عرض مشاركة واحدة
قديم 31/08/2008   #13
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


شجرة المنزل

كانت الخلافات بين أوديناتو وزوجته كارينا، تتواصل حول ملاءمة العيش وسط الطبيعة، أو وسط الأبنية التي يشيِّدها الإنسان. كان أوديناتو، وهو رجل نظام ودراسة، يميل إلى حياة متحضِّرة، بيتية، مدنيَّة، بعيدة عن عنف الطبيعة وألغازها. أما كارينا، فكانت تحب ممارسة التمرينات الرياضية في الهواء الطلق، والسباحة، والشمس، والغابات، وتحب السير عاريةً على الشاطئ، ومثل ذلك من الأمور. وإذا ما كنا نريد سحب النزاع الذي يبقيانه دائماً في حدود العواطف الزوجية، أمكننا القول، إن الزوج يمثِّل حضارةً عقلانية، وإنسانية، مدنية، الخ؛ وإن الزوجة تمثَّل العكس تماماً. وتحدث أحياناً في هذه العائلات البرجوازية مجابهات صغيرة جداً مماثلة تخفي وراءها مجابهاتٍ أكبر بكثير.‏

وبالمقابل، كما سبقت أن قلنا، كان النزاع ينحصر دائماً في حدود الحميمية الزوجية. صحيح أنهما لم يكونا متفقين حول هذا التفصيل، لكن الوفاق كان تاماً تقريباً بينهما،‏
حول باقي الأمور. وكان كل شيء يسير دائماً على ما يرام، لو لم تبرز فجأةً مشكلة الشجرة المزعجة.‏


