[Tarek007]

من اجل حفنة من الدراهم .. وداعا سوريا



سيسافر وليد ويترك طفلته وهي لم تكمل عامها الاول بعد .. لن يحضرها تطفئ شمعتها الاولى ، وسيفوته مشاهدة خطواتها المتعثرة .. لن يبقَ له الا صورتها تبتسم في هاتفه الجوال. يسعى جاهدا في ايام الوداع الاخيرة ان يبقى مبتسما ،



ولكنه لم ينجح في اخفاء الدمعة التي يحبسها في عينيه كلما رأى طفلته تحبو على الارض وتتوقف كل بضع خطوات لتبتسم له ابتسامة واسعة .. لا تقدر بثمن .. سيهجرها ، سيفتقدها .. يهجر حارات الشام بكل الفوضى والحياة التي تحتويها ليستقر في مدينة صناعية تشبه كثيرا نتاج البيوت البلاستيكية ..

سيودع زوجته الجميلة بعد اقل من ثلاث سنوات على زواجهما ويتركها وحيدة .. كان طوال الوقت يمزح ويضحك سعيدا بإجازة حظي بها من حياته الزوجية .. سعيدا بالعزوبية .. وفي لحظة تلتقي عيناه بعينيهاي .. يصمتان .. يتألمان .. يبتلعان المرارة ويتابعان الحديث ..



في بلدي 5000 درهم تجعل الانسان يتخلى عن طفلته .. يضمُ جسدها الغض عندما يعود الى المنزل في كل مساء ، 5000 درهم تجعل الانسان يهجر زوجته التي احبها ليعيش بعيدا عنها يخطف من الساعات الطويلة في كل يوم او يومين دقائق ليتحدث اليها لانه ببساطة يريد ان يدخر دراهم اكثر تقرب عودته الى الوطن.

5000 درهم يبيع وجبة دافئة يتناولها على مائدة العائلة بين اهله ويرقب طفلته " مهموكة " وهي تمضغ اول طعام لها على مائدة وتبتسم وتضحك وتلعب .. لا تعرف انها في اليوم التالي سيكون هناك كرسي خال على مائدتها ..



ولا زالوا يتحدثون عن الاصلاح ، ولا زالوا يتباهون بالمنجزات ، وما زالوا يقفون على المنابر بوقاحة ويقدمون لنا الوعود ويفسرون صمتنا بالقبول ..

لقد ابتلعنا من الكلمات ما يكفي لسد حناجرنا لقرون قادمة، تسكننا الغصة ويلبسنا اليأس ، اليأس الذي زرعتموه في نفوسنا فاصبحنا ننقله لاولادنا بالوراثة ونعرف ونؤمن ونعتقد ونقسم بالله العظيم باننا لن نأخذ منكم الا الكلام ..

مازال اطفالنا يبتسمون ، جائعون نعم ولكنهم كلما يروننا يضحكون ويرفرفون ويلقون باجسادهم الطرية علينا وينامون في حضن يجدون فيه الامان وليس هو بآمن ..

ولكننا كيف سنقول لهم ذلك .. في النهاية سنسعى الى الدراهم وختم على جواز السفر وندير ظهورنا ونحبس دموعنا ونبتلع الكلمات ونهرب من الوداع مسرعين الى المستقبل الذي هجر اوطاننا ..

ويستمر هؤلاء يتكلمون الى ان يشيخوا .. يموتوا وهم يقطعون الوعود وينثرون الاحلام ويخبرونا قصصا للاطفال .. وقد كبرنا ، ونأتي نحن في اليوم الاخير قبل ان نسافر ونروي القصص الجميلة التي حفظناها ( قسرا ) لاطفالنا قبل ان نودعهم ولا نعرف متى نلقاهم مرة اخرى ..



كان يا مكان في قديم الزمان بلد مليء بالدفء والحنان حاكم صالح ومسؤولين ليس فيهم الطالح حليب ومدارس وحذاء جديد وسنوات هنيئة وعمر مديد ، تكبرون فيه يا أولادي الله يرعاكم ويجعل اسماءكم مختارة في قرعة السكن الشبابي ، احمدوا واشكروا على نعمه وارفعوا الدعاء لمسؤولي بلدي من بهلول حتى شهابي ، وجعل الله السيارة تدخل الحارة على ايديكم ويتفرج عليها الجيران صفوف صفوف من عند ابو محمد الكندرجي لعند مطانيوس السمان ، والوظيفة مؤمنة ومصاري كتار ، شرطي ، موظف جمارك ، قاضي ، رئيس بلدية . .. مسؤول اوعى تنسى انك سمسار .. بس يا ابني لا تنسى تمشي على التسعيرة وتعمل تخفيض للدراويش .. بس اوعى تشتغل ببلاش بتموت كديش .. ايه كديش ..؟؟ وبعمرك ما رح تاكل حشيش ..



يعانق وليد طفلته وينام ، يحمل حقيبته في الصباح الباكر ويستقل سيارة الاجرة في طريقه الى المطار .. وفي نشرة الاخبار الصباحية يستمع " وقد اكد نائب رئيس مجلس الوزراء بان الخطة الخمسية العاشرة ( ليذكرنا بانه مضى خمسون عاما ) ستنعكس بالخير والرفاه على مواطنينا الصامدين وســـا نسعى لتحسين مستوى المعيشة .. ســا تنخفض اسعار السيارات .. و ســـا نبني 5000 وحدة سكنية .."

ويشرد وليد في وجه طفلته النائمة .. يبتسم .. يضحك .. يصمت .. تخونه دمعة .. يبكي بحرقة .. يسكت المذياع .. يسافر وليد .. ويبقى المسؤول يتكلم ويستمع اليه الآلاف .. الملايين .. ينظرون الى اطفالهم .. يحسدون وليد على حفنة الدراهم .. لانها السبيل الوحيد لانقاذ مستقبل اطفالهم من كذب المسؤولين ..



نضال معلوف

2005-08-07