أخوية  

أخوية سوريا: تجمع شبابي سوري (ثقافي، فكري، اجتماعي) بإطار حراك مجتمع مدني - ينشط في دعم الحرية المدنية، التعددية الديمقراطية، والتوعية بما نسميه الحد الأدنى من المسؤولية العامة. نحو عقد اجتماعي صحي سليم، به من الأكسجن ما يكف لجميع المواطنين والقاطنين.
أخذ مكانه في 2003 و توقف قسراً نهاية 2009 - النسخة الحالية هنا هي ارشيفية للتصفح فقط
ردني  لورا   أخوية > فن > المكتبة > قرأت لك

إضافة موضوع جديد  إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 10/01/2008   #19
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


بل إن نجيب محفوظ يلجأ إلي الحوار أو المونولوج الداخلي ويكشف هذا عن تحليلات نفسية عميقة وتأملات فلسفية بلا حدود، إن حديث الإنسان إلي نفسه يكشف له عن جوانب من الصعب أن يعثر عليها في زحمة الحياة ومشاغل الأيام العادية، وهذا إن دلنا علي شيء فإنما يدلنا علي لجوء أديبنا باستمرار إلي إبراز أوجه التقابل بين الظاهر والباطن، أوجه التعارض بل التناقض بين ما يبدو علي السطح وما يغوص في الأعماق أنه يقدم حشدًا من نماذج وشخصيات عديدة لا يكتفي بذلك، بل يحاول الغوص في أعماق كل شخصية من الشخصيات، وهل يمكن أن نتغافل عن البطل في رواية "الطريق، التكية، الحرافيش" إنها أشياء تدلنا تمام الدلالة علي أن أدب نجيب محفوظ لم يكن من نوع الأدب السطحي الذي يقوم علي مجرد الوصف والرصد والذي لا يخرج عن الوظيفة التي يقوم بها المحرر الصحفي حين يسرد وقائع حدث من الأحداث في جريدة يومية أو مجلة أسبوعية معتمدًا علي دقة الحوادث في أقسام الشرطة، لا لم يكن أدب نجيب محفوظ من هذا النوع السطحي الزائف بل قدم لنا أبعادًا غاية في العمل لأنه كان متسلحًا بالثقافة الفلسفية الرائعة. لقد وضع نجيب محفوظ بصماته البارزة علي مسار الرواية المعاصرة ومن يحاول أن يتخطي قصصه ورواياته فوقته ضائع عبثًا.
نقول ونؤكد القول بأن نجيب محفوظ نتيجة لتزوده بالثقافة الفلسفية الواسعة والشاملة والتي تظهر في العديد من قصصه ورواياته. لم يكن مجرد صدي للأحداث التي مرت بعصر قبل عام 1952 أو بعده، بل إنه يحاول بلورة العديد من الأفكار والمشاعر يحاول تحليل وتوضيح أفكار تبدو في الظاهر معروفة ولكنها في الحقيقة ليست بهذا المستوي من السهولة واليسر، إنه إذا كان قد تأثر بالعديد من الظروف الاجتماعية والأنظمة السياسية إلا أنه لم يكن مجرد مستقبل بل كان عن طريق قصصه ورواياته مؤثرًا وفعالا ً إذا ما أكثر القيم التي فينا من خلال أدبه وسواء اتفقنا معه حولها أو اختلفنا، وليرجع القارئ إلي رواياته سواء ما يمثل منها أو يغلب عليها الجانب الاجتماعي كخان الخليلي وزقاق المدق والثلاثية وبداية ونهاية، أو ما يمثل منها الجوانب التاريخية الفرعونية علي وجه الخصوص كفاح طيبة ورادوبيس وأولاد حارتنا والسمان والخريف والطريق والشحاذ وثرثرة علي النيل وميرامار واللص والكلاب. إن القارئ لهذه الأعمال التي نذكرها علي سبيل المثال لا الحصر يستطيع إلي حد كبير إدراك وحدة عضوية، وجانب تركيبي في أعمال أديبنا نجيب محفوظ وكم سعت إلي ذلك الآراء والاتجاهات الفلسفية من خلال تحقيق الوظيفة التركيبية للفلسفة فكم أعطانا نجيب محفوظ صورًا عديدة للإنسان الذي يمثل عالمًا صغيرًا بالقياس إلي الكون أو العالم الكبير. كم تحدث في رواياته عن الحياة وهل هناك هدف وراءها؟، وما معني تلك الحياة والتفاؤل والتشاؤم إلي أخر حديثه عن جوانب تدخل دخولًا مباشرًا في إطار الفلسفة والتفلسف وما زلنا حتي الآن كأدباء ومفكرين تطرحها علي أنفسنا ونحاول الإجابة عنها.
وقد كان نجيب محفوظ حين طرح هذه التساؤلات الفلسفية متجهًا إلي لغة الحوار وإثارة الشكوك، إنه لم يقدم إجابات جاهزة قطعية ولعمري أن ما فعله أديبنا نجيب محفوظ يضعه في مكانة كبري. وإذا كنا نعجب كل الإعجاب بأشعار المتنبي وأبي العلاء المعري وبحيث نفضل هذين الشاعرين علي البحتري نظرًا لما نجد لديهما ( المتنبي وأبي العلاء المعري ) من أشعار تطرح العديد من القضايا، فإنه لابد بالتالي من الإعجاب بالعديد من قصص وروايات نجيب محفوظ فلم يجد الإنسان فيها نفسه، كم يجد كما هائلًا من التحليلات النفسية والفلسفية والتي يرددها بينه وبين نفسه وبحيث تحدد علاقته بذاته وعلاقته بالمجتمع بل تحدد علاقته بالله تعالي خالق الأكوان، صحيح أننا لا نجد فيها العمق الذي نجده عند شكسبير أعظم الشعراء والأدباء علي وجه الأرض قاطبة ولكن هذا لا يقلل من مكانة نجيب محفوظ فمن من أدبائنا القدامي والمحدثين وصل إلي ما وصل إليه شكسبير؟ إن المتنبي وأبي العلاء المعري علي ما في أشعارهما من عمق ودلالات فلسفية، لا يرقي واحد منهما إلي ما وصل إليه شكسبير.
لقد كان نجيب محفوظ عن طريق تعمقه في دراسة الفلسفة وتأثره بها مكتشفًا لعوالم جديدة لا أكون مبالغًا إذا قلت إننا لا نجدها عند أديب من أدبائنا المعاصرين في زمانه، أي من الأدباء العرب الذين يعيشون حاليا داخل مصر وخارجها، لقد أدرك نجيب محفوظ أن للأدب وظيفته الاجتماعية أنه لم يقم بتأليف رواياته وقصصه لمجرد اللهو والعبث لقد كان طوال حياته ملتزمًا بخصائص الأدب كما ينبغي أن يكون الأدب، لم يكن من هؤلاء الذين يحشرون أنفسهم في زمرة الأدباء والأدب، والبعد بينها وبين الشعر أو الأدب أبعد من المسافة بين الإنس والجن.
نعم لقد كان نجيب محفوظ عملاقًا من عمالقة الأدب والرواية. لقد أجهد نفسه إجهادًا شديدًا وقدم لنا أدبًا رفيع المستوي واضح القسمات وما أجدرنا أن نحتفل به في كل زمان وكل مكان.
هذه رؤيتنا الفلسفية لأدبه وقصصه أي تحليلنا لأدبه من خلال منظور فلسفي ولا يخفي علينا أن هذا المنظور الفلسفي يعد غير مقطوع الصلة بالاتجاه العظيم، الاتجاه التنويري العقلاني المستقبلي.
أقول وأؤكد القول بأن الدراسة لأدب نجيب محفوظ، ومن خلال أكثر رواياته إن لم يكن كلها، لا يمكن أن تكون دقيقة وتحليلية وعميقة، إلا بأن نضع في اعتبارنا دوامًا الدلالات الفلسفية أو الأبعاد والأهداف التي لا تقف عند الظاهر، بل تتخطي الظاهر إلي ما وراء الظاهر، بحثًا عن الفلسفة والتفلسف.
وأعتقد أن روح نجيب محفوظ تحلق الآن في السماء في سعادة، وذلك حين تدرك أثر أدبه وأثر فكره في ملايين الدارسين. لقد ترك لنا إنتاجًا أدبيا ضخمًا سيبقي منارة أمام كل الأجيال. إنه سيظل حيا بأدبه. سيظل في ذاكرتنا دوامًا، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #20
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


الروائي العالمي


الدكتور حامد أبوأحمد

نجيب محفوظ واحد من أبرز المثقفين المصريين والعرب الذين جمعوا بين صفتي الأصالة والمعاصرة في آن، وقد امتزجت في شخصه وفي ثقافته وتوجهاته هاتان الصفتان امتزاجا حميما منذ أن بدأ الكتابة في الثلاثينيات حتي الآن، مرورًا بمسيرته المتطورة والمختلفة، وكان لهذا الامتزاج الحميم أثر في أن ما قدمه نجيب محفوظ منذ البداية يمثل مرحلة جديدة لتطور الفن الروائي العربي تميزت بالنضوج في الشكل والتقنية والأسلوب والمنظور الروائي بمستوياته المعروفة: المنظور الأيديولوجي، المنظور النفسي ومنظور الزمان والمكان والمنظور اللغوي أو التعبيري، وهذا النضج المبكر جعل أدب نجيب محفوظ مؤهلا لأن يفتح آفاقًا جديدة أمام الثقافة العربية، حتي جاءت اللحظة التي انتبه فيها العالم بقوة إلي أن هناك في مصر أديبا عربيا يصنع ثقافة عالمية فمنحه جائزة نوبل عام 1988، وهي الجائزة التي كانت بمثابة تتويج عالمي لهذه المسيرة الطويلة في تأصيل فن القص العربي والدخول في كفاءة واقتدار إلي ساحة العالمية، وكانت النتيجة المباشرة لذلك هي الإسراع بترجمة كل أعماله إلي كل لغات العالم، والنتيجة الواضحة الآن هي أن هذه الأعمال تحظي بتقدير الدوائر العلمية والأوساط الأدبية والمثقفين والقراء في جميع أنحاء الأرض، وهذا التقدير العالمي يشمل كل أعماله بدءا من روايات المرحلة الأولي حتي آخر مرحلة، بل إن رواية «زقاق المدق» وهي تنسب لمرحلته الواقعية الأولي، كانت أهم رواية حظيت بإقبال شديد من جانب جمهرة القراء في معظم بلدان العالم.
ويضاف إلي هذا الامتزاج الحميم بين الأصالة والمعاصرة في شخصية نجيب محفوظ بعد آخر يجعله قريبا جدا من القراء في أي مكان هو هذه الروح العالمية التي تتغلغل في شخصياته الروائية فنجيب محفوظ ليس مجرد روائي أو كاتب يعبر عن مكان معين وزمان محدد، ولكنه كاتب مهموم بقضايا الإنسان، وهو كاتب يشغله مطلب مهم هو البحث عن الحقيقة. وإذا كان كمال عبد الجواد هو الشخصية التي تمثل (1) نجيب محفوظ نفسه في «الثلاثية» فلنقرأ علي لسان كمال هذا قوله: «الأدب متعة سامية بيد أنه لا يملأ عيني، إن مطلبي الأول الحقيقة، ما الله، الإنسان، الروح، ما المادة؟ الفلسفة هي التي تجمع كل أولئك في وحدة منطقية مضيئة كما عرفت أخيرا، هذا ما أروم معرفته من كل قلبي، وهذه هي الرحلة الحقيقية التي تعد رحلتك حول العالم بالقياس إليها مطلبا ثانويا، تصور أنه سيمكنني أن أجد أجوبة شافية لهذه المسائل جميعا» (2)
ويقول نجيب محفوظ في حواره مع جمال الغيطاني: «بعد أن بدأت أقرأ المقالات الفلسفية للعقاد ولإسماعيل مظهر وغيرهما، وبدأت قراءاتي تتعمق، تحركت في أعماقي الأسئلة الفلسفية، وجدت أن هذه هي همومي، وخيل إلي أنني بدراستي الفلسفة سأجد الأجوبة الصحيحة، ألا يصبح الدارس للطب طبيبًا، والدارس للهندسة مهندسا؟ إذن فدراستي للفلسفة سوف تجيب علي الأسئلة التي تعذبني. خيل لي أنني سأعرف سر الوجود ومصير الإنسان، يعني بعد تخرجي سأتخرج ومعي سر الوجود، وكنت أدهش، كيف يتجاهل الناس سر الوجود في قسم الفلسفة ويدرسون الطب أو الهندسة» (3).
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #21
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


هذا الشوق الجارف إلي المعرفة، وهذا التطلع المستهام إلي استكناه أسرار الحياة والكون والوجود دفع نجيب محفوظ دفعا قويا إلي أن يغترف من ينابيع المعرفة، وأن يتساوي لديه التراث العربي والتراث العالمي، ومن ثم تعددت الروافد عنده: فهناك الرافد الفلسفي، وقد درس هذا الجانب دراسة أكاديمية منظمة بكلية الآداب جامعة القاهرة، التي تخرج فيها عام 1934 بتفوق جعله يلتحق بمرحلة الماجستير، ويختار موضوعه عن فلسفة الجمال، وهناك الرافد التاريخي الذي تبلور في رواياته الثلاث الأولي وهي «عبث الأقدار» (1939) و«رادوبيس» (1943) و«كفاح طيبة» (1944)، وهناك رافد العلم ورافد السياسة، وغير ذلك مما يدخل في نطاق ما يمكن أن يتثقف به الأديب وغيره حسبما ذكر في مقابلة أجريتها معه قبل حصوله علي نوبل بمدة قصيرة (4)
ولكن أهم رافد استقي منه نجيب محفوظ مكوناته الثقافية ورؤاه الإبداعية هو الرافد الأدبي، وسوف نري كيف يمثل كاتبنا شخصية الكاتب ذي الثقافة الموسوعية العالمية، فقد قرأ التراث العربي قراءة واعية متأملة، وتأثر بالرواد الأوائل من الأجيال التي سبقته أو عاصرته لكنها كانت بالنسبة له في مقام الأستاذية مثل مصطفي لطفي المنفلوطي، وأحمد لطفي السيد، وسلامة موسي، وطه حسين، وعباس العقاد، وإبراهيم المازني، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، ويحيي حقي وغيرهم، وفي الأدب العالمي قرأ الروائيين الكبار من كتاب الواقعية الأوائل مثل بلزاك وديكنز، وإن كان قد تأثر أكثر بتلامذتهم مثل جوستاف فلوبير وستندال. وقرأ الكتاب الروس وتأثر بهم كثيرا وبالأخص تولستوي في رائعته «الحرب والسلام» وديستويفسكي في أعماله العظيمة وغيرهما، ولم يتوقف عند هؤلاء وأولئك وإنما امتدت قراءته إلي من أحدثوا منعطفات خطيرة في فن الرواية مثل جويس وكافكا وبروست، وقرأ هكسلي وملفيل ودوس باسوس وهيمنجواي قراءة واعية.. وهكذا نمضي مع قراءات نجيب محفوظ ومكوناته الأولي فنجد أنه كان قارئا عالميا بكل المقاييس، ويندهش المرء عندما يقرأ أحاديثه أو ما كتب عن مكوناته الثقافية كيف تكونت لديه حاسة قوية في إجادة الانتقاء، حتي استطاع أن يقف علي الإبداعات المهمة عند معظم كبار الكتاب العالميين. وبالطبع فإننا لا نريد في هذا المقام أن نشغل القارئ بتعداد الأسماء، ومن ثم نحيله علي معظم ما كتب عن نجيب محفوظ وفيه معلومات وفيرة في هذا الشأن لأن ما يهمنا هنا هو كيف تلاقت كتابات نجيب محفوظ مع كتابات هؤلاء الذين قرأهم بعمق وتأثر بهم، وكيف اختلف عنهم نتيجة للتطورات الكبيرة التي كانت قد حدثت في فن الرواية، وكيف استطاع أن يكون نسيج وحده ويقدم رواية عربية أصيلة ومتطورة.