كان الزوجان ميسورَيْن بل ثريَّان، يسكنان في مبنى قديم وسط المدينة. وكان في الشقة، من بين غرفٍ أخرى، قاعة استقبال فسيحة. والحال أن كارينا وجدت أن زوجها، وقد عادت إلى المنزل بعد ظهر يومٍ من الأيام، يستعدّ، وهو مسلَّح بسطام (1)، لقطع جُنْبَة (2)، أو بالأحرى، شجيرة لا تزال ليِّنة، نمت، فجأةً، في زاوية قاعة الاستقبال، بين المدفأة ذات الطراز الإمبراطوري، وصِوان المائدة، طراز لويس الخامس عشر، المملوء بالتماثيل الصغيرة الثقيلة الزخرف، وأواني "سيفر" (3) الخزفية؛ كان طول النبتة أو الشجيرة الآن متراً. وهي نبتة لم ترها زوجة أدويناتو أبداً من قبل هي طويلة ومستقيمة، أوراقها كبيرة وخضراء، لامعة وذات وبرٍ قليل من جهة، ومائلة إلى البياض من الجهة الأخرى. باختصار، أوراق شبيهة جداً بأوراق الدلب. لكن بدلاً من رأس ورقة الدلب الذي يجعلها تشبه غالباً يداً أصابعها متباعدة، كانت هذه الأوراق على شكل قلب، لـه رأسان، أو بالأحرى قلبان ذائبان في واحد، يشبهان بالضبط القلبين الذين يحفرهما العشاق في قشر الشجر ويجمعانهما بسهمٍ واحد يخترقهما. كانت هذه الشجيرة تنبثق من الأرض المبرقشة. وبالإمكان رؤية الجذور الليِّنة وقد غمست لحاها بين لوحتين صغيرتين منها، بوضوح.‏
أطلقت المرأة صرخةً وهي ترى أوديناتو يُشْهِر السطام، بطريقةٍ عدوانية، ضد النبتة الصغيرة الناعمة؛ فتدخَّلت في الوقت المناسب، لتحوِّل اتجاه الضربة، التي وقعت أخيراً على صِوان المائدة طراز لويس الخامس عشر، محطَّمة واجهته الزجاجية. وتبع ذلك مشادةً حاميةً بينهما: ومثلما يحدث دائماً في مثل تلك الحالات، أعطت الشجرة، التي كانت غير ذات معنى بذاتها، الفرصة لإطلاق العديد من الأحقاد المكبوتة؛ كان أوديناتو يصرّ على أنه يجب اقتلاع النبتة، التي، برأيه، لا تنسجم مع طراز الديكور في القاعة. وكارينا تلومه على كراهيته المعتادة للطبيعة، وتصرخ قائلة: "هذه هي حقيقتك، حين ترى شجرةً فإن أول فكرة تخطر ببالك هي قطعها.. لكن، ألا تعرف أن الأشجار مقدَّسة؟" ويجيب أوديناتو على ذلك بأنه لا يملك شيئاً ضد الأشجار؛ إلا أن وجود شجرةٍ في المنزل يشكِّل عائقاً كبيراً. هذا دون الأخذ بالحسبان وجود فرق بين شجرةٍ وأخرى: فليتها كانت شجرة سنديان، وهي شجرة نبيلة، كانت أوراقها تتوِّج رؤوس المحاربين القدامى، أو شجرة الغار المقدَّسة (وهي شجرة ربَّات الفن)، أو شجرة الزيتون الورعة والمسالمة، أو شجرة سرو جنائزية لكن حالمة، أو حتى، ولمَ لا، شجرة صنوبر، نستطيع تزيينها في نهاية العام بالشموع وأكاليل الزهر. أما هذه الشجرة، فالله وحده يعلم من أين خرجت، وأي شجرةٍ قذرةٍ هي. وترد زوجته قائلة:‏
"لكن، أخيراً، لمَ تزعجك؟ إنها لا تعوي مثل الكلب، ولا توسِّخ المكان مثل الطير... إنها صامتة، محتشمة.. لا، لا، إنه حقاً رأي قَبْلي (4)." وبدأ أوديناتو، بعد أن عاد السطام إلى المدفأة، وهو يعترض على وجود الشجرة في منزلـه، بالتراجع شيئاً فشيئاً، تحت شتائم زوجته، باتجاه مكتبه. كان يستسلم دائماً تقريباً أمام كارينا، التي كانت تزداد تسلُّطاً، بشرط، كما كان من عادته أن يقول، ألا تحشر أنفها في كتبه، وفي ما عدا ذلك، تستطيع فعل ما تريده. وهكذا، فتح أوديناتو باب مكتبه في ذلك اليوم، بعد أن ردَّد بصرامةٍ شديدة، أنه لا يحبِّذ إطلاقاً قصة الشجرة هذه، واختفى بداخله.‏
أمضت كارينا طوال بعد ظهر اليوم ذاته وهي تقرأ مؤلَّفات في علم النبات، وتبحث في مسألة النوع الذي يمكن أن تنتمي إليه هذه الشجرة الغامضة؛ ليس ثمة شك في كونها شجرة، لأن لون الجذع وقوامه خشبيَّان. ويسمح شكل الورقة، من جهةٍ أخرى، بتصنيفها بالتأكيد بين الأوراق العريضة ذات الورقية النافضة. حتى الآن، كانت كارينا في وضعٍ حسن؛ أما تسمية الشجرة باسمٍ فأمر مستحيل البتَّ فيه. ولابد أن تكون، على الرغم من ذلك، شجرةً سريعة النمو، لأن كارينا لم تذكر رؤيتها ليلة البارحة خلال استقبالٍ صغير تمَّ في قاعة الاستقبال وقد نمت، في ليلةٍ واحدةٍ فقط، ما يقارب نصف المتر. وحسبت كارينا أنه في معدَّل كهذا سيصل طول الشجرة إلى ثلاثة أو أربعة أمتار، في أسبوع. وكانت تقف، من وقتٍ إلى آخر، وهي تقوم بأبحاثها، لتداعب أوراق الشجرة. وفي ذلك المساء، رفض أوديناتو المتذمِّر أن يتكلَّم مع زوجته، عمداً. لكن كارينا كانت تفكِّر في شجرتها، وتشعر بأنها سعيدة.‏
وفي الأيام التالية، تأكْدت تكُّهنات كارينا بدقة. كانت الشجرة تنمو، وتقتضي الحال قول ذلك، بسرعةٍ كبيرة. وأصبحت نبتة المنزل بالأمس، شجيرة في صباح اليوم التالي. وأصبح الجذع خشبياً عند الأسفل، قائماً نحو الأعلى، وأخذ لون القشرة البنيِّ يطرد اللون الأخضر النباتي بشكلٍ جليّ. حتى الأغصان اكتسبت شكلاً: الأكبر منها تثخن، والأصغر تحوَّل اللُّب الطري فيه إلى ليفٍ لدن مغطى بالقشر. ووصل غصن من أغصانها إلى الصوان، وكان بالأمس لا يمسَّه. كانت كارينا في أوج سعادتها، وأخطر أوديناتو نفسه، مع أنه ردَّد أن هذا الشيء سوف لن يتأخَّر في خلق المشاكل، التي أهمُّها إدخال نوتة خاطئة في ديكور قاعة الاستقبال، أخطر للاعتراف، وهو يصرف بأسنانه، بأنها كانت شجيرة جميلة.‏
وفي ذلك اليوم، لم تهتم كارينا، وقد أثارتها الحماسة، إلا بالشجرة. فطوت سجادة "البخارى" التي كانت ترسل رأسها في الزاوية، وانتزعت ورقتين عفنتين، بالطبع، ثم ذهبت لتحضر مرشَّة، وضعت مستنقعاً حقيقياً على الأرض. صغرت البركة شيئاً فشيئاً واختفت، وهي إشارة صريحة إلى أن الشجرة شرٌ كامل.‏

لا أحتاجُ لتوقيعٍ .. فالصفحةُ بيضا
وتاريخُ اليوم ليس يعاد ..

اللحظةُ عندي توقيعٌ ..
إن جسمكِ كانَ ليَّ الصفحات
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04912 seconds with 11 queries