزء من طبيعة الدولة الدينية، بل هو متنافر معها كل التنافر، متناقض مع قواعدها، أشد التناقض، ولعل إحدى مشاكل الداعين للدولة الدينية أنهم يدركون أنها تحجر على كل إبداع أو تفتح أو إجهاد للذهن أو اجتهاد للعقل، وأن كل ما يعيشه الناس ويتقبلونه تقبلاً حسناً، لا يمكن قبوله بمقاييس الدولة الدينية بحال، فالأغاني مرفوضة، والموسيقى مكروهة عدا الضرب على الدفوف، والمغنيات فاجرات نامصات متنمصات، والمتغنون بغير الذكر ومدح الرسول فاسقون يلهون المسلمين عن ذكر الله ويدعونهم إلى الفاحشة، وممارسة المرأة للرياضة فتنة وإثارة للفتن، واختلاطها بالرجال جهر بالفسق،

والتمثيل مرفوض لأنه كذب، ولأن هزله جد وجده هزل ورسم الصور للأحياء حرام، وإقامة التماثيل شرك، والديمقراطية مرفوضة لأنها حكم البشر وليس حكم الله، ومعاملة أهل الذمة على قدم المساواة إن لم تكن منكراً فهي مكروهة، ولا ولاية للذمي، وباختصار عليهم أن يهدموا كل شيء، ويظلموا كل شيء، ويمنعوا كل شيء، وأن تقام دولتهم على أنقاض كل شيء، وبديهي أن الحديث في هذا الإطار عن حرية الفكر لغو، وأن ادعاء حرية العقيدة هراء، وأن تصور نهضة الأدب أو الفن نوع من أحلام اليقظة لا يستقيم مع الواقع، ولا يستقيم الواقع معه، ولعل هذا أحد أسباب حرصهم على الامتناع عن بلورة برنامج سياسي متكامل، به قدر قليل من المواعظ والكلمات الطنانة، وقدر كبير من تصور الواقع أو معايشته، وبه قدر ولو معقول من احترام عقولنا، ناهيك عن احترام مشاعرنا.


وننتقل إلى دولة العباسيين....
  رد مع اقتباس
قديم 07/06/2008   #36
شب و شيخ الشباب Abu ToNi
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ Abu ToNi
Abu ToNi is offline
 
نورنا ب:
Mar 2006
المطرح:
العمى ليه هيك ؟
مشاركات:
5,248

افتراضي


قبل ما تنتقل على دولة العباسيين بحب اتشكرك على تعبك العظيم اللي عامله

الحقيقة غلبناهم لاصابيعك بالنسخ واللصق

بتقدر تحط لنا الكتاب كله متل ما هوي وتريحنا

رايحة تزور
كوخ مسحور
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 20:28 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.37848 seconds with 12 queries