جدل الأنا والآخر
من المعلومات التي تهمنا هنا أن نجيب محفوظ قد بدأ بقراءة الأدب الحديث، الذي كان قد تجاوز الواقعية في مرحلتها الأولي، في فترة مبكرة من حياته، وبالتحديد منذ عام 1936م أي بعد تخرجه في الجامعة بعامين تقريبا، فقرأ الأدب الواقعي عند الأدباء الذين أتقنوا أسلوبها وطوروه مثل جولسورثي وألدوس هاكسلي ود.هـ. لورانس، وفي ذلك يقول: «فلم يعد باستطاعتي بعد ذلك أن أقرأ ديكنز، وكذلك لم أستطع قراءة بلزاك بعد أن قرأت فلوبير وستندال مع أني أعلم أن بلزاك عبقري وهو خالق الواقعية كلها، ولكن لم يكن باستطاعتي أن أحتمله وهو يصف مشهدا في 80 صفحة مثلا.. لقد قرأت مذهبه واتجاهه بعد أن تهذب وتطور عند أناس غيره..» (5) وقرأ الطبيعية والقصة التحليلية، ثم اتجه إلي المغامرات الأدبية الحديثة كالتعبيرية عند كافكا، والواقعية النفسية عند جيمس جويس، حيث توقف عند روايته الشهيرة «أوليس» لكنه لم يحبه وأذكر أني عندما سألته في ذلك عام 1988 قال: «لأن الحَوْدة التي أحدثها جيمس جويس في الفن الروائي خطيرة جدا، وهو حتي الآن لا يمكن أن تعتبره كاتبا مقروءا» (6)، كما قرأ الكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست، وأعجب كثيرا برائعته «البحث عن الزمن المفقود»، وهو يعتبره مع جيمس جويس عماد الأدب الحديث في القصة كلها (7)، وتعتبر هذه الرواية لبروست أحد أربع روايات حازت إعجابا خاصا من كاتبنا الكبير، وفي ذلك يقول: «لكن إذا سألتني عن الروايات التي أعجبتني جدا أقول لك «الحرب والسلام» لتولستوي، و«البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست، و«الشيخ والبحر» لهيمنجواي، و«موبي ديك» لملفيل(.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #22
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


ولكن إذا كان نجيب محفوظ قد عرف هذه التيارات الحديثة في فن القصة في فترة مبكرة من حياته فلماذا لم يبدأ باستخدام أسلوبهم وبدأ بالواقعية؟ والحق أن هذه مسألة شغلت نقاد نجيب محفوظ ومحاوريه منذ عقود طويلة سابقة، فقد طرحها عليه أحمد عباس صالح في حوار نشر بجريدة الجمهورية في 28 أكتوبر 1960 فرد نجيب محفوظ: «عندما بدأت الكتابة كنت أعلم أنني أكتب بأسلوب أقرأ نعيه بقلم فرجينيا وولف. ولكن التجربة التي أقدمها كانت في هذا الأسلوب.. وقد تبينت بعد ذلك أنه إذا كانت لي أصالة في الأسلوب فهي في الاختيار فقط.. لقد اخترت الأسلوب الواقعي وكانت هذه جرأة، وربما جاءت نتيجة تفكير مني. ففي هذا الوقت كانت فرجينيا وولف تهاجم الأسلوب الواقعي وتدعو للأسلوب النفسي والمعروف أن أوروبا كانت مكتظة بالواقعية لحد الاختناق. أما أنا فكنت متلهفا علي الأسلوب الواقعي الذي لم نكن نعرفه حينذاك، الأسلوب الكلاسيكي الذي كتبت به كان هو أحدث الأساليب وأشدها إغراء وتناسبا مع تجربتي وشخصي وزمني، وأحسست بأنني لو كتبت بالأسلوب الحديث سأصبح مجرد مقلد» (9).
وقد كتب نجيب محفوظ بهذا الأسلوب الواقعي رواياته التي جاءت بعد المرحلة التاريخية، وصدرت أول رواية منها وهي «القاهرة الجديدة» عام 1945، و«السراب» (194، و«بداية ونهاية» (1949) ثم كانت «الثلاثية» (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) التي انتهي من كتابتها عام 1952 لكنها لم تنشر إلا في عامي 56 و 1957، والحق أن نجيب محفوظ لو لم يكتب إلا هذه الروايات فقط لعُد أيضا من كبار الكتاب ولحظي بمكانة رفيعة في الأدب العربي والثقافة العربية، بل إنه بمقاييس الإبداع العالمي كان يستحق بهذا الإنتاج أن يحفر اسمه في سجل الخالدين. كان نجيب محفوظ خلال تلك الفترة يصدر كل عام رواية. وسوف يتوقف كاتبنا الكبير بعد ذلك لمدة خمس سنوات ثم يستأنف الكتابة بقوة ونشاط لا مثيل لهما، حتي ليصدر له كل عام تقريبا رواية أو مجموعة قصصية، حتي تربو أعماله علي الخمسين، وكلها من أفضل ما أنتجته قريحة الإنسان في كل العصور. ولو أن نجيب محفوظ ظهر في بلد غير بلادنا وظروف مختلفة عن الظروف التي شهدها لبلغت شهرته الآفاق خلال هذه المرحلة الواقعية الأولي.
وإذا قارنا بين نجيب محفوظ وكتاب الواقعية الأجانب الذين قرأهم وتأثر بهم فسوف نجد مجموعة كبيرة من النقاط تجمع بينه وبينهم، ومجموعة أخري كبيرة من النقاط تدل علي أن التيارات الحديثة في فن القص قد بدأت تظهر في أعماله منذ أول رواية واقعية، وهي «القاهرة الجديدة» ثم أخذت هذه التيارات تزداد كثافة ونموا حتي بلغت درجة كبيرة في الثلاثية.
ولعل أهم ما يجمع بين نجيب محفوظ وكتاب الواقعية هو أنه قد تبني القوالب الغربية في الكتابة، ولم تكن قد ظهرت بعد اتجاهات الدعوة إلي تأصيل فنون الكتابة العربية مثل الحكواتي في المسرح، أو استلهام التراث في القصة والرواية.. إلخ ولهذا سوف نجد نجيب محفوظ بعد ذلك مباشرة يلجأ إلي كتابة رواية علي غير مثال في «أولاد حارتنا» وبذلك يكون سباقا في الدعوة إلي الاتجاهات الأصيلة. وليس معني ذلك أن القوالب التي كتب بها نجيب محفوظ رواياته الأولي تخلو من الأصالة لأنها التزمت بالأشكال الغربية أونسجت علي منوالها، ولكنها أخذت هذه الأشكال وطورتها بما يتناسب مع البيئة العربية والثقافة العربية فجاءت أصيلة في المنظور وفي الزمان والمكان والشخصيات والأحداث، وعكست الفنون والتقاليد والقيم لمجتمع يختلف كل الاختلاف عن المجتمع الغربي، وما نعنيه إذن هنا هو المقارنة بالتيارات التي جاءت بعد ذلك وكان نجيب محفوظ أيضا من روادها وكانت تعني بالبحث عن طرائق جديدة وأشكال مختلفة لفن القص العربي.
كان الجيل السابق مباشرة علي نجيب محفوظ يري أن التراث العربي يخلو من فن القصة، أو لم يعْنَ بها، أو كما قال الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه «ثورة الأدب»: «إن ما كان موجودا في الأدب العربي من التراث الروائي تافه ولا غناء فيه» وكما قال توفيق الحكيم في كتابه «زهرة العمر»: «إن الأدب العربي فن ناقص التكوين، ولم تعاصره فنون أخري، وهو لذلك لا يختال للأنظار إلا في ثوبين معروفين، الرسائل والمقامات. فالأدب العربي الإنشائي قد عني باللفظ أكثر مما يجب، ولم يشأ أن ينزل عن تكلفه الذي يعتبره بلاغة وفصاحة، ليصور ما يجيش في نفس الشعب من إحساس ولا ما يهيجه من خيال» (10).
ووفقا لهذه النظرة تجاه التراث العربي لم يكن أمام تلك الأجيال إلا أن تمتَح من القوالب والأشكال الغربية لتأسيس خطاب روائي جديد في الثقافة العربية، ولكن الوعي بالجانب الروائي في تراثنا لم يبدأ في الظهور بصورة أكبر إلا علي يد نجيب محفوظ وأبناء جيله، وإذا بحثنا في المكونات الثقافية عند هذا الكاتب الكبير سوف نجد أن عناصر كثيرة بدأت تنصهر في بوتقته الإبداعية ومنها الأعمال التي يقول عنها إنها شبه قصصية مثل رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وحي ابن يقظان لابن طفيل، والسير الشعبية (11)، وعنها كتب يقول إن جيله لم يكن يقرؤها أو يعرف عنها شيئا مثل «الكامل» للمبرد و«الأمالي» لأبي علي القالي (12). وفضلا عن ذلك فقد بدأ يتكون منذ ذلك الحين وعي لدي الأدباء والمثقفين بأن الأدب العربي مليء بالكنوز التي لم يكشف عنها الغطاء بعد، ولهذا سوف نجد نجيب محفوظ في مرحلة السبعينيات يتجه اتجاها قويا نحو التراث العربي ويصدر عددا من الروايات التي تستلهم أول ما تستلهم الموروث التراثي. وقد شاعت خلال العقود الأخيرة أبحاث تدل علي أن العرب قد عرفوا من قديم الزمان ضروبا من فنون القص مثل الملاحم والقصص الشعبي والمقامات، وأن هذه الفنون أثرت تأثيرا كبيرا في ظهور فن الرواية في العالم العربي، وبخاصة عن طريق أسبانيا، التي شهدت خلال القرون السابقة علي عصر النهضة الأوروبي ترجمة عدد من هذه الأعمال العربية في مدرسة طليطلة وفي بلاط الملك ألفونصو العاشر الملقب بالحكيم، ومن بينها كتاب كليلة ودمنة، فضلا عن المقامات التي يقال إنها أثرت في ظهور نوع من القصة تعرف بالقصة البيكاريسيكية او قصص الصعاليك.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #23
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وقد برز تأثر نجيب مفحوظ بالقوالب الغربية في الثلاثية بشكل خاص لأنه استخدم فيها شكل تسلسل الأجيال، أو ما يسميه الإنجليز الرواية النهر، وهو نوع من القصص سبقه إليه الدكتور طه حسين في روايته شجرة البؤس التي صدرت عام 1944، وتبعه في ذلك عبد الحميد جودة السحار في رواية «قافلة الزمان». وهذا النمط الروائي كانت قد ظهرت منه إبداعات متميزة في أوروبا وأمريكا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نذكر من بينها في فرنسا «الملهاة الإنسانية» لبلزاك و«روجون ماكار» لإميل زولا، و«الرجال أصحاب الإرادة الصالحة» لجول رومان. وفي أمريكا ظهرت في الثلاثينيات من هذا القرن ثلاثية الكاتب الأمريكي جون دوس باسوس، وأجزاؤها الثلاثة تحمل العناوين التالية: «المتوازي الرابع والعشرون» (1930) و«1919» وقد نشر عام 1932، و«النقود العظيمة» (1936)، وهذه الثلاثية تتناول العقود الأولي من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس لها بطل محدد وإنما بطلها الحقيقي هو البيئة الاجتماعية للأمة الأمريكية، والموضوع الرئيسي الذي تدور حوله هو النمو والتدهور في المجتمع الرأسمالي المستغل. وفي الأدب الإنجليزي برزت في هذا اللون أسماء أرنولد بنيت (1867ـ 1931) صاحب رواية «المدن الخمس، وجالسورثي (1867ـ 1933) الذي أرخ لأسرة برجوازية إنجليزية هي أسرة فورسايت متناولا بذلك تاريخ إنجلترا منذ العصر الفيكتوري إلي العصر الذي عاش فيه.
ومن خصائص الكتابة الواقعية أيضا التزام الدقة والتفصيل في وصف المكان، فإذا كان الوصف يتعلق بزقاق المدق مثلا نجد الكاتب يقدم فكرة عن تاريخ هذا المكان من أنه كان تحفة من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري.. إلخ، ثم يتطرق إلي وصف حاضر هذا المكان علي نحو ما سوف يظهر في الرواية فيقول: «آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شنق الغروب، زاد من سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب علي الصنادقية، ثم يصعد صعودا في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن، وتحف بالجانب الآخر دكان ووكالة ثم ينتهي سريعا ـ كما انتهي مجده الغابر ـ ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة (زقاق المدق ص5)... وهذه الإحاطة بتفاصيل المكان تكاد ترتبط ارتباطا وثيقا بعنصر آخر هو الإحاطة بالأوصاف المعبرة عن طبيعة الشخصية، فعم كامل بائع البسبوسة في رواية «زقاق المدق» «يقتعد كرسيا علي عتبة دكانه، يغط في نومه والمذبة في حجره، لا يصحو إلا إذا ناداه زبون أو داعبه عباس الحلو الحلاق. هو كتلة بشرية جسيمة، ينحسر جلبانه عن ساقين كقربتين، وتتدلي خلفه عجيزة كالقبة، مركزها علي الكرسي ومحيطها في الهواء، ذو بطن كالبرميل وثدي يكاد يتكور ثدياه، لا تري له رقبة.. إلخ إلخ» (ص6) وهكذا يمضي نجيب محفوظ في تعقب ملامح هذه الشخصية بعد أن أحدث نوعا من التآلف الحميم بينها وبين المكان الذي تجلس فيه. وقد بلغ هذا الاهتمام بالتفاصيل ـ كما يقول الأستاذ يوسف الشاروني ـ ذروته في «الثلاثية» حيث نجد الاهتمام بذكر تفاصيل الأمكنة وهيئة الأشخاص ودوافعهم النفسية والحياة الاجتماعية والسياسية والفنية حتي بلغ الوصف التسجيلي في بعض الصفحات درجة الإملال. وهذه هي طريقة المدرسة الواقعية التي تلجأ اليها حتي تم لها ما يعرف في الأعمال الأدبية بعملية «الإيهام بالواقع» (13).
أيضا من السمات المميزة للرواية الواقعية استخدام الحوادث التاريخية أو بعض ما له دلالة في السياق كخلفية للرواية، وهذا الأسلوب أجاد نجيب محفوظ استخدامه في كل رواياته الواقعية بدءا من القاهرة الجديدة حتي الثلاثية، ومعروف أن الأحداث التاريخية قد لعبت دورا كبيرا في تشكيل الاتجاه الواقعي في أوروبا وكان كبار كتاب الواقعية يسهمون إسهاما كبيرًا في كتابة الرواية التاريخية أو المزج بين أحداث الواقع وأحداث التاريخ علي نحو ما فعل الكاتب الواقعي الإسباني بينيتو بيريث جالدوس (1843ـ 1920) في روايته الضخمة «الأحداث القومية» المكونة من ستة وأربعين مجلدا.
ومن سمات الكتابة الواقعية أن الصلة بين الأثر الفني والواقع صلة قوية ومباشرة إلي حد كبير، بدءًا من الوصف التفصيلي الواقعي للمكان والشخصية علي نحو مارأينا، إلي تسلسل الأحداث، إلي النقل الفوتوغرافي للواقع في كثير من الأحيان، وإن كان كتاب الواقعية يختلفون فيما بينهم في رؤيتهم لهذا الواقع، وإحساسهم به، وتفاعلهم معه، فبعضهم ينظر إليه علي أنه مادة خام ينبغي للأديب أن ينقلها بصدق، وألا يتجاوزها أو يعبث بها كما يحلو له، وإنما تتفاوت القدرات في طرق التعبير عن هذا الواقع، ومدي نجاح الأديب في سبر أغواره الحقيقية، وبعض الأدباء يقيم علاقة جدلية بينه وبين الواقع بحيث يكون للذات دور كبر أم صغر في التفاعل مع هذا الواقع. وسوف نجد أن نجيب محفوظ كان دائمًا أقرب إلي هذا النوع الثاني، لأن تعبيره عن هذا الواقع ظل مرتبطا بما يمور في وجدانه من مشاعر وما يجري في ذهنه من أفكار ورؤي وانطباعات.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #24
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


