عرض مشاركة واحدة
قديم 19/07/2008   #196
صبيّة و ست الصبايا وهج البراءة
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ وهج البراءة
وهج البراءة is offline
 
نورنا ب:
Jul 2007
المطرح:
وداعاً .... أخوية
مشاركات:
966

افتراضي




ما بعرف من أي كتاب بس انو حلو

ــــــ أيها الليل ـــ


يا ليل العشاق و الشعراء و المنشدين.
يا ليل الأشباح و الأرواح و الأخيلة.
يا ليل الشوق و الصبابة و التذكار.
أيها الجبار الواقف بين أقزام غيوم المغرب و عرائس الفجر , المتقلد سيف الرهبة , المتوج بالقمر , المتشح بثوب السكون , الناظر بألف عين إلى أعماق الحياة , المصغي بألف أذن إلى أنة الموت و العدم .
أنت ظلام يرينا أنوار السماء , و النهار نور يغمرنا بظلمة الأرض .
أنت أمل يفتح بصائرنا أمام هيبة اللا نهاية , و النهار غرور يوقفنا كالعميان في عالم المقاييس و الكمية .
أنت هدوء يبيح بصمته خفايا الأرواح المستيقظة السائرة في الفضاء العلوي , و النهار ضجيج يثير بعوامله نفوس المنطرحين بين سنابك المقاصد و الغرائب .
أنت عادل يجمع بين جنحي الكرى أحلام الضعفاء بأماني الأقوياء , و أنت شفوق يغمض بأصابعه الخفية أجفان التعساء و يحمل قلوبهم إلى عالم أقل قساوة من هذا العالم .
بين طيات أثوابك الزرقاء يسكب المحبون أنفاسهم , و على قدميك المغلفتين بقطر الندى يهرق المستوحشون قطرات دموعهم, و في راحتيك المعطرتين بطيب الأودية يضيع الغرباء تنهدات شوقهم و حنينهم .
فأنت نديم المحبين و أنيس المستوحدين و رفيق الغرباء و المستوحشين .
في ظلالك دب عواطف الشعراء , و على منكبيك تستفيق قلوب الأنبياء , و بين ثنايا ضفائرك ترتعش قرائح المفكرين .
فأنت ملقن الشعراء و الموحي إلى الأنبياء و الموعز إلى المفكرين و المتأملين .
عندما ملت نفسي البشر و تعبت أجفاني من النظر إلى وجه النهار سرت إلى تلك الحقول البعيدة حيث تهجع أشباح الأزمنة الغابرة .
هنالك وقفت أمام كائن أقتم جامد مرتعش سائر بألف قدم فوق السهول و الجبال و
الأودية.
هنالك حدقت شاخصا بعيون الدجى , مصغيا لحفيف الأجنحة غير المنظورة شاعرا بملامس ملابس السكون , مستبسلا أمام مخاوف الظلام .
هنالك رأيتك أيها الليل شبحا هائلا جميلا منتصبا بين الأرض و السماء , متشحا بالسحاب ,
و الديباج , محملقا بوجوه اللصوص , خافرا بقرب أسرة الأطفال , باكيا لابتسام الساقطات , مبتسما لبكاء العشاق , رافعا بيمينك كبار القلوب , ساحقا بقدميك صغار النفوس .
هناك رأيتك أيها الليل و رأيتني , فكنت بهولك لي أبا و كنت بأحلامي لك ابنا , فأزيحت من بيننا ستائر الأشكال و تمزق عن وجهينا نقاب الظن و التخمين , فأبحت لي أسرارك و نياتك , و أبنت لك أماني و أحلامي و آمالي , حتى إذا تحولت أهوالك إلى أنغام أعذب من همس الأزهار , و تبدلت مخاوفي بأنس أطيب من طمأنينة العصافير , رفعتني إليك , و أجلستني على منكبيك , و علمت عيني النظر , و علمت أذني السمع , و علمت شفتي الكلام , و علمت قلبي محبة ما لا يحبه الناس و كره ما لا يكرهونه , ثم لمست بأناملك أفكاري فتدفقت أفكاري نهرا راكضا مترنما يجرف الأعشاب الذابلة , ثم قبلت بشفتيك روحي فتمايلت روحي شعلة متقدة تلتهم الأنصاب اليابسة .


لقد صحبتك أيها الليل حتى صرت شبيها بك , و ألفتك حتى تمازجت ميولي بميولك , و أحببتك حتى تحول وجداني إلى صورة مصغرة لوجودك . ففي نفسي المظلمة كواكب ملتمعة ينثرها الوجد عند المساء و تلتقطها الهواجس في الصباح . و قلبي الرقيب قمر يسعى تارة في فضاء متلبد بالغيوم و طورا في خلاء مفعم بمواكب الأحلام . و في روحي الساهرة سكينة تبيح بمفاعيلها سرائر المحبين و ترجع خلاياها صدى صلوات المتعبدين , و حول رأسي غلاف من السحر تمزقه حشرجة المنازعين ثم تخيطه أغاني المتشبثين .
أنا مثلك أيها الليل , و هل يحسبني الناس مفاخرا إذا ما تشبهت بك و هم إذا ما تفاخروا يتشبهون بالنار !

أنا مثلك و كلانا متهم بما ليس فيه .
أنا مثلك بميولي و أحلامي و خلقي و أخلاقي .
أنا مثلك و إن لم يتوجني المساء بغيومه الذهبية .
أنا مثلك و إن لم يرصع الصباح أذيالي بأشعته الوردية .
أنا مثلك و إن لم أكن ممنطقا بالمجرة .
أنا ليل مسترسل منبسط هادئ مضطرب و ليس لظلمتي بدء و ليس لأعماقي نهاية , فإذا ما انتصبت الأرواح متباهية بنور أفراحها تتعالى روحي متجمدة بظلام كآبتها .
أنا مثلك أيها الليل و لن يأتي صباحي حتى ينتهي أجلي ...


.............


كنت بالأمس كلمة صامته في خاطر الليالي
فأصبحت أغنية مفرحة على ألسن الأيام
وقد تم هذا كله في دقيقة واحدة مؤلفة من نظرة وكلمةو تنهدة وقبلة

(الرائع جبران خليل جبران)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04538 seconds with 11 queries