عرض مشاركة واحدة
قديم 01/08/2009   #40
شب و شيخ الشباب قرصان الأدرياتيك
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ قرصان الأدرياتيك
قرصان الأدرياتيك is offline
 
نورنا ب:
Jan 2008
مشاركات:
1,446

افتراضي


حالما دخلنا المدينة توقّفنا بالقربِ من مقهى فيه بضعة رجال سألنا أحدهم عن فندق بابل فأجابنا بكرديّة لم نفهم منها إلا القليل، وبمعونة إشاراته وإيماءاته عرفنا الطريق، فبلغنا البيتَ بعد دقائق لم تخلُ من عناء. سلّمنا على أصحابِه الذين يمتّون بصلةِ القرابة إلى أبي بشّار، وبعدَ استراحةٍ قصيرة تخلّلتها القهوة التركيّة خرجنا في زيارةٍ قصيرة إلى سوقِ المدينة، وهناك جذبني السجّادُ الكرديّ الفارسيّ بألوانه الحارّة وتلك النّقوش التي تزيّنه، ولم يطل الأمرُ حتّى انطلقنا متّجهين إلى زاويثا بحسب الخطّة المرسومة!

خرجنا من دهوك عندَ منتصف النّهار لنعبرَ الجبالَ نحوَ الشّمال من جديد. كانت الأوبّل الألمانيّة تزمجر وهي ترتقي تلك المرتفعات المزيّنة باخضرارٍ لا مثيل له، وتقتربُ من زاويثا المشهورة بنوعٍ فريد من أنواع شجر الصّنوبر، ومعها سحنا في أحضان طبيعةٍ تضمُّ كروماً ولوزاً وشعرنا أنّنا فعلاً في خدرِ العراق الحقيقيّ. بلغنا مقصدنا في زاويثا وفيها توقّفنا والتقطنا صورتَين ثمَّ أخذنا الطّريقَ صعوداً نحوَ "سره سنك". مررنا ببلدة "سوارا توكا" وسيّارتنا تواصل ارتقاءَها كقردٍ أفريقيّ لا يكلّ ولا يملّ وفي أعلى هذه البلدة نزلنا حيث عثرنا على مطعمٍ واستراحةٍ صغيرة لا بأسَ بها! رحتُ أنا آخذُ الصّورَ للوادي والجبال العملاقة المخوفة بينما أفرغَ أبو بشّار تعبَه في سجائره عراقيّة الصّنع! جلسنا في زاوية الحديقة وشربنا الشّاي وبدأ قريبي يقصُّ عليَّ شيئاً من طفولته التي يذكرها بحسرة، عندما كانَ يُرافق أباه في أعمالِه التي صرفها في هذه المنطقة في بناءِ المصايف والمطاعم لعدّة سنوات.

تركنا المكانَ بعدَ وقتٍ ملأته أحاديث أبي بشّار العذبة وخفايا طفولته وشقاواته، وانحدرنا هذه المرّة نزولاً نحوَ "سره سنك"، وعلى قمّة جبلِ "جارا" رأينا أحد قصور الرّئيس الرّاحل. وبالقربِ من ذاكَ المكان مررنا بأرضٍ مسوّرة بحجارةٍ صفراء متينة عرفتُ لاحقاً أنَّ هذه الأرض هي بقايا لقصرٍ صدّاميٍّ آخر لم يعدْ موجوداً اليوم بعدما نهبَ الأكرادُ حجارته وكثيراً من حجارة السّور ليبنوا بها منازلهم! لفحنا هواءٌ رطبٌ قادمٌ من بحيرة قائمة على سدٍّ صغير توقّفنا عندَها للحظات وسحبتُ آلة التصويرِ وصوّبتها تجاه المياه وضغطتُ إلا أنّها خانتني في تلك اللحظة وتعطّلت... شتمتُها شتيمةً سوريّةً ثقيلة من قاموس مفردات ممّا تحت الزنّار، وكدتُ أرمي بها على الأرض لولا أبي بشّار الذي قالَ لي: لا تقلق سنجدُ في سوق البلدة فيلماً أضعه في كاميرتي! بالقربِ من شابٍّ نحيفٍ طويل فتحَ قريبي نافذتَه وقال: "عندي سؤال بَلا زَحْمَة! أكو مصوّر قريب؟!" رفعَ الشابُ يدَه مشيراً إلى يسارنا وقال: "في السّوق"! وعندَ محلّ التّصويرِ ضاعَ الحابلُ بالنّابلِ فقد تعطّلتْ كاميرا أبي بشّار بعدَ وضع الفيلم الجديد، والمصوّرُ غائبٌ، وصبيّه يشرحُ لنا بكرديّة ممزوجةٍ بإشارات يديه البهلوانيّة... وضاقَ صدري ونفذ صبري فقرّرتُ شراءَ واحدة جديدة ما زلتُ حتّى اليوم أحتفظ بها ذكرىً لتلك المصيبة. دفعتُ أربعاً وخمسين ألفَ دينارٍ أي حوالي ثمانية وثلاثين دولاراً وأخذتُ أيضاً فيلمين وضعتهما في جيبي وعُدنا إلى السيّارة التي سارتْ بنا صعوداً نحوَ "إينشْكي" وهي قريةٌ مسيحيّةٌ صغيرة قريبة في شكلها وأزقّتها من القرى السوريّة القريبة من السّاحل.

في هذه الأثناء هاتفتُ أختي وتكلّمتُ معها كي تطمئنّ... ثمَّ نزلنا باتّجاه "سُلاف"، وفي الطّريقِ إليها، وأمامَنا مباشرةً، على بُعدٍ بعيد فوق ذروة الجبل، كأنّها مائدةٌ مستديرة اصطفّتْ عليها ألوانُ الطّعامِ؛ جثمتْ مدينةُ "العَمّاديّة"! أوقفَنا عسكريٌّ وقالَ بالكرديّة: الطّريقُ إلى العَمّاديّة مقطوعٌ! فنزلنا "كلي سُلاف" ("كلي" كلمة كرديّة تعني "وادي" تلفظ الكافُ فيها جيماً مصريّة)، ومن هناك برزتْ العَمّاديّة من جديد كتاجٍ يزيّن هامة الجبل مرصّعةً ببيوتها المرصوفة فيها كجواهر من كلِّ شكلٍ ولون. وبعدَ لأيٍ وجدنا الطّريقَ الموصل إليها، لكنّنا قبل بوّابتها الحجريّة انعطفنا إلى اليسار نحوَ "شيلادزَّه" وخلال الطّريق كنتُ أجوبُ بنظري الأنحاءَ فشاهدتُ لافتةً مكتوبٌ عليها "إلى كنيسة مار عوديشو"، وعندَ مفترقِ طرقٍ لمحتُ لافتةً أخرى تقول "عمليّات إزالة الألغام"، تظلّعتُ إلى أبي بشّارَ وأشرتُ إليها بدون كلمة، فقال بدون أن يلتفتَ إليَّ: تعودُ هذه الألغام إلى الحرب التي شنّها صدّام على الأكراد، ثمَّ سكتَ فسكتُّ معه وعدتُ إلى مشاهدي وتلك الخربشات التي خططتُها على وريقات كنتُ أحملها!

يتبع...

Mors ultima ratio
.
www.tuesillevir.blogspot.com
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.37101 seconds with 11 queries