ملامح حداثية


ذكرنا أن نجيب محفوظ قد قرأ الاتجاهات الحداثية في الرواية منذ فترة مبكرة من حياته، ولكنه عندما بدأ يكتب انحاز إلي الأسلوب الواقعي لأنه كان أكثر الأساليب تناسبا مع تجربته. وحسنا ما صنع أديبنا الكبير لأنه لو اصطنع الأساليب الحداثية جملة وتفصيلا منذ البداية لأحدث صدعا لا يمكن رأبه في مسيرة الرواية العربية، وكان عمله في هذه الحالة سيظل في منطقة النقلة الفجائية بدون أساس أو مقدمات أو تطور طبيعي. لكنه باختياره للأسلوب الواقعي استطاع أن يصل بفن القص العربي إلي مرحلة النضوج الكامل في صورته الواقعية مما مهد الطريق بعد ذلك لدخول الاتجاهات الأخري التي كان هو أيضا من روادها كما أسلفنا، والتي أصبحت الآن تحظي بمساحات واسعة من التجريب في كل أنحاء العالم العربي، بدءا من الروايات التي تستلهم الموروث التراثي إلي تلك التي تغوص في المورث الشعبي إلي الأخري التي تجرب أشكالا بنائية تعتمد علي اللغة، أو علي الأساليب المستعارة من الفنون الأخري مثل القص واللصق والقطع وما إلي ذلك أو الروايات التي تصطنع أشكالا أخري من الواقعية مثل الواقعية السحرية، وهي نمط من فن القص انتشر خلال العقود الأخيرة في بلدان أمريكا اللاتينية.
وبالرغم من اعتماد نجيب محفوظ في هذه المرحلة الواقعية الأولي علي أسلوب المدرسة الواقعية الكلاسيكية، علي نحو ما فصلنا من قبل، إلا أن ملامح التيارات الحديثة بدأت تظهر بقوة في رواياته ابتداء من «القاهرة الجديدة» حتي أخذت هذه الملامح مساحات أكثر اتساعا في «الثلاثية» ومن ذلك استخدامه للغة قريبة من اللغة الشعرية في كثير من الفقرات والمقاطع، واقتصاده في وصف الأماكن والشخصيات مقارنة بما كان يفعله كتاب الواقعية الأوائل، واستخدامه لتيار الوعي لكن بعد تطويعه وجعله مفهوما (14).. إلخ، وحتي لا نتوه في خضم هذه الأساليب، وهو أمر لا يحتمله المقام يحسن بنا أن نتوقف بشكل موجز عند بعض هذه الملامح، لنري كيف استطاع نجيب محفوظ أن يقدم رواية جديدة تنسج علي منوال الواقعيين لكنها تختلف عنهم كثيرا، صحيح أنها تلتزم بأبنيتهم التقليدية المعروفة لكنها تضيف إليها كثيرا من الخبرات والطرائق والأطر التي عاينها نجيب محفوظ في قراءته لكتاب الرواية المحدثين الذين أحدثوا ثورات ضخمة في الفن الروائي لا تقل عما استحدثه بيكاسو وسلفادور دالي في الرسم، أو ما استحدثته المدارس الرمزية ومدارس الشعر الصافي في الشعر، واستحدثه العلماء في مجال العلوم مثل نظرية النسبية مما كان يعد بحق ثورة بكل المقاييس. وبالطبع فإن نجيب محفوظ وهو يكتب في أوائل الأربعينيات ما كان يمكنه أن يغض الطرف عما يسمع عنه ويقرؤه عند فرجينيا وولف وجويس وكافكا وبروست وفوكنر وهيمنجواي وغيرهم، خاصة أن أديبنا الكبير ـ كما أسلفنا بشأن قراءاته ـ لم يكن شخصا عاديا تجري الظواهر من حوله فلا يلتفت إليها، وإنما كان قلبه معلقا بكل جديد، يتأمله ويغوص في أعماقه، ويكشف عن وظائفه ويدخله ضمن مكوناته الثقافية والرؤيوية.
فقد عرفت الرواية الواقعية عند نجيب محفوظ ظاهرة الخلط بين الأساليب، فنجده ينتقل من المتكلم إلي المخاطب إلي الغائب في سهولة وتلقائية ظاهرتين، كما نجد المونولوج الداخلي يمتد ليغطي صفحة أو أكثر علي نحو ما يري في الصفحة الثالثة تقريبا من رواية قصر الشوق، عندما تغوص أمينة وهي أمام السيد أحمد عبد الجواد في رحلة مع الطريق الذي تطل عليه المشربية ويغوص هو مع جلسات الأنس التي تضم أصدقاءه الثلاثة محمد عفت وعلي عبد الرحيم، وإبراهيم الغار، وبينما هو كذلك تلتقي عيناه الحالمتان بعيني أمينة المستطلعتين فيدور بينهما الحوار الذي قطعه هذا المونولوج الداخلي عند كل منهما.
كما أن قراءة الثلاثية ـ كما ذكرت وحللت باستفاضة سيزا قاسم ـ تظهر بلا شك عملا متعدد الأصوات. وأوضح السمات التي تظهر هذا التعدد هو امتناع الراوي عن إصدار الأحكام العامة المنفصلة عن منظور الشخصيات الأيديولوجي، تلك الأحكام التي تشبه الحكم وجوامع الكلم ويمكنها أن تقف مستقلة عن النص ـ إذا انسلخت عنه ـ محتفظة بدلالة مطلقة، وتختلف الثلاثية بذلك عن تقاليد الرواية الواقعية (15)، وهذا يدل علي أن نجيب محفوظ قد أجاد استخدام «البوليفونية» أي تعدد الأصوات في البناء الروائي، واتجه بدرجة كبيرة إلي المنظور النفسي الذاتي. أو علي حد تعبير الدكتور علي الراعي، لقد رسم نجيب محفوظ الشخصيات بطريقة علمية موضوعية توازن تماما بين النمو الداخلي والخارجي للشخصية الواحدة، وقد أدي هذا إلي غني هذه الشخصيات في حياتها الداخلية والخارجية وتعدد أنواعها وتفرد كل منها بمميزات واضحة محددة تميزها عن باقي الشخصيات (16).
ويحسن أن نختم هذه الدراسة بكلمة لنجيب محفوظ تقول: «كانت كل الأساليب أمامنا في وقت واحد، فعندما نشرع في الكتابة قد نستفيد من أي من الطرق التي عرفناها ودخلت في آلية المشي عندنا بدون وعي. فعندما أكتب قد أستفيد من الواقعي التقليدي، من الواقعي الحديث، من تيار الوعي، من.. من.. لأنني قرأت كل هذا في فترة واحدة، بمعني أن التجارب التي عاشتها أوروبا مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة اطلعت عليها أنا في عشر سنوات، وبهذه الطريقة استفدت من أكثر من أسلوب روائي، ومن كل في لحظة أي في اللحظة المناسبة حتي لنجد في «الثلاثية» لحظات سريالية» (17).
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #25
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


أسطورة مصر
في القرن الـ 20


الدكتور محمد عبدالمطلب

عندما نقترب من شخصية عادية لنتعرف عليها، من الضروري أن نهيئ أنفسنا لهذا الاقتراب بتجميع قدر كاف من المعلومات التي تجعل من هذا الاقتراب أمرا مفيدا ومجديا، لكن عندما نقترب من إنسان يفارق المألوف ويخرج علي (العادي) فإن التهيئة لا تكتفي بمثل هذه المعلومات السريعة العجلة، وإنما تحتاج إلي نوع من الإعداد العقلي والنفسي علي صعيد واحد، فإذا انتقلنا بالاقتراب إلي منطقة الأسطورة، فإن التهيئة يجب أن تصعد إلي أفق التخيل بكل طاقته في إدراك ما وراء الواقع، أو ما فوق الواقع.
كان هذا كله في الوعي ونحن بصدد مقاربة (نجيب محفوظ) أسطورة مصر في القرن العشرين، وهو أسطورة مدت أبعادها وتأثيراتها إلي العالم العربي والعالم الإنساني. لقد تحققت أسطورية محفوظ من عمره الإبداعي الذي كاد يستغرق عمره الزمني، ذلك أن الأساطير لا تقاس بمساحتها الزمنية، وإنما تقاس بمساحتها التأثيرية، وبقدر اتساع هذه المساحة، تزداد قامتها شموخا يوازي شموخ الآثار الخالدة.
ومن طبيعة الأسطورة أن تبدأ تجلياتها في دائرة زمنية بعينها، لكنها تتغلب علي الزمن المحدود، لتفرض وجودها في الزمن المطلق، وخلال هذا التحول تمتص إضافات وركائز في الأسس واللواحق الإضافية إلي أن تأتي لحظة التوقف الموازية للحظة الاكتمال، حيث تستحيل إلي كائن يعيش في الذاكرة الإنسانية، ويخايلها في كل مراحلها الحضارية.
لكن علي مستوي (الأسطورة الشخصية) يكون الزمن طوع هذه الشخصية، فيقدم لها عناصر الحيوية، ويفتح أمامها نوافذ التجربة والخبرة، ويسمح لها بالاستمرار في مرحلة شبابها لا تغادرها إلا لتعود إليها، أو لنقل: إن الزمن يتوقف بها في مرحلة النضج، ويعمل علي تعميقها رأسيا، وتوسيع مداها أفقيا، ومن ثم تصير إلي حالة دائمة من التحفز للاقتحام والمغامرة المحسوبة التي لا تعرف النكوص أو النقص، وإنما تعتاد التنامي الصاعد مع الحفاظ علي البكارة والنقاء.
وهكذا نجيب محفوظ يعيش زمن الشباب المقتحم الذي يلتحم بحاضره دون أن يحول نظره بعيدا عن أفق الآتي بكل احتمالاته المتوقعة أو غير المتوقعة، وبرغم استقرار محفوظ ـ بعمره الإبداعي ـ في زمن الشباب، فإنه ـ في عمره الفعلي ـ قد بلغ مراحل الكهولة والشيخوخة والكبر والهرم. بل إن بلوغ هذه المراحل المتتالية كان فاعلا بالغ التأثير في تشكيل (البصمة المحفوظية) بكل خصوصيتها في إطار العمومية، وبكل فرديتها في خضم الجماعية، فنجيب محفوظ المصري في إطار عروبته، والمصري العربي في إطار إنسانيته، وكأن الزمن مع محفوظ قد خرج عن قانون وجوده، فهو يتحرك حركة مزدوجة، للأمام تارة، وللوراء تارة أخري، أو لنقل إن حركته أصبحت حركة واحدة لا نتبين فيها وراء أو أماما، لأنها خاضعة لحركة محفوظ الذهنية والنفسية، فماضيه هو مستقبله، ومستقبله هو ماضيه بكل شموخهما الباذخ.
إن هذه المسيرة الممتدة زمنيا وإبداعيا ـ بطبيعتها الجدلية بين الماضي والحاضر والآتي، قد أكسبت نجيب محفوظ قدرة غير محدودة علي العطاء، وعظمة هذه القدرة في أنها لا تنتظر مردودا لعطائها، صحيح أن المردود قد يكون ـ أحيانا ـ من دوافع الاستمرار في العطاء لكن ذلك لا يكون إلا مع الشخوص المألوفة التي تمر عليها الحياة، أو تمر هي علي الحياة مرورا مألوفًا يتشابه بمرورها علي الشخوص العادية، لكن يتغير الموقف تماما مع الشخوص الأسطورية التي تطول بقامتها عنان السماء، حيث تمارس الأسطورية فاعليتها بين الناس دون أن تنتظر جزاء ولا شكورا.
لقد أتاحت الخصوصية والتفرد لمحفوظ إمكانية الرؤية الشاملة العميقة التي تعايش واقعها المباشر، ثم ترصد تحولاته الداخلية والخارجية، الجزئية والكلية، دون أن تعوقها هذه المعايشة الحميمة عن معاينة الواقع الإنساني في نماذجه العليا والدنيا، وفي تحولاته السياسية والاجتماعية والثقافية، فمحفوظ مصري وطني، وعربي قومي، وإنساني كوني علي صعيد وعيه الذاتي، وعلي صعيد وعيه الإبداعي.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #26
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


