الموضوع: حوارات أدونيس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05/11/2007   #3
شب و شيخ الشباب verocchio
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ verocchio
verocchio is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
مشاركات:
2,795

إرسال خطاب MSN إلى verocchio
افتراضي


الوزن وسيلة سحرية عباس : هناك بعض التساؤلات حول "الكتاب" خـصوصـا الجزء الثاني. فهو مثلا، ينظم أخـبارا مـوثقة، وأحداثا. وليس لهذا النظم مكان محدد، فنحن نجـده تارة في المتن وتارة في الهـامش. وكـان في الجـزء الأول في الهـامش غالبا. لماذا يفعل ذلك شـاعر مثلك وضع دائما فارقا حادا بين النظم والشعر، وهذا جزء من عمله النقدي. وهو الآن ينظم أشياء تبدو للوهلة الأولى أنها ليست في حاجة إلى نظم- مجرد أخبار. فما أسباب ذلك؟
أدونيس : كل حدث رواه الرواة، أو كل عمل واقعي أرخ له - في ما يتصل بطقس القتل، خصوصا أردت قصديا أن أعيد صياغته وزنا. وقد أشرت إلى هذه القصيدة في مستهل الهامش في الكتاب الأول.
لأقل، بتعبير آخر، أنني قصدت عامدا أن أخرج هذا الحدث أو العمل من نثريته التي روي بها، وأن أعيد روايتـه مدخلا إياه في نسق يرتبط بالذاكرة الشعرية. وبهذا يكتسب شرعيته، بوصفه رمزا للممارسة السياسية، من جهة، ولغة طقسية لاحتفال مأتمي من جهة ثانية، خصوصا أن الحدث هنا أو الفعل متصل غالبا، بقتل الإنسان. إنه ملهاة - مأساة: إذ يبدو ظاهريا، كأنه نوع من اللعب أو الاحتـفـال المأتمي، يكرر بشـغف وغبطة، كـأن الأضاحي البشرية فيه شرط ل "مجد" السلطة. وقد رأيت أن إعادة صياغته وزنا تحدث تأثيرا خـاصا في القارئ، بفعل الطقسية الشـعرية الكامنة في الحدث ولغتـه، وتجـعل هذا الحـدث الغابر كأنه "حي" مستعاد. فالشعر بوصفه طقسا، إنما هو تحيين للتاريخ. هكذا يبدو الوزن هنا مجرد وسيلة "سحرية"- إذا شئت ولا يصح أن ينظر إلى الهامش إذن إلا من هذه الزاوية- بوصفه تحيينا طقسيا بالوزن للنثر الإخباري أضيف أن في هذا النظم استعادة لأسلوب قديم في السرد الموزون (لا ننس السردية النثرية التي تهيمن اليوم على الشعر في كثير من لغات العالم، وبينها اللغة العربية، بحيث أن القصيدة تصبح أقصوصة)- واستعادة لمناخ خاص في العلاقة بين النظم والحـدث، وذلك تعميقا لعمل الذاكرة، وتحـقيقـا لنوع من التطابق المثلي بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والواقع. فحين نسرد الأعمال أو الأحـداث وزنيـا، بلغـة وإيقاعات بسيطة في مستواها الشفوي، نعطي لما نرويه كتابيا، نكهة الحضور المتواصل، بحيث يبدو ذلك شبيها بعقد نافرة في الخيوط الشعرية التي تربط بين مراحل التاريخ، وفي هذا أستعيد أيضا بعض العناصر المغيبة، لكي تكتمل صورة العلاقة التاريخية العربية، بين لغة الشعر والأحداث الواقعية. إنه نوع من التوثيق أردته قصديا، كما أشرت. عدا أن الذات هنا غائبة. لا حضور إلا للحدث نفسه. والشاعر مجرد راو، لا بلغته هو، بل بلغة الرواية التاريخية، العامة، "الموضوعية". وفي ذ لك ما يعطي الوجه الآخر الذي هو نقيض للذاتية الطاغية في الشعر العربي- والتي "تمحو" الحدث لا ترى ، "الشيء".
عباس : كان