(2)
إن طبيعة الأسطورة أن تغيب شخوصها وأحداثها عن الواقع لتحتل الذاكرة التخيلية، ويغيب معاصروها، أو من عايشوها في تجليها المتخيل، لكن أسطورتنا تنفرد بحضورها المباشر الذي يلازم الواقع، ويصعد به إلي أفق التخيل، وكثير ممن عايشوها، مازالوا يعايشونها، ويتشبعون بحضورها وإن استحال معظمهم إلي كتاب مفتوح يسجل أحاديث الأسطورة أحيانًا، ويسجل ما يدور عنها وحولها أحيانًا أخري أو لنقل إن كل واحد من الحواريين قد تحول إلي ذاكرة محفوظية تسجل ماتراه، وتحفظ ما تسمعه، وتضيف إلي هذا وذاك انطباعها الذاتي في قدر كبير من الدقة والأمانة، ومن ثم فقد تراكم عن محفوظ سجل شفاهي حافل يقرب الأسطورة من الواقع، ويحيطها بكم وافر من الوثائق الشفاهية والكتابية التي تتساوق مع كثرة الصحاب والرواد، وأظن أن هذه الصفحات سوف تستمد من هذه الوثائق معظم معارفها عن أسطورة نجيب محفوظ الحياتية والإبداعية.
تقول الوثائق إن نجيب محفوظ ولد سنة 1911، وكان هذا المولد بشارة مرحلة التحول في الواقع المصري، فقد انفتحت نافذة الوعي الأكاديمي قبله بسنوات قليلة، حيث أنشئت جامعة فؤاد الأول (القاهرة) سنة 1908، وهو عام وفاة الزعيم مصطفي كامل الذي ظل صوته مدويا في أسماع المصريين بعد وفاته، وكانت أصوات شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وسواهم من المبدعين تملأ سماء الوطن، وكان سعد زغلول يقود حركة الوعي إلي ذروتها في سنة 1919، وكانت المرحلة إرهاصا بالفن الذي سوف ينبغ فيه محفوظ، إذ صدرت رواية (زينب) لهيكل سنة 1914.
لقد صاحب مولد محفوظ التحولات المصرية والعالمية بدءا من الحرب العالمية الأولي سنة 1914 ـ 1918، والحرب العالمية الثانية بعد ذلك سنة 1939ـ 1945، أما التحولات المصرية فقد كانت امتدادا لمرحلة التنوير التي وصلت ذروتها في ثورة 1919، وقد تابعها محفوظ في مظاهراتها وهو طفل من شرفة منزله (بيت القاضي) بحي الجمالية، وقد سجلها ببراعة معجبة في ثلاثيته الخالدة: بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية.
وتتابعت الأحداث العربية والمصرية، فكانت نكبة فلسطين سنة 1948، ثم ثورة يوليو سنة 1952، ثم تأميم القناة وحرب سنة 1956، ثم الوحدة مع سوريا وبناء السد العالي، ثم نكسة سنة 1967، وانتصار سنة 1973، ثم توابع حرب أكتوبر من الانفتاح الاقتصادي الذي أحدث انقلابا جذريا في المجتمع المصري بكل طوائفه، ثم مقتل السادات، وحرب الخليج الأولي والثانية، ثم انكسار الاتحاد السوفيتي وهيمنة القوة الامريكية علي العالم.
وخلال هذه التحولات المصرية والعربية والعالمية، جاءت تحولات محفوظ الإبداعية التي بدأت فاعليتها من أعماق الواقع المصري ملتحمة به علي نحو مباشر، لقد كانت بداية إطلالته علي الواقع المصري من شرفه بيته في حي الجمالية، ثم اتسعت نافذة الإطلال واقتربت أكثر من الواقع مع بداية ارتباطه (بالمقهي) سنة 1943، ثم دخول هذه البداية إلي شكل الندوة ابتداء من سنة 1945، وكانت أحداثها تقع يوم الجمعة من كل اسبوع في (كازينو الأوبرا)، وقد أصبحت المقاهي ركيزة أساسية في مسيرة محفوظ الحياتية، وهي مقاهٍ متعددة وقريبة من الواقع المصري في كافة مستوياته الاجتماعية: مقهي عرابي ـ الفيشاوي ـ قصر النيل ـ كازينو صفية حلمي ـ ريش ـ ركس ـ سفنكس ـ لاباس ـ جروبي ـ علي بابا ـ زقاق المدق ـ الفردوس ـ لونا بارك ـ بترو قهوة أحمد عبدالله.
ومن شأن الشخوص الأسطورية أن تنبئ مقدماتها عن نتائجها، وهكذا كانت طفولة محفوظ إشارات مبكرة لميلاد العبقرية الحكائية، وحنينها الفطري إلي دائرة السرد، فمما رواه حواريوه أنه كان ينسخ القصص البوليسية بخطه، بخط يجهد نفسه في دقته وتحسينه، ثم يضع اسمه علي المخطوط بوصفه المؤلف، وكأن هذا الفعل الطفولي نوع من النبوءة المستقبلية التي كانت تخايل الطفل في سنواته الأولي، وهي مخايلة تحولت إلي حقيقة إبداعية متواصلة لأكثر من سبعين عاما.
لاشك أن هذا الاسم الذي وضعه الطفل علي مخطوطه، كان اسما مشحونا ببعد أسطوري ـ أيضا ـ ربما لم يعه الطفل، إذ حمل الطفل اسم أشهر طبيب ولادة في مصر (نجيب محفوظ) وأصبح اسمه كاملاً: (نجيب محفوظ عبدالعزيز أحمد الباشا) لكن الذي شاع هو الاسم المركب (نجيب محفوظ) بطرفيه الفريدين.، ذلك أن (نجيب) من النجابة وهي النفاسة والتفرد في النوع، وهي نجابة (محفوظة) برعاية الله أولاً، ورعاية المجتمع ثانيا، ومصداق ذلك: أن محاولة الاعتداء عليه بكل طابعها الوحشي الإجرامي باءت بالفشل والخسران المبين.
ولكي تكتمل للأسطورة مكوناتها الجوهرية، كان التحاقها بكلية الآداب ـ قسم الفلسفة سنة 1930، حيث تخرج فيها سنة 1934، وقد صاغ القسم محفوظا صياغة عقلية ونفسية من طراز خاص، هذه الصياغة التي شكلت رؤيته للعالم بكل عمقها وشمولها، وبكل توجهاتها في البحث عن الجوهر الذي لا تحجبه الأعراض والهوامش، صحيح أن العرض والهامش قد يكونان مطلوبين ـ أحيانًا ـ عند محفوظ ـ لكنهما مطلوبان لخدمة الجوهر الأصيل بوصفه المادة الأولية للوجود.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #27
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وفي مرحلة مبكرة من العمر أخذت العبقرية الأسطورية لمحفوظ تمارس تجلياتها في الكتابة، حتي إنه ترجم (كتاب مصر القديمة) لجيمس بيكر عن الإنجليزية وهو طالب في المرحلة الثانوية، وقد نشره سلامة موسي بوصفه نوعًا من التشجيع لهذه الموهبة المبكرة التي بدأت أولي خطواتها في كتابة تاريخها الإبداعي العظيم.
لكن التجلي التنفيذي لهذه الأسطورة كان في كتابة (المقال) الذي بدأه سنة 1930 وعمره تسعة عشر عاما، واستمرت عملية الإنتاج حتي سنة 1952، حيث قدم في هذه الفترة مايقرب من سبعة وأربعين مقالاً، وقد تداخلت مرحلة المقال مع مرحلة (القصة)، حيث كانت بدايتها سنة 1932، ثم تداخلت المرحلتان مع زمن (الرواية) التي كانت بواكيرها سنة 1939.

(3)
ومن سمات الأسطورية الإبداعية أن تتوازي مسيرتها الحياتية ومسيرتها الثقافية، فمنذ الصغر دفع والد محفوظ بابنه إلي رحاب المعرفة الأولية في (الكتاب) لتكون منابعه الأولي في (القرآن)، وكانت قراءة القرآن وحفظه من مهيئاته لاستقبال الثقافة العربية من منابعها المركزية التي كان يزداد إقباله عليها في شهر رمضان، فقرأ كتب السيرة والتراجم، وقرأ الشعر الجاهلي، ثم أقبل علي أبي نواس وبشار بن برد والبحتري والمتنبي وأبي العلاء، ثم أقبل علي التصوف وقرأ ابن عربي والسهروردي والنفري، وطبيعة التداعي أن يقوده التصوف إلي الفلسفة التي أصبحت ركيزة معرفية حرة، ومعرفة أكاديمية منهجية بعد التحاقه بقسم الفلسفة.
لقد كانت قراءة الفلسفة ودراستها نوعًا من الإضاءة المبهرة، وأكسبته طبيعة منهجية في مسلكه الخاص والعام، وكان هذا كله ذا أثر بالغ في مسيرته الإبداعية، لأن المبدع الحق في حاجة أساسية للثقافة الشاملة، ومن أهمها الثقافة الفلسفية، لأنها تؤسس المنهج من ناحية، وتنظم الفكر من ناحية ثانية، وتوسع دائرة الرؤيا من ناحية ثالثة.
ونعتقد اعتقادا يقينيا أن الوعي الفلسفي كان الركيزة لمشروع نجيب محفوظ الروائي من حيث النسق المعرفي، والتنظيم المنهجي، والحرص علي القيم والأعراف والتقاليد، وإعطاء الرؤيا قدرًا وافرًا من الشمول والاتساع، وإكسابها كما وفيرا من الوعي التأملي الذي يلاحظ مفردات العالم في مصيرها المعقد، وسيرورتها الغامضة.
ولا يمكن الادعاء بأن الفلسفة بوصفها علما ظلت حاضرة ومسيطرة عند محفوظ في مسيرته الثقافية، لكن المؤكد انحسارها بوصفها علما بعد أن شكلت المنهج والرؤية، وحددت أطر الوعي، كما نلاحظ في ملامح الشك المنهجي الديكارتي، وكما نلاحظ في مضامين أعماله الإبداعية، وفي كيفية رسم الشخوص بنماذجها المتباينة، وتحديد مصائرها المرئية وغير المرئية.
وهذه الذخيرة الثقافية الكثيفة تم رفدها من منابع معاصرة، حيث أقبل محفوظ علي قراءة طه حسين والعقاد والمازني والحكيم وسلامة موسي، وقد أضافت قراءتهم أبعادا جديدة في التكوين الثقافي والتكوين الشخصي، فقد اكتسب من طه حسين الاحتكام إلي العقل الناقد، والنظر إلي الثقافة الغربية بوصفها ضرورة حتمية لضبط الوعي المعرفي علي وجه العموم، كما أفاد من العقاد قدرا كبيرا من تمرده واعتداده بنفسه، وقدم الحكيم له نماذجه الروائية التي شدت انتباه جيله بأكمله، فقد قرأ (عودة الروح) وهو في السنة النهائية بالجامعة، ثم اتبعها بـ(يومات نائب في الأرياف)، وتكفل سلامة موسي بتهيئته تهيئة فكرية واجتماعية تقدمية.
ومن الواضح أن هذه القراءات المبكرة لمحفوظ رسخت عنده يقينا بالدور التنويري العظيم الذي أداه هؤلاء الرواد الأفذاذ، وهو دور يجب أن يأخذ حقه من التقدير والاحترام، ورفض محاولات الانتقاص منه أو تشويهه، ومن ثم رفض محفوظ كثيرا من آراء الشيخ محمود شاكر التي نسب فيها الفساد لأيام طه حسين والعقاد، وأرجع آراء الشيخ إلي تشدده من ناحية وانغلاقه علي آراء ذاتية بعيدة عن الموضوعية من ناحية أخري.
وربما كانت هذه التأسيسات الثقافية التراثية والمعاصرة وراء تحفظه أمام ما تنتجه الأجيال الجديدة من إبداع، ولأنه يؤمن بحرية المبدع، ويرفض أي نوع من أنواع الحجر عليه، فقد برر تحفظه بأنه لا يكاد يستوعب هذا الإبداع الجديد، وكأنه يرجع القصور في عدم تقبل هذا الإبداع لنفسه لا لخصوصية ما في هذا الإبداع، وهو نوع مما كان يسميه البلاغيون القدامي (حسن التعليل).
وعظمة ثقافة محفوظ أنها خصبت نفسها بالانفتاح علي الثقافة الغربية في مستوياتها وأشكالها المختلفة، وقد بدأت مرحلة التخصيب مبكرا، حيث يقول محفوظ إنه في سنة 1930 اقتني كتابا أجنبيا هو (المعرفة الجديدة) وكان أشبه بدائرة للمعارف، وكان به شغوفا، لأنه يحيط بكافة الأنشطة الإنسانية التي كانت تلح عليه بالأسئلة، وقد نقله هذا الكتاب من حالة اللامعرفة إلي حالة المعرفة، وقد دفعه هذا الكتاب إلي قراءة سواه من كتب القمم الثقافية والفكرية، والعجيب أن يقول محفوظ: إنني كلما قرأت كتابا أشعر بأن الجهل يطاردني، فأتغلب عليه بالاستزادة من القراءة، وبخاصة في مجال القراءة الإبداعية، فقد قرأ (بيكيت)، وأحب (ديستويفسكي) و(بروست) و(كافكا) و(شكسبير) و(يوجين أونيل) و(باسترناك) و(توماس مان) و(طاغور) و(حافظ الشيرازي)، كما قرأ (جويس وتشيكوف وهمنجواي وفوكنر).
واللافت أن هذه الخبرة الثقافية النظرية قد تم تخصيبها بالخبرة الثقافية العملية التي امتاحها محفوظ من مجموع الوظائف التي تولاها، فقد كانت وظيفته في وزارة الأوقاف بمثابة مصدر معرفة أدبي واجتماعي علي صعيد واحد، وذلك أن الوظيفة قدمت له (المعمل الواقعي) بكل محتوياته من القيم والأعراف والعادات والتقاليد، وبكل محتوياته من النماذج البشرية المتباينة، وقد اتسع هذا (المعمل) بمجموعة الوظائف اللاحقة، فقد عمل مديرا للرقابة، ومديرا لمؤسسة دعم السينما، ورئيسا لمجلس إدارتها، ثم رئيسا لمؤسسة السينما ثم مستشارا لوزير الثقافة لشئون السينما، حتي أحيل للمعاش سنة 1971.
لقد أمده كل موقع وظيفي بمجموع المكونات البشرية التي تعامل معها او التقي بها، كما أمده بكثير من الأحداث والحكايا، وكشف له كثيرا من أبعاد الواقع المحيط به، أي أننا يمكن أن نعتبر هذه الوظائف نافذة أطل منها وعي محفوظ علي عالمه المباشر، خاصة إذا أدركنا أنه كان بعيدا عن العمل السياسي والحزبي، وربما كان انتماؤه الحزبي الوحيد هو حزب الوفد قبل الثورة.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #28
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


(4)
إن نمط الحياة ومكونات الثقافة كان لهما أثر بالغ في مسيرة نجيب محفوظ، ولا شك أنهما قد ساعدا علي إكساب هذه المسيرة طابعها الأسطوري الذي افترضاه بداية، وذلك أن الأسطورة تكتسب إنسانيتها وعمقها من الواقع الذي تلتحم به أولا، ثم ترتفع بهذا الواقع إلي منطقة التخيل ثانيا، وسواء ظلت الأسطورة ملتحمة بالواقع، أو حلقت به إلي منطقة التخيل فإنها تحتفظ لأسطوريتها بقدر هائل من الانتظام، أو لنقل: إن الأسطورة تستحيل إلي بنية نظامية لا تعرف العشوائية، ويستوعب هذا النظام الذات في مسلكها الخاص والعام، ويستوعب مجموع الأحداث التي تعايشها أو تحولها إلي بناء حكائي، كما يستوعب مجموع الشخوص وما يغلفها من أبعاد مكانية وزمانية، والذات المتكلمة تأتي في مقدمة الشخوص المنضوية في بنية النظام.
وقد كان نجيب محفوظ (بنية نظامية) في أساسياته وهوامشه، وربما كانت الهوامش أوغل في الدلالة علي هذه البنية من المتون.
ومن هوامش النظام عنده التزامه في مسيرته اليومية للرياضة، فكان يلزم طريقا محددا لا يحيد عنه، حريصا أن يمر علي الأماكن التي يمر بها كل يوم ويدور حولها كعادته، كما لو كان هذا النظام المروري طقسا مقدسا لا يجوز الانحراف عنه.
إن مثل هذه الإشارة الهامشية لارتباط محفوظ بالمكان، تنبئ عن أمر بالغ الأهمية هو أن هذه الأسطورية الإبداعية قد توحدت بالمكان، سواء علي مستوي المكان المحدود، أو علي مستوي المكان غير المحدود، وهذا التوحد بالمكان قد حال بينه وبين الرحيل المؤقت أو الدائم إلي أرجاء العالم، برغم أن ذلك كان متاحا له بصفة دائمة، فلم يغادر مصر إلا ثلاث مرات، المرة الأولي عندما سافر إلي يوغوسلافيا في عمل يخص وزارة الثقافة، والثانية عندما سافر إلي اليمن ضمن وفد الأدباء المصريين أثناء حرب اليمن، والثالثة سنة 1991 عندما أجري عميلة جراحية للقلب في لندن.
ويمكن القول إن جغرافيا المكان كانت ركيزة أساسية في إبداع نجيب محفوظ، حيث استحوذت عليه أماكن بعينها في أحياء القاهرة الشعبية، وكثير من رواياته تتخذ مدخلها من (العنوان) لأحد الأماكن مثل: (كفاح طيبة) (القاهرة الجديدة) (خان الخليلي) (زقاق المدق) (بين القصرين) (قصر الشوق) (السكرية) (الطريق) (ثرثرة فوق النيل) (ميرامار) (الكرنك) (حكايات حارتنا) (الحب فوق هضبة الأهرام) (قشتمر) (أولاد حارتنا).
والمقهي بين حقل المكان ـ احتل مساحة واسعة في معظم أعمال محفوظ الروائية، ولا نبالغ إذا قلنا إنه (ابن المقهي) و(عاشق المقهي)، ويكاد المقهي ينافس (الحارة) في هذه المساحة، فإذا قلنا إنه (عاشق المقهي)، فإننا نقول إنه (معشوق الحارة) الحارة المصرية بعالمها الفريد، وهذه العلاقة المعجبة أتاحت له أن ينقل المكان من بعده المادي المحدود إلي بعد نفسي واجتماعي غير محدود، فالمقهي عنده ليس مجرد مكان للقاء الأصدقاء، والحارة ليست مجرد مكان لسكانها أو المارين بها، وإنما استحال هذا أو ذاك إلي فضاء اجتماعي مزدحم بالحياة الإنسانية، والتقلبات الاجتماعية والسياسية، وإلي ذاكرة ثقافية لا تنفد.
لقد امتلك محفوظ قدرة مدهشة علي تحرير الأماكن من قيودها الجغرافية، ومن حدودها الفيزيائية، وفتح نوافذها لتنطلق معبآتها من العادات والتقاليد والأحداث والشخوص، ولم تنحصر الأماكن في حدود المقهي والحارة، بل اتسعت لتستوعب أماكن إضافية مثل: الوقف والتكية والزاوية والسبيل والقرافة والحانة.
وبنية النظام المكاني تلتحم ببنية (النظام الزماني)، وكما استوعبت البنية الأولي المتون والهوامش، فكذلك استوعبت الثانية المتون والهوامش أيضا، والهوامش بطبيعتها أكثر تعبيرا عن حقيقة البنية النظامية، ومن هذه الهوامش عادة التدخين عند محفوظ التي بدأت في الأربعينيات، ومنذ بدأت وهي مرتبطة بالنظام الصارم، فقد كان يلتزم بمرور ساعة كاملة بين كل (سيجارتين).
أما الصورة النظامية الأدق، فكانت في التزامه بمواعيد العمل الوظيفي، والعمل الإبداعي، فلا يخلط زمن هذا بزمن ذاك، فعندما يحين وقت العمل، يعطيه حقه كاملا، و عندما يحين وقت الكتابة يتفرغ له بكل كيانه ويحتشد لزمنه دون نقص أو زيادة، وعندما ينتهي الوقت المحدد يتوقف تماما مهما ألحت عليه الأفكار والخواطر.
ولا ينحصر زمن الكتابة في المساحة اليومية، بل يمتد إلي الزمن السنوي، حيث يتوقف عن الكتابة في نهاية شهر أبريل من كل عام، وكان يردد دائما: أنه أديب شتوي، أما في الصيف فهو موظف فقط.
وإذا كنا قد لاحظنا توحد محفوظ بالمكان، فإن التوحد أيضا كان مع الزمن، فقد كانت النتيجة اليومية ركنا أساسية في مسلكه، وكانت ساعته ضابطة لتوحده بالزمن. وقد كانت (ساعة الجيب)، ثم تغيرت إلي ساعة اليد مع رواية (أولاد حارتنا).
ومن طبيعة التكامل في هذه الشخصية الأسطورية أن يتوحد المكان والزمان في مسلكها الخاص والعام، فقد كان يلتزم بلقاء أصدقائه (شلة الحرافيش) كل خميس عند صديقه (محمد عفيفي) بالهرم، وقد التحم المكان والزمان بالشخوص الذين شكلوا (شلة الحرافيش) في هذا الموعد والمكان الأسبوعي وهم: عادل كامل وأحمد مظهر وثروت أباظة وإيهاب الأزهري وصبري شبانة وتوفيق صالح ومصطفي محمود وصلاح جاهين. وفي وسط هذه الكوكبة من المثقفين والمبدعين كان له مقعد محدد لا يبدله بحال من الأحوال.
ويتنامي توحد المكان بالزمان في التزام محفوظ بالانتقال صيفا إلي الإسكندرية ابتداء من أول سبتمبر حتي نهايته، حيث يكون هناك رفقاء الإسكندرية وفي مقدمتهم توفيق الحكيم الذي كان يلقاه في قهوة بترو.
وقد نتصور أن دخول محفوظ في هذه البنية المزدوجة (المكان والزمان) دخولا مطلقا وحتميا، يجعل من اليسير علي عشاقه ودارسيه أن يرصدوا مسيرته الحياتية والثقافية، وهذا ما ينفيه محفوظ نفيا قاطعا، حيث كان يقول: إن حياتي أوسع مما نشر وعرف عني بكثير علي المستوي الخاص، والمستوي العام، وهذا الاتساع هو الذي حال بينه وبين كتابة سيرته الذاتية علي عادة كثير من المثقفين والمبدعين، فضلا عن أن وجهة نظره أنه لا يري في سيرته ما يستحق أن يتفرغ لكتابته، وشغل القراء بها، ثم إنه يري أن واقعنا لا يمكن أن يتقبل مثل هذه المواجهة او المصارحة الكاملة في كتابة السيرة، والعربية لا تكاد تعرف أدب الاعترافات، والمجتمع العربي ـ بطبعه ـ حريص علي مجموعة التقاليد والأعراف، وملتزم بقانونه الأخلاقي، ولا يتقبل ـ أبدا ـ أي خروج علي تلك أو هذه.
ويبدو أنه استطاع بمهارة التغلب علي كل هذه العوائق، فبث جانبا من سيرته في إبداعاته خلال مجموعة من الأقنعة التي تعفيه من كل حرج، لكنه ـ علي وجه العموم ـ راض بمسيرته الحياتية والثقافية والإبداعية، ويردد كثيراـ أنه لو عاد به الزمن إلي بدايته لسلك نفس الطريق، وسلك نفس المسلك، وإن كان لا يتحرج من أمنية مضمرة عنده في أن يكون موسيقيا، وعدم إقبال محفوظ علي كتابة سيرته، دفع بعض حوارييه إلي طرح جانب من هذه السيرة فيما يشبه الحوارات وتسجيل المذكرات اليومية معه، كما فعل رجاء النقاش، وجمال الغيطاني، ومحمد سلماوي. فضلا عما رواه هؤلاء الحواريون عن ملاحظاتهم ومتابعاتهم لهذه الأسطورة المحفوظية.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #29
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


(5)


لا شك أن المحاور السابقة كانت تتلاحق لتبلغ هدفها الرئيسي عن (أسطورة نجيب محفوظ) الإبداعية، وهي أسطورية لا تنحصر في إنتاجه من حيث الكيف، فهذا ما يكاد يكون حقيقة وجود، وإنما الأسطورية المدهشة كانت ـ أيضا ـ من حيث الكم، فقد أبدع محفوظ ما يربو علي خمسين رواية، وثلاثمائة وخمسين قصة، وخمس مسرحيات من ذوات الفصل الواحد، فضلا عن مقالاته التي بلغت سبعة وأربعين مقالا.
أي أن هناك توازيا بين الإنتاج الكمي والكيفي، وكلاهما يتوازي مع الامتداد الزمني، ومن ثم كانت تأثيرات هذا الإنتاج ممتدة في الزمان والمكان والشخوص داخليا وخارجيا، وهذه التأثيرات تستمد فاعليتها من عظمة المادة الروائية وقدرتها علي الاقتحام الفني والجمالي للمناطق الممنوعة أو القابلة للتفجر، وقدرتها علي تحريك الراكد وهز الثوابت، وقدرتها علي إنطاق المسكوت عنه، وفتح النوافذ لانطلاق المكبوت والمقموع السياسي والاجتماعي والنفسي، وكل ذلك أتاح للمجتمع المصري أن يتأمل نفسه في حالة من الانكشاف والتعرية، حتي ولو جاء الانكشاف خلال الأقنعة والرموز، لأنها أقنعة شفافة تسمح لمن يواجهها باختراقها إلي ما وراءها، وهي رموز فصيحة، تكاد من الإفصاح تتكلم بما تهدف إليه علي المستوي الفردي أو الجماعي.
لقد كان إبداع محفوظ كتابا مفتوحا للواقع المصري بكل تحولاته في القرن العشرين، لكنه كتاب يستوعب قضايا الإنسان علي وجه الإطلاق، قضايا الظلم والعدل، القيود والحرية، والتخلف والتقدم، ويمكن القول علي نحو من الأنحاء إنه اخترق المحرمات الثلاث: الدين والجنس والسياسة، لكنه اختراق محسوب بدقة ومهارة فنية لا تجرح ولا تعتدي.

مشروعه الروائي


لقد كانت بداية الأسطورة المحفوظية متلبسة ببداية مشروعه الروائي الذي تمثلت بشائره في الحس التاريخي الذي لا يعرف إلا منطقا واحدا هو منطق التقدم للأمام، ومنطقه هذا يعني أن التغير ضرورة حتمية، وأن أي توقف، هو توقف مؤقت يواصل بعدها التاريخ حتميته الحاكمة، وخاصة إذا كان تاريخا ممتلئا بالعظمة والعراقة كالتاريخ المصري الذي استلهمه محفوظ في إطار من الرومانسية، حيث قدم رواياته: (عبث الأقدار) سنة 1939 و(رادوبيس) سنة 1939 و(كفاح طيبة) 1943.
وبرغم انتماء هذه الأعمال الإبداعية إلي التاريخ الفرعوني، فإنها تكاد تلتحم بالواقع المعاصر خلال هذا القناع التاريخي، وكأن محفوظا كان يستجير من الحاضر بالماضي، فمجموع شخوص هذه الأعمال هي نوع من الإسقاط الفني الذي يحميه من ظلم الاحتلال وفساد السلطة آنذاك، ومن الواضح أن المرحلة التاريخية برغم محاولات ربطها بالحاضر، وبرغم تحولها إلي نوع من الإسقاط، كانت ـ في حقيقتهاـ ابتعادا عن مباشرة الواقع المعيش، ومن ثم احتاج اكتمال المشروع الروائي تعديل المسار لمقاربة الواقع من ناحية، ووضعه تحت طائلة المساءلة من ناحية أخري.


مراحل مشروعه


والنظرة الكلية لمشروع نجيب محفوظ الروائي، تؤكد أن هذه المشروع قد مر بثلاث مراحل متشابكة تسلم فيه كل مرحلة لما يليها، أو تتداخل معها. وقد أشرنا إلي المرحلة الأولي، مرحلة السرد الرومانسي المشبع بعناصر التاريخ المصري القديم، والمغلف بخيوط من الحس الوطني، وخطوط من المغامرة العاطفية.


أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة الواقعية التي بدأت تجلياتها بروايته (القاهرة الجديدة) سنة 1945، وقد صدرت إحدي طبعاتها تحت اسم (فضيحة في القاهرة) وأخذت في السينما اسما ثالثا (القاهرة 30).
ولا شك أن دخول هذه المرحلة كان إشارة بالغة علي النضج الفني للمشروع وصاحبه، لأن محفوظا لم يكن ـ في هذه المرحلة ـ مجرد أداة لتسجيل الواقع، بل كان بمثابة (المشاهد) بالمعني الصوفي، لأن هذا المشاهد هو الذي يدرك ـ في مشاهداته ـ المادة الأولي (الخام) لمكونات هذا الواقع، كما يدرك تحولاتها الداخلية والخارجية، الظاهرة والخفية، ومن ثم كان صاحب حق شرعي في إبداء الرأي، وتحديد وجهة النظر خلال النص، سواء تم ذلك بوصفه شخصية مشاركة من الداخل، أو مطلة من الخارج، وسواء تم ذلك علي نحو مباشر، أو عن طريق الأقنعة والإسقاط، أي أن السرد لم يكن مجرد رصد وصفي، وإنما هو تعرية وكشف لمفارقات الواقع الطبقية والاجتماعية، وتناقضاته الاقتصادية والسياسية، وتصادماته الفكرية والثقافية.

المضمون

إن أعمال محفوظ ـ في هذه المرحلة ـ كانت فضاء واسعا لمجموعة الأيديولوجيات السائدة، وبؤرا عميقة لمجموعة التوترات بين الجمود والتطور، وبين ما هو كائن وما يجب أن يكون، كما كانت الأعمال عالما مزدحما بمفارقات الأجيال والأحداث والشخوص ومفارقات الثورية والانتهازية، والاستقرار والقلق والاستواء والشذوذ، والانتظام والفوضي.
وإذا كانت (القاهرة الجديدة) هي باكورة المرحلة الواقعية، فإن الأعمال التالية قد أدخلت الواقعية في تحول حاسم للمصارحة والمواجهة نلاحظه في (زقاق المدق) سنة 1946، و(بداية و نهاية) سنة 1948، ثم أخذت الواقعية صورتها الأكمل في الثلاثية: (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) من سنة 1949 إلي سنة 1957، ويقول عنها أحد حوارييه (يوسف القعيد) إنها كانت عملا واحدا يجاوز ألف صفحة، وقد طالبه الناشر بتقسيمها، فجعلها علي ثلاثة أجزاء كما هي بين أيدينا اليوم.

الرمزية

وتأتي المرحلة الثالثة ملتحمة بالثانية في (الواقعية الرمزية) والتي تلتحم بمرحلة التجريب الشكلي، ونقل السرد إلي نوع من الوعي التأملي والفلسفي، وهو ما نلمح صداه في روايات مثل (أولاد حارتنا) سنة 1962، و(اللص والكلاب) سنة 1963، و(الطريق) سنة 1965، و(الشحاذ) سنة 1967، و(حكاية بلا بداية ولا نهاية) سنة 1971، و(قلب الليل) سنة 1975، ثم (الحرافيش) سنة 1977، و(رحلة ابن فطومة) سنة 1983.
لكن التأمل الفلسفي يكاد يكون مسيطرا في (الطريق) و(الشحاذ) حيث اتسع التأمل لإدراك المطلق إدراكا عقليا.

أصداء السيرة

وبعد العدوان علي نجيب محفوظ سنة 1994، دخل في طور طارئ خلال كتابة (أصداء السيرة الذاتية) في نصوص قصيرة متعددة الملامح يصعب إدخالها في نطاق مفهومي محدد، وهي نوع من التوافق مع المرحلة السنية التي بلغها بكل ما تحمله من ضعف في الحواس والجسد لا يسمح بكتابة النصوص الطويلة. لكن من المؤكد أن دخول هذه المرحلة الطارئة يرسخ الاعتقاد بأن المبدع إذا بلغ مرحلة الأسطورية، فإن حياته تصبح قرينة الإبداع، وتوقفه نوعا من الموت التقديري.
الصوفية
وفي هذه المرحلة يمكن إدراك ملامح الإشارات الصوفية التي ظهرت بوادرها في أعمال سابقة، لكن الإشارات كانت أوضح في (أحلام فترة النقاهة)، ويبدو أن هذه الإشارات كانت موازية لإحساس الفقد، حيث غاب كثير من رفاق العمر، وغابت كثير من أحداث الماضي القريب والبعيد. ويقول محفوظ (إن الأديب عندما يتقدم به العمر، ينحصر تفكيره في الزمن والموت وقضايا الفلسفة، وتشعر في كتاباته بالشجن والرغبة في العودة إلي الماضي).
ثم ينضاف إلي ذلك أن الحاضر ملبد بالغيوم، وآفاق الآتي يغطيها الضباب، والقوة الجسدية لم تعد قادرة علي اختراق كل ذلك وتأمل المستجدات القادمة.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #30
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


(6)
لا نجاوز الصواب إذا قلنا إن أعمال محفوظ الإبداعية تمثل لوحة حية لمصر خلال القرن العشرين، وفي الوقت نفسه تمثل خريطة جغرافية وتاريخية لها، لكنها الخريطة التي لا تعرف التوقف أو التجمد، بل هي متنامية مع حركة التاريخ وامتداد الجغرافيا، ومن يقرأ ثلاثيته الخالدة يستوثق من هذه الحقيقة الفريدة، فقد رصدت تحولات أجيال ثلاثة في أسرة واحدة، بدءا من سنة 1919، ومن يتابع (زقاق المدق) يلحظ تحولات الأزمنة ومصائر الشخوص، ثم تأتي (الكرنك) سنة 1974 لترصد سلبيات المرحلة الناصرية، أما تاريخ السلطة، فقد سيطر في (الحرافيش) سنة 1977، وفي (يوم مقتل الزعيم) سنة 1985 تم رصد المرحلة الساداتية، و سجلت (أهل القمة) و(الحب فوق هضبة الأهرام) مرحلة الانفتاح بكل سلبياتها.
إن هذه اللوحة الحية التي يمتزج فيها التاريخ بالجغرافيا بالشخوص شكلت كما هائلا من التوافقات والتصادمات، امتدت خطوطها لتلتحم بالفلسفة والاجتماع وعلم النفس، من ثم كان من العسير حصر أعمال محفوظ في مجموعة من الأطر المحفوظة، بل يمكن القول إن كل عمل من أعماله كان يستدعي الإطار الذي يلائمه، ويحتكم إلي الإجراءات التي تفرضها خصوصيته، ومن ثم يمكن تلقيه بوصفه نصا (حمال أوجه) يقوم متلقيه بإعادة إنتاجه علي النحو الذي استقبله في أفقه، فـ(حكايات حارتنا) يمكن تلقيها بوصفها نصا روائيا واحدا، وبوصفها مجموعة قصصية متعددة الركائز والأركان، ويمكن تلقيها بوصفها نوعا من السيرة الذاتية نتيجة لسيطرة ضمير المتكلم عليها، و(الكرنك) يمكن تلقيها بوصفها نصا روائيا، ويمكن استقبالها في أفق مسرحي نتيجة سيطرة الحوار علي متنها، واستحواذه علي قطاع كبير منها إذ تبلغ سطور هذا النص ألفين وثمانية وستين سطرا، يستحوذ الحوار علي ألف وواحد وسبعين سطرا، وفي إطار التلقي يمكن استقبال النص في أفق السيرة ـ أيضا ـ حيث بلغت ضمائر الذات المتكلمة خمسائة وسبعة وسبعين ضميرا، بمعدل ضمير لكل سطرين تقريبا.
وهذا التلقي الاحتمالي يصلح لكثير من أعمال نجيب محفوظ لأنها ـ أحيانا ـ تعمد إلي المعاينة المباشرة، وأحيانا ـ تقود المعاينة إلي تجريدات فلسفية كما في (الطريق)، وكثير من الأعمال يمكن اعتبارها نوعا من (الكناية) حيث تقول شيئا علي السطح، وتشير إلي غير المقول في العمق مثل (الشحاذ) و(اللص والكلاب) و(حضرة المحترم)، أي أن قراءة محفوظ تحتاج إلي قدر من اليقظة والتنبه، فكل بناء صياغي ـ عنده ـ له أهدافه المحددة، وكل بناء نصي له فضاؤه الاحتمالي الفسيح، وهو فضاء يحوج المتلقي إلي استحضار المعادل الموضوعي حينا، والفلسفي حينا آخر.
إن هذه المسيرة الأسطورية لمحفوظ تفسح له مكانة عظيمة في مسيرة الإبداع الإنساني العالمي، وهذه المكانة قد احتوته سواء فاز بجائزة نوبل أو لم يفز بها، فمكانته تضعه في مصاف الرواد العظام في لغته، وتضعه في مصاف المبدعين العظام في اللغة العالمية، إذ إن بداية مشروعه الروائي في (التاريخية الرومانسية) يوازي المشروع الروائي لـ(والتر سكوت) رائد التاريخية الإنجليزية، وتوجهات محفوظ إلي أعماق المجتمع وتحولاته، تتصل بتوجهات (بلزاك)، وغوصه في النفس البشرية يقربه من (ديستويفسكي)، ورهافته الشاعرية تضعه في أفق (تشيكوف)، ومقاربته عالم الميتافيزيقا والموقف الوجودي يوازيه مع (ألبير كامو).
معني هذا أننا في مواجهة عبقرية إبداعية متعددة المداخل، متعددة الفضاءات، وقمة عبقرياتها في أنها لم تكن ترغم نصها علي تقبل إجراءات فنية معينة، بل إنها تسمح لكل نص أن يستدعي أسلوبه، ونسقه الفني، ومن يع قراءة أعماله ذات الطابع النفسي مثل (همس الجنون) و(السراب) يستوثق من هذه الحقيقة الفنية، وهي حقيقة لا يصلها إلا الأفذاذ الذين تتعدد مواهبهم، وتتكاثر قدراتهم، حيث تدخل نصوصهم في منطقة (تعدد الخواص).
عالميته
إن أسطورة محفوظ قادها الهم الخاص إلي الهم العام، وقادها الهم الوطني إلي الهم القومي، وقادها الهمان إلي الهم العالمي، فهو أديب كوني بكل ما تحمله الكلمة من معان، وبرغم هذه المكانة الكونية، فإن أهم سماته هي (التواضع)، وأولي سمات هذا التواضع هو الاعتراف بأصحاب الفضل عليه، فكثيرا ما كان يتحدث عن (طه حسين)، ثم يقول: إن مقالته عن رواية (بين القصرين) قد بعثت في نفسه سعادة وبهجة أكثر من سعادته بجائزة الدولة التقديرية، وكثيرا ما كان يردد أن العقاد هو أول من تنبأ له بجائزة نوبل.
وبرغم أن تأثير إبداعات محفوظ هي أكثر التأثيرات حضورا في إبداع الأجيال التالية له، برغم ذلك لم يحاول ـ يوما ـ أن يحجب غيره من المبدعين، وعندما يتردد عنده هذا الكلام، يبدي عجبه لأن هذا يعني أن الأجيال اللاحقة لا تملك قدرا مناسبا من الثقة في النفس، إذ لا يمكن لأديب مهما ارتفعت قامته أن يحجب سواه، أو أن يغلق الطريق أمام الآتين بعده.

ـ7ـ
ويبدو من متممات هذه الأسطورة الإبداعية، عروبته المتجذرة في ذاته، وسكناه في اللغة العربية سكني العاشق المتوحد بمعشوقه، وربما لهذا كان علي يقين ثابت من المقولة التراثية (الشعر ديوان العرب)، وهذا اليقين جعله يتحفظ علي بعض المقولات الطارئة: (الرواية ديوان العرب)، (المسلسل التليفزيوني ديوان العرب)، ولا شك ان إيثار المقولة الأولي مؤشر علي وعي محفوظ بالحقيقة الجوهرية للإبداع ـ علي وجه العموم، فالشعر فن اللغة بكل جمالياتها، واللغة فيه أداة وغاية معا، أما الرواية فإنها تستخدم اللغة بوصفها أداة، ثم تقدم إضافات وهوامش علي هذه الأداة.
ونعتقد أن عشقه للغة وسكناه في دروبها هو الذي باعد بينه وبين كتابة (الحوار) للسينما، لعدم قدرته علي التعامل بالعامية تعاملا فنيا، وذلك برغم أنه كتب ما يقرب من مائة (سيناريو) لأفلام سينمائية أولها: (عنتر وعبلة)، وأكثر من ثلاثين سهرة تليفزيونية، واثني عشر مسلسلا تليفزيونيا، لكنه كان حريصا علي أن يردد: (إن أدبي في كتبي، وليس في السينما أو التليفزيون).
وعظمة محفوظ الإبداعية تتمثل في تجدده وتناميه، حتي إننا ونحن نتابع مقولات الحداثة وإجراءاتها النقدية، سوف نجد كثيرا من وثائقها التطبيقية وفيرة في نصوصه، سوي مقولة واحدة هي مقولة: (موت المؤلف)، فهذه العظمة حاضرة في إبداعها حضورا مبهرا بذاكرتها اليقظة التي تحارب النسيان أو التناسي، ووعيها المتفتح الذي يحارب الانغلاق والتجمد، ولعل هذا بعض ما أسست عليه جائزة نوبل عندما قالت:
«نجيب محفوظ يكتب منذ 50 عاما، وهو الآن في السابعة والسبعين.. يواصل الإنتاج وأعظم إنجازاته في الرواية والقصة القصيرة، لقد أعطي إنتاجه دفعة كبري للقصة كمذهب يتخذ من الحياة اليومية مادة له، كما أنه أسهم في تطوير اللغة العربية كلغة أدبية، ولكن ما حققه نجيب محفوظ أعظم من ذلك، فأعماله تخاطب البشرية جمعاء».

  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #31
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


ملامح أدب المقاومة
في روايات نجيب محفوظ


الدكتور السيد نجم

(خلال شهر أغسطس عام 2006م، كان رحيل رائد الرواية العربية المعاصرة «نجيب محفوظ»، وهو ما شغل كل المحافل الأدبية والثقافية في مصر والعالم العربي. هكذا أصحاب العطاءات الكبري و الإنجاز المتميزة. لقد شغل الكاتب في حياته ولقرابة الستين سنة، عقول وأقلام القراء والنقاد، حتي يخال لمن يتابع ما كتب عنه أنه لم يعد هناك ما يمكن الكتابة حول أعماله الروائية.
فلما كان له من خصوصية التعدد، فضل كاتب تلك السطور إعادة النظر في مجمل رواياته من خلال البحث عن ملامح أدب المقاومة، وهو ما يتوافق مع ما تمر به المنطقة العربية من أحداث، وما أحوجنا الي ما يعضد عزم الأفراد والجماعات معا.)
ملامح عامة:

شاع استخدام مصطلح «أدب المقاومة» خلال العقود الأخيرة، وهو لا يعني أن دلالته جديدة ونحت المصطلح من فراغ، سبقه مصطلح «الحماسة»، «أدب الحركات» وهو المصطلح الذي عُني بدراسة الحركات المتمردة في التاريخ الاسلامي القديم.. ثم مؤخرا «أدب الحرب» و«أدب المعارك» و«أدب أكتوبر»، وكلها تتداخل معا للتعبير في بعض الدلالات المشتركة، وإن بدت مختلفة في بعض جوانبها وربما قاصرة أيضا، ليبقي مصطلح «أدب المقاومة» أكثر شمولية، ومتضمنا ما سبقه وأكثر.
مصطلح «أدب اكتوبر» يجعلنا نشعر وكأن الأدب المعبر عن معارك حرب أكتوبر 73م سقط بالباراشوت أو المظلة العسكرية لمناسبة بعينها. كما كان مصطلح «أدب المعركة» و«أدب الحرب» قاصرا علي التجربة الحربية، وهو ذاته ما يدعونا للقول إن الموضوعية تجعل من «أدب المقاومة» أكثرهم رسوخا وتعبيرا عن تلك الحالة الخاصة/ العامة التي يعيشها الأفراد والجماعات والشعوب في مواجهة «الآخر» المعتدي. فهو لا يقتصر علي تجربة الحرب، ولا للتعبير عن القهر والاستبداد. إنه الأدب المعبر عن العمل من أجل تفجير الطاقات الإيجابية والواجبة للمواجهة. إنه الأدب المعبر عن وجهة النظر الإنسانية/ الشمولية وليست العنصرية الضيقة. كما أنه الأدب الذي يسعي دائما لتهيئة الأفراد والشعوب والرأي العام لفكرة «المقاومة». إنه ليس أدبا تحريضيا انفعاليا بقدر كونه يهيئ العقول والنفوس بالوعي أن تكون يقظة منتبهة.
«أدب المقاومة»، يسعي لتحقيق أهدافه من خلال التركيز علي الظروف الصعبة التي يعيشها الناس، مع بيان عناصر القوة والضعف في الجماعة، ثم إبراز ما يملكه الآخر المعتدي من عناصر القوة والضعف، والذي قد يسعي لإضعاف قوتهم، وبالتالي يحث هذا الأدب علي العمل والأمل بالوعي وليس بالدفع العصبي المنفعل.
«أدب المقاومة» مهم في إذكاء روح المقاومة بالوعي والفهم للقضية التي تدافع عنها الجماعة.. أن تكون عبدا واعيا لعبوديتك، أفضل من أن تكون عبدا جاهلا سعيدا.
«أدب المقاومة»، أدب الحث علي العمل، وأن المقاومة ليست حالة ذهنية، لأنه يعلي القيم العليا بين الناس. وهو ليس التعبير عن صراع «الأنا» الفردية خلال سعيها لتحقيق رغباتها، بل هو للتعبير عن «الأنا» الفردية الواعية بذاتها وذوات الآخرين لتحقيق أهداف مشتركة.
«أدب المقاومة»، هو الأدب الذي يرسخ لقواعد الوجود (الأنطولوجي) الإنساني الحق في مقابل الحياة التي تقوم علي الصراع «العدواني» بدوافع الاقتتاء والجشع والهيمنة.
يمكننا تقديم تعريف اصطلاحي:
«أدب المقاومة هو الأدب المعبر عن الذات (الواعية بهويتها) والمتطلعة إلي (الحرية)، في مواجهة (الآخر المعتدي)، ليس من أجل الخلاص الفردي، بل لأن يضع المبدع: جماعته/ عشيرته/ قبيلته/ دولته/ أمته، موضع اهتمامه، محافظا علي القيم العليا، أي من أجل (الخلاص الجمعي).
فالمقاومة بالمعني الشامل تتغلغل في سلوكيات الحياة اليومية للأفراد وحتي مواجهات الشعوب. تبدأ بالوعي بالذات وبالآخر وليس إلي نهاية لأنها «المقاومة» تتجدد في أطرها وتشكيلاتها بالوعي واكتساب الخبرات.
إذا كانت «المعرفة» ذات طابع اجتماعي في المنشأ والتوجه وتسعي لكشف المجهول. وإذا كانت المجتمعات تتشكل بفعل أزمنتها (الماضي: بكل خبراته وتجاربه، والحاضر: المتشكل بفعل الماضي، فالمستقبل هو المحصلة، هو رؤية الجماعة لتشكيل الواقع الحاضر)، يبقي «الوعي» هو المحرك لتلك المعرفة المتزايدة والمتوارثة والخاضعة للحذف والإضافة. فهي ليست هكذا آلية الحركة، بل قادرة علي إعادة تشكيل نفسها بفعل «الوعي».. الذي هو مبعث المعرفة، ولا يبقي إلا استخدامه وتحويله إلي طاقة قادرة علي التحريك.
لقد تبني المبدعون الملتزمون ومنهم «نجيب محفوظ» الهدف، متضمنا ملامح ومفاهيم «أدب المقاومة» عن قصد أو غير قصد للمصطلح، فالكاتب المبدع غير ملتزم بمصطلح ما علي كل حال.
ففي وقفة سريعة أمام الرواية العربية وحدها كاف، ويفسر مقولة أن الوعي بالهوية والحرية يولد المعرفة المقاومية المناسبة. فقد شهد النصف الآخر من القرن التاسع عشر، مرحلة ميلاد جنس الرواية بالترجمة والنقل والاقتباس فضلا عن الاجتهاد.. توالت الأجيال، وراجت «الرواية»، حتي إن المتابع يكاد يخرج بنتيجة أساسية، هي: أن ميلاد الرواية كشكل أدبي جديد، ولد وترعرع من أجل القضايا العامة والوطن، وقد انشغلت الرواية في مهدها بالاستبداد السياسي، والتحرر من الاحتلال، ونقد الذات، والبحث في «الهوية».
لم تكن روايات «جورجي زيدان» إلا تأكيدا علي إيجابيات التاريخ العربي والإسلامي، حتي بدت الرواية عنده وكأنها تؤرخ لفترة زمنية ما، من خلال حدوتة حب تقليدية، وكانت المرأة دائما رمزا للبطولة والوطن والإخلاص مع البطل «الأنموذج».
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #32
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


كان «فرح أنطون» واعيا في حواراته مع الشيخ «محمد عبده» في الدعوة إلي البعد عن التعصب وكره الرذيلة ومحاربتها بالفن الجميل، وهو ما عبر عنه «أنطون» في روايتيه: «الدين والعلم والمال» عام 1903م، و«أورشليم الجديدة» عام 1904م. وكانا للدعوة المحذرة من الصراع بين الطوائف والطبقات والفئات داخل المجتمع، وإلا أصبح الهلاك واقعا.
كأن «الهوية» هي الهم والغاية وأساس لبناء المجتمع القوي الجديد والمنتظر. اللافت أن تكون خاتمة روايته الأولي: ليس لنا الآن أمل (بعد الله) إلا فيك أيها العلم، ولا رجاء إلا في الطبيعة الإنسانية وهي الأقوي، لأنها الفاعل.
أما الكاتب «يوسف أفندي حسن صبري» فكتب رواية «فتاة الثورة العرابية» عام 1930م، التي جعلت من مذكرات أحمد عرابي أساسا في بناء وتشكيل روايته، مع قصة حب رومانسية للجندي الفلاح القائم علي خدمة الزعيم، هذا المزج بين الحب الذاتي وحب الوطن أبرز فكرة الهوية والتحرر من المحتل مباشرة.
كما كانت رواية «في الحياة قصاص» للكاتب «عبدالحميد البوقرقاصي» عام 1909م، وروايتا «محمود خيري» المسماة: «الفتي الريفي» و«الفتاة الريفية» عامي 1903 و1904م، وأيضا الرواية الشامية «الساق علي الساق» للكاتب «أحمد فارس» عام 1913م.. كلها نماذج تدعو إلي تعميق مفهوم الهوية والانتماء والدعوة للتحرر.
إلا أن الرواية العربية لم تعط نفسها للكاتب بشكل جيد فنيا، طوال الفترة السابقة للحرب العالمية الأولي، حتي كانت الكتابات الجديدة للرواية علي يد.. «نجيب محفوظ»، «حنا مينه»، «يحيي حقي»، «سهيل إدريس»، «فتحي غانم»، «محمود المسعدي»، «محمد الديب»..وغيرهم.
مع ذلك أليس السؤال عن الهوية والحرية بهذا الإلحاح يعبر ضمنا عن الإحساس بالخوف من الغياب في مقابل الآخر الأقوي؟! يبدو أن فترات التحول الحضاري هي الأكثر استثارة عند الشعوب والكتاب بالذات للبحث عن الموضوع والتعبير عنه، لأنه تساؤل يحمل قدرا من الطموح والرغبة في تأكيد الذات لتحقيق حلم جمعي من أجل مستقبل أفضل.
أما ونحن في بدايات الألفية الثالثة، حاصرتنا «العولمة»، كأننا أمام كائن مفترس غريب يغزو مضاجعنا. يكفي الإشارة إلي الأسئلة: هل هي نهاية التاريخ كما يقول «فوكوياما» الياباني؟ أم هي صدام الحضارات المتوقع كما يقول «صامويل هنتينجتون»؟ ولا إجابة إلا القول بأننا نعيش عصرا جديدا، بحيث يجب ألا ننشغل إلا بالبحث في المزيد من عوامل الربط من أجل المزيد من الانتماء بالقبض علي قيم الهوية والتحرر.
السؤال: هل البحث عن الهوية والتحرر والمقاومة بالتالي، يعتبر دعوة للانغلاق في مقابل العولمة والانفتاح؟ لقد أجاب «نجيب محفوظ» وحقق المعادلة الصعبة.. بقدر التمسك بمحلية المكان والشخوص والأحداث في رواياته، كانت عالمية الإنسانية جمعاء، فكان حصوله علي جائزة «نوبل» في الآداب عام 1988م تتويجا لقيم «أدب المقاومة» الحقة.
أما أن أهم ملامح أدب المقاومة هي: التعبير عن الذات الجمعية والهوية.. الوعي بالجوهر الأصيل للذات الجمعية، والحث علي تجاوز الأزمات الشعبية وآثار الحروب والاضطهاد والقهر.. الوعي بالآخر العدواني وكشف أخطائه وأخطاره، من أجل المزيد من الوعي بالذات والمواجهة.. إذن فهو أدب إنساني من حيث هو دعوة لتقوية الذات في مواجهة الآخر، وليس دعوة للعدوان أو الانغلاق.
وتكثر الملامح وتتعدد في روايات نجيب محفوظ، ليس بتعزيز القدرة علي مواجهة الآخر فقط، ولكن بتعزيز الذات (الجمعية) وتعظيم عناصر قوتها.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #33
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


كيف تحققت «المقاومة» في روايات محفوظ؟
سنحاول أن نرصد هذه العلاقة المركبة المعقدة من خلال قراءة الملامح العامة للمتغيرات الاجتماعية ثم الملامح العامة للنص الروائي عند «محفوظ» رصدا و تعبيرا عن تلك المتغيرات، وبذلك أصبح إبداعه مبعثا للوعي بالذات الجمعية.
أولا: الملامح العامة للمتغيرات الاجتماعية وانعكاساتها علي الإبداع الروائي
فكانت هزيمة ثورة (عرابي) الاحتلال الإنجليزي عام 1882، ثم اندلاعها في شكل ثورة 1919 وحصارها، ثم اندلاع ثورة 1952، ثم انكسار المشروع القومي بعد هزيمة 1967م، شكل الخلفية التاريخية والاجتماعية الأساسية في روايات الرائدة ثم روايات محفوظ.
بداية نشير إلي حركة (الإحياء الأدبي) التي برزت في الشعر عند سامي البارودي وإسماعيل صبري ثم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم.. (إبان حكم الخديو إسماعيل ومن بعده) كما رصدت المحاولات الروائية تلك المتغيرات الاجتماعية. ونشير هنا إلي ثلاثة أعمال ظهرت في تلك الفترة تقترب من الشكل الروائي:
«علم الدين» لعلي مبارك: حاول المقارنة بين بعض العادات الشرقية والغربية، اختار لهم في روايته شيخا أزهريا وسماه (علم الدين)، وفي تسميته (علم الدين) يتضح أنه كان يقصد بأن شيخه هذا هو العالم الديني المثالي في نظره كما أن تسميته لابن علم الدين (برهان) الدين دلالة علي نفس هذا المعني، وعلم الدين شيخ أزهري متفتح يقبل السفر إلي الخارج مع سائح إنجليزي عالم يرغب في تعلم اللغة العربية، وهو متفتح العقل يسأل عما لا يعرفه ويقتنع به، ولا يقبل كل عادات الأوروبيين، ولكنه يرفض بعضها الآخر التي لا تتوافق مع تقاليده وشرقيته.
حديث عيسي بن هشام للمويلحي: اتخذت شكل المقامة، وهي رحلة وجدانية متخيلة، بطلها باشا تركي يقوم من قبره فيلتقي (عيسي بن هشام) ويتجولان وسط معالم الحياة الجديدة، فيصطدم الباشا بالأنظمة الجديدة التشريعية والتعليمية والعادات وما فيها من تناقضات. ينقسم الكتاب إلي فصول، كل فصل يتعلق بقطاع من قطاعات المجتمع. وهو يتسم بالنقد الاجتماعي والدعوة التعليمية الإصلاحية ورفض تقليد التقاليد الغربية.
«ليالي سطيح» لحافظ إبراهيم: وهي محاكاة لحديث عيسي بن هشام، الراوي هو (أحد أبناء النيل) يلتقي مع «سطيح» (أحد الكهنة العرب القدامي). يتخذ الكتاب شكل المقامة أيضا، فالمكان ثابت والحوار هو السمة الغالبة بلا أحداث حقيقية أو فاعلة. فصول الكتاب بين مشاكل اجتماعية مختلفة.. فتارة هي الامتيازات الأجنبية، وتارة هي قضية أدبية إلي غير ذلك من ألوان النقد والنقد الاجتماعي.
وأيضا كانت محاولات الرواية العربية التي قام بها أدباء الشام ومنهم (أحمد فارس الشدياق) و(سعيد الشامي) و(سليم البستاني) و(لبيبة هاشم) و(زينب فواز) ومن تلاهم من (جورجي زيدان) و(فرح أنطون). دارت هذه الروايات عند محاور ودلالات قومية كما أنها تأثرت بشكل الرواية الغربية الأوروبية، في حين أن الأعمال المصرية الثلاثة التي توقفنا عندها حاولت التأصيل بالرجوع إلي شكل المقامة.
ثم كانت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول لتجد التعبير عنها في إبداعات الرواية عند (توفيق الحكيم) وهي (عودة الروح) و(يوميات نائب في الأرياف) و(عصفور من الشرق).. وفي إبداع طه حسين ومحمد حسين هيكل باشا، والمازني.. غير أن رواية (عودة الروح) كانت تعبيرا ناضجا فنيا وأكثر تعبيرا عن روح الثورة الوطنية وبداية التقاط الطبقة البرجوازية الصغيرة في المدينة وهي البذرة التي ستنمو في ثلاثية نجيب محفوظ الملحمية: بين القصرين وقصر الشوق والسكرية.. التي أرخت لثورة 1919 حتي 1946.
الا أن المتغيرات الاجتماعية بعد ثورة 1919م، تبدت جليه في مجمل الإبداعات الروائية سواء في ملامح الأماكن (الشعبية)، وطقوس الأحياء العريقة وعبق الحياة الشعبية. تنعكس علي تشكلات السرد والبناء الأسلوبي فكانت ما تسمي اللغة الثالثة (بين اللغة الفصحي والعامية) اللغة العامية الفصيحة العذبة في سهولتها وإيقاعها، وقدرتها اللافتة في رصد التحولات الثقافية والاجتماعية للطبقة المتوسطة الصغيرة، وتماسكها الذي سيبلغ اكتماله باندلاع الثورة الوطنية وتحديد ملامح ومكونات الشخصية المصرية.. مع التخلص من الأسلوب الخبري، والمحسنات اللفظية، وتماسك الفصول، ورسم الشخصيات بتصميم وتلقائية، وتشكيل وقائع الأحداث.
وكانت رواية (قنديل أم هاشم/يحيي حقي) حيث زيت قنديل الإنارة في مسجد «السيدة زينب» الذي يستخدمه المرضي بعيونهم، والشاب (إسماعيل) طالب الطب الذي عاد من بعثته متشبعا بالعلم والطب الحديث ليعالج به عيون ابن عمته فاطمة فتصاب بالعمي، ويوشك أن يكفر ويحطم القنديل ثورة علي تخلف المصريين. إنه صراع الشرق مع الآخر الأوروبي الغربي، حيث الحضارة الحديثة وقيم الروح الشرقية.. وتنتهي بمعادلة توفيقية بين الدين والعلم بعد عالم التصوف الشفاف، حيث يمزج الطبيب إسماعيل بين أدوات العلم الحديث وزيت قنديل أم هاشم في علاج مرضي الرمد والعيون.
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #34
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


ثانيا: ملامح المتغيرات الاجتماعية والمقاومة في روايات محفوظ
جاء «محفوظ» بعد تلك الفترة ليكتب مضيفا عما سبقوه، بأكثر حنكة وتقنيا، فضلا عن تجربته الخاصة/ العامة. لقد شيد نجيب محفوظ عالمه الروائي المكاني حول أعرق أحياء القاهرة.. سواء حي الجمالية، أو حي الحسين وهي أحياء شعبية، تمثل جوهر ملامح القاهرة القديمة، وقاهرة العامة والفقراء.. حيث بقايا العمائر والمساجد والخانات.. رصد «محفوظ» التحولات السياسية التي حدثت منذ نهاية الأربعينيات خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، ورصد تحولات العالم وصراعات القوي الكبري، مدي تأثيرها علي سياق وتطورات الحياة المصرية.. ثم اتخذ من الأسرة البورجوازية الصغيرة بؤرة تعكس كل هذه التغيرات بشموليتها السياسية والثقافية والروحية والأخلاقية. وقد تميزت كتاباته بحرصه علي تسجيل معظم تغيرات طراز المعمار والأزياء والعادات وفنون الغناء المصري.. لذلك بدا الخاص والعام، الجزئي والكلي، في جوهر بناء الرواية عنده، موازيا ومعبرا عن المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية.
وإن بدا ممثلا لمفاهيم المثقف البورجوازي الصغير المتعاطف مع فكر المرحلة الناصرية بعد ثورة 1952م، يرفع من شأن «الحرية»... في الرأي والتعددية الحزبية ويحترم وجهات نظر الآخرين، رافضا الديكتاتورية والنظم الشمولية. (التحولات المجتمعية وأثرها علي النص الأدبي ـ عبد الرحمن أبو عوف).
إن ملامح أدب المقاومة في عناصرها العامة والخاصة، تمثلها: رصد «الهم العام» وانعكاسه علي الشخصيات في العمل الروائي.. مع إبراز محوري «الهوية والحرية» من خلال الأحداث الحياتية/ اليومية/ الآنية.. ثم ردود الأفعال والاستجابات وهي التي تشكل بناء الرواية أو حكائية الرواية، أو النص الروائي. وهو ما برز في معظم أعمال محفوظ الواقعية النقدية والواقعية الرمزية، ولعل أبرزها (زقاق المدق) واكتمالها في (ميرامار) و(ثرثرة فوق النيل).. وغيرها.
تجلي ذلك في اختيار نماذج شخصياته الروائية، ثم رصد الأحداث والملامح السياسية والاجتماعية، وإن لزم عدم إغفال حقيقة أن «محفوظ» بدأ كتابة الرواية بأربع روايات من وحي التاريخ المصري القديم، وهي: «همس الجنون»، «عبث الأقدار» ، «رادوبيس»، «كفاح طيبة» حيث أبرز بطولات الإنسان المصري العادي البسيط، وليس لتمجيد الملوك وسكان الأهرامات، وهو وحده ما يشي بدلائل انتماءات الكاتب منذ بداياته.
يمكن التوقف أمام ملمحين في روايات محفوظ للكشف عن البعد المقاومي فيها، وهما اختياراته للشخصيات الروائية، ثم اختياراته للأحداث والوقائع والتصوير المكاني.

بعض النماذج البارزة لشخصياته
(1) نموذج الوفدي..

حيث كان «عيسي الدباغ» صاحب الصولجان والتاريخ النضالي قبل ثورة 52، وقد أزاحوه في التطهير بعيدا عن العمل السياسي أو الاجتماعي بعد الثورة، تعرف علي «ناني» تلك فتاة الليل التي انتهي عندها كل طموحاته السياسية والشخصية، دخل محل شقته التي هاجر إليها جسديا ونفسيا بالإسكندرية.. رواية «السمان والخريف».


(2) نموذج المثقف اليساري.. وقد تكرر في أكثر من رواية، ذلك الذي آمن بكل القيم العليا الرافضة لقهر الإنسان وظلمه، الحالم بالمجتمع المتنامي القادر علي إسعاد أهله وناسه، هذا المناضل سقط في يم من الانحطاط بعد عدد من الهزائم، التي بدأت ولم تنته.. رواية «القاهرة الجديدة»، ورواية «ميرامار». ويلاحظ المتابع أن تكرار هذا النموذج يرتبط علي الجانب الآخر بوجهة نظر «محفوظ» في التغيير والتطوير والتقدم كأفكار عامة.

(3) نموذج الأصولي الديني الإسلامي.. واللافت هنا أن «محفوظ» رصد هذا الأصولي منذ أعماله الروائية المبكرة، مع بيان قدر من تعدد ملامحها وسطوة وجودها في الرواية (المجتمع)، وهو ما يحتاج إلي (دراسة خاصة).. تشير فقط الي «عبد المنعم» في رواية «السكرية»، والذي بدأ يساريا ضمن الفاعلين في انتفاضة الطلبة والعمال عام 1946م، ونشير إلي أن هذا النموذج وبمتابعته في مجمل أعمال «محفوظ» يبدو وكأنه يرصد تاريخ الفكر الأصولي المعاصر بمصر «صوره وأفكاره».

(4) نموذج الانتهازي المساوم، فكان عضو لجنة الاتحاد الاشتراكي «التنظيم السياسي بمصر خلال فترة الستينيات والسبعينيات» ذلك المدعي وقد عمل علي سرقة المصنع الذي يعمل به، مستعينا بسلطات التنظيم داخل المصنع.. رواية «ميرامار».
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #35
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


بل أضاف محفوظ العديد من الشخصيات «المقاومة» بملامحها وقدرتها الخاصة والمتواضعة، حتي أصبحت في ذاتها، ومنها (1) «نفيسة» تلك الفتاة الفقيرة في رواية «بداية ونهاية»، ويصلح أن نطلق عليها لقب «المومس» الفاضلة»، حتي إنها تتخلص من حياتها بإلقاء نفسها في النهر وانتحرت حفاظا علي وجاهة وسمعة أخيها الضابط الذي تربي وتعلم من فيض عطائها.
(2) «سعيد مهران» ذلك السفاح أو الذي بات سفاحا بفعل أفاعيل الانتهازيين والأحوال الاجتماعية القاهرة، حتي شعرنا بالإشفاق عليه، وتعاطف القارئ معه، في رواية «اللص والكلاب» تلك الرواية التي اعتبرها النقاد نقلة مهمة في تاريخ الرواية العربية.
(3) «عباس الحلو» الذي عاش في «الزقازق» فقيرا، ذلك الذي بدا منعزلا عن العالم، مكتفيا بما فيه، اقتحمه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فخرج «عباس» ليعمل في «الكامب» أو المعسكر الإنجليزي حتي يوفر ما يجعله قادرا علي الزواج من «حميدة». قهرتهما الأحداث ولم يلتقيا بعد خروجهما من الزقاق إلا عندما ضاعت «حميدة» في ليل الرذيلة حتي قتلت أخيرا.
(4) «عاشور الناجي» وقد بدا في أعمال «محفوظ» الرمزية علي أكثر من اسم فهو الفتوة المدافع عن الحق والحقيقة مقاوم الظلم والظالمين.
وتتعدد الشخصيات المقاومة، فمنذ نموذج «فهمي» ابن السيد أحمد عبدالجواد في «بين القصرين» وهو نموذج الوفدي المحب لسعد زغلول قائد ثورة 1919 حتي «عامر وجدي» في رواية «ميرامار» ويدعي النقد المتابع أن تلك الشخصيات تعبر عن تجربة وفكر شخص «نجيب محفوظ» نفسه لنقل انتماءات محفوظ السياسية.
كما تجلت ملامح المقاومة في أعمال محفوظ بعد رصد الشخصيات رصده للأحداث ونقده المباشر وغير المباشر للواقع المعيش من خلال الالتفات إلي جزئيات الحياة اليومية، هذا بجانب رصد تغيرات الزمن وانعكاسها علي النص الروائي.
ففي رواية «زقازق المدق» مع بدايات العمل رصد الكاتب تخلي المقاهي بالقاهرة عن خدمات الراوية الشعبي الذي يغني بالربابة بعد استخدام المذياع، ذلك الاختراع السحري الجديد لتسلية الرواد، كما تجلت مظاهر الخلل في القيم الاجتماعية وفي عادات أهل الزقاق، فتواجه أثر ما أحدثته الحرب علي معيشة وحياة المصريين نتيجة الحرب العالمية الثانية وأزمات الحكم وتجار السوق السوداء، وهو تجلي في مصير شخصياته الروائية، وفي تقنيات الفن الروائي.
بدت الثلاثية وحدها في رصدها الكلي لمظاهر الحياة اليومية لأفراد الشعب قبل ثورة 1919 وحتي عام 1946 ببليوجرافيا لمجمل ملامح الحياة المعيشية بمصر «خصوصا الطبقات الدنيا» فبرز الجانب المعتم منه وأسبابه، مما يكسب الوعي بالذات ويدفع إلي الرغبة في التغير والتقدم، وهو ما يعد أهم ملامح أدب المقاومة، بل وتبرز أهميته الحقيقية بلا صوت زاعق أو افتعال صارخ.
لقد بدأت البورجوازية المصرية في الظهور من خلال عائلة متوسطي التجار «السيد أحمد عبدالجواد» تابعت أجيالها لرصد مسارات التحولات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، فكان ولده «كمال عبدالجواد» الذي يعد النموذج للمثقف الجديد ابن نتائج ثورة 1919، وثمرة كل التفاعلات الحضارية الجديدة نتيجة احتكاك الشرق بالغرب. زاد التعليم وأعلن عن اتفاقية الاستقلال عام 1936، وتعددت المذاهب الفكرية وتعددت الأحزاب، بل وبدأت قاعدة للصناعات المصرية والمعاملات البنكية المصرية، وغيرها، لذا لم يكن غريبا أن يدرس الفلسفة، «وهو ما كان محل سخرية الأب» إلا أنه جيل آخر لهموم أخري أولها البحث عن طريق جديد للخلاص.
كما كان ابن شقيقته «خديجة» أحمد عاكف الشيوعي امتدادا له، ولكنه اتخذ من الصراع الطبقي موقف الماركسي الثوري، إن النص الروائي في الثلاثية بما يحمل من عوامل الكشف عن السلبي في الذات الجمعية، والبحث عن طريق للخلاص الجمعي من خلال تبني فكرتي الهوية والحرية نموذجا لمجمل أعمال «محفوظ» التي تتبني خصوصية ملامح أدب المقاومة.
لا يفوتنا اختيار نمط شخصية «المومس» في العديد من روايات محفوظ، لكل ما حملها الروائي من دلالات، حتي أصبحت «نموذجا» للعديد من المفاهيم المقاومية، فهي غالبا تسقط بسبب الفقر والقهر الاجتماعي، ودوما تبدو مضحية نبيلة السلوك إلي حد قد لا يتوافر عند غيرهن.
هكذا كانت «مومس» زقاق المدق والقاهرة الجديدة وبداية ونهاية، أما «نور» مومس «اللص والكلاب» فهي أكثرهن تعبيرا عما نعانيه من دلالات مقاومية، نظرا لدورها الجوهري الفاعل والتي أضافت جانبا مكملا لدلالات شخصية السفاح/ الضحية
  رد مع اقتباس
قديم 10/01/2008   #36
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


لعله من المناسب التوقف قليلا أمام آخر ما كتبه محفوظ «أصداء السيرة الذاتية».. تري هل عمد «محفوظ» إلي إسقاط نظرية «فيليب لوجون» التي تقول بأن مرجعية الأنا في السيرة الذاتية معصومة من الوقوع في دائرة التخييل متي تحقق التطابق بين الهويات الثلاث: هوية المؤلف والراوي والشخصية؟
ربما عمدا خلط «محفوظ» بين المرجعي والمتخيل، وتنصل من مسئولية السير الذاتية التي يلزمها قدر غير قليل من الجرأة والصراحة والوضوح ربما إلي حد التعري!
يتذكر المتابع لأحاديث الكاتب الصحفية مقولته في صحيفة «أخبار الأدب» إن سبب الإقبال علي جنس «السيرة الذاتية» أن أصبح الأدب معقدا غير مفهوم للقارئ، بينما السيرة كلام واضح عن حياة الناس.
فيما يقول «محفوظ» مرارا إن شخصية «كمال» في «زقازق المدق» هي شخصيته وآراؤه، وأن ما كتبه من رواياته حول بعض الأماكن والشخصيات، هي في الحقيقة جزء من سيرته، ورجم لحيرة وقلق يثقلان الكاتب من خلال علاقته بتلك الأماكن والشخصيات فتبدو لك الروايات بما تتضمنها من شخصيات هي سيرة ذاتية بمعني ما.
أما وقد هم الكاتب لكتابة «السيرة»، الطريف أن بدت أكثر غموضا ولم يفصل بين الذاتي والمرجعي والتخيلي والوهمي.. بدا وكأنه عمدا لا يريد أن يكون هكذا صريحا وواضحا، وكأنه بدا جريئا في قوله أثناء الكتابة الروائية أكثر منها وهو يكتب السيرة، خصوصا أنه يعلم أن قارئ السيرة لا يضع احتمالات الصدق أو الكذب فيما يستنتجه أو يقرؤه.
لقد أبدع الكاتب شخصية «عبدربه التائه» لتلعب دور الرابط والروائي في العمل/ الأعمال. كان أول ظهور بالرقم أو الحكاية رقم 5:
«ولد تايه يا ولاد الحلال
ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال:
فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عني جميع أوصافه»
ثم نتوقف أمام الحكاية رقم 9 التي تعطي مؤشرات كثيرة لكل السيرة وهي بعنوان «الخلود».
«قال الشيخ عبدربه التايه:
وقفت أمام المقام الشريف اسأل الله الصحة وطول العمر. دنا مني متسول عجوز مهلهل الثياب وسألني: هل تتمني طول العمر حقا؟ فقلت في إيجاز من لا يود الحديث معه:
ـ من ذا الذي لا يتمني ذلك؟
ـ فقدم لي حقا صغيرا مغلقا وقال:
إليك طعم الخلود لن يكابد الموت من يذوقه.
فابتسمت باستهانة فقال:
ـ لقد تناولته منذ آلاف السنين ومازلت أنوء بحمل أعباء الحياة جيلا بعد جيل.
فغمغمت هازئا.
ـ يالك من رجل سعيد.
فقال بوجوم:
ـ هذا قول من لم يعان كر العصور وتعاقب الأحوال ونمو المعارف ورحيل الأحبة ودفن الأحفاد.
فتساءلت مجاريا خياله الغريب.
ـ تري من تكون في رجال الدهر؟
فأجاب بأسي:
ـ كنت سيد الوجود ألم تر تمثالي العظيم؟ ومع كل شروق أبكي أيامي الضائعة وبلداني الذاهبة وآلهتي الغائبة.
تبدو الحكاية وكأنها حلم يكابد التلاشي، وتحمل في مضامينها مفاهيم «الخلود»، «نمو المعارف»، «أعباء الحياء»، في مقابل «دفن الأحفاء» إنها المكابدة بين طريقين يعيشهما الإنسان علي الأرض، معهما وبهما يكون الصراع والمقاومة.
وإذا أضفنا بعض المقولات المبعثرة هنا وهناك.. أمثال أقواله:
«لقد فتح باب اللانهاية عندما قال «أفلا تعقلون» من رقم 10
«إن مسك الشك فانظر في المرآة نفسك مليا» من رقم 12
«جوهران موكلان بالباب الذهبي يقولان للطارق تقدم فلا مفر هما الحب والموت» رقم 15
«عندما يلم الموت بالآخر يذكرنا بأننا مازلنا نمرح في نعمة الحياة» رقم 16
ثم إذا ما تأملنا عناوين الحكايات بالأرقام: دعاء ـ رثاء ـ دين قديم ـ السعادة ـ الطرب ـ الفتنة ـ الأشباح ـ المرح ـ التحدي ـ المطر ـ التوبة ـ التسبيح ـ ليلة القدر ـ الحياة ـ الفتنة ـ الندم ـ الذكري ـ الندم ـ السؤال..


ففي الفقرات أو الجمل المنتقاة عفوا والعناوين قدر واضح من التأمل، الوعي بالمخاطب وثقافته، النزعة الصوفية والتي هي غالبة علي كل النزعات فكرا وسردا، الألف ولام التعريف التي تعني التحديد والقصيدة لعناوين أغلب بل معظم العناوين، وغيرها من الملامح والشواهد، والتي نري معها أن «نجيب محفوظ» كان مدركا لعنوانه «أصداء السيرة الذاتية»، فلم يكتب «السيرة الذاتية» وهو المدرك تماما لخصائصها ولكنه لم يشأ أن يكتبها بل يكتب يحول الخبرة العمرية وأصداء التجارب التي عاشها، فلم يكن «التخييل» الذي قالت به الناقدة «جليلة طريطر» محاولة واعية من الكاتب للتجاوز، بقدر أن منهجية الكاتب أصلا لم تكن «كتابة السيرة الذاتية»!! وما حكاية «الخلود» إلا نموذجا مختارا لتأكيد ذلك، بل واختيار تلك الشخصية الدرامية الرامزة «عبدربه التايه» كرابط درامي وإطار تتحرك حوله وبه الأفكار التي تبناها الكاتب للتعبير عنها من وحي حكمة الأيام وخبرة السنين، والتي تحمل في ثناياها حكمة الأيام وخبرة السنين التي تري وتفعل للمقاومة وإن علت روح الإيقاع الصوفي، أليست الصوفية في مرحلة ما وبفهم ما، هي طريقا ما للمقاومة الفردية وشكلا من أشكال «المقاومة السلبية»؟ (فكم من المجموعات الصوفية ترفض العزلة وتدعو للعمل بين الناس)


أخيرا..


لقد تساءل البعض ذات مرة «الأدب المقاوم» أدب فاعل أم أدب منفعل؟ إذا كان «أدب المقاومة» هو الأدب المعبر عن الذات الجمعية، الواعية بهويتها، المتطلعة إلي حريتها في مواجهة الآخر العدواني.. أي أن المقاومة هي تعضيد الذات الجمعية والبحث عن عناصر قوتها، ثم البحث عن عناصر ضعفها لتلافيها، وبالتالي الاستعداد لمواجهة الآخر المعتدي. أدب المقاومة يبدأ قبل ممارسة العنف أو الصراع مع الآخر العدواني.. يبدأ بالذات، لذا كان أدب المقاومة معنيا بقضايا: الهوية والحرية والأرض والانتماء، وبقضايا الحياة الكريمة للإنسان وفي جانب منه الاهتمام بالتجربة الحربية (التي توافرت في عدد من روايات محفوظ من خلال معايشتها مع المدنيين، وأثرها علي الناس العادية، وهو جانب مهم في التعبير عن التجربة الحربية، كما في رواية «خان الخليلي»).
إذا كان الأمر كذلك فتعد روايات «نجيب محفوظ» كاشفة عن البعد المقاوم في الأدب، وفاعلة من أجل تقوية الذات الجمعية بكشف الخفي والمسكوت عنه والسلبي، وبالتالي رصد الأحداث وإبراز أكثرها تأثيرا علي الناس، هي دعوة للانتباه، والانتماء، والحرية، والخلاص.. أليس من صفات أدب المقاومة أنه ذاكرة للأمم والشعوب.
  رد مع اقتباس
إضافة موضوع جديد  إضافة رد



ضوابط المشاركة
لافيك تكتب موضوع جديد
لافيك تكتب مشاركات
لافيك تضيف مرفقات
لا فيك تعدل مشاركاتك

وسوم vB : حرك
شيفرة [IMG] : حرك
شيفرة HTML : بليد
طير و علّي


الساعة بإيدك هلق يا سيدي 13:55 (بحسب عمك غرينتش الكبير +3)


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
ما بخفيك.. في قسم لا بأس به من الحقوق محفوظة، بس كمان من شان الحق والباطل في جزء مالنا علاقة فيه ولا محفوظ ولا من يحزنون
Page generated in 0.39261 seconds with 12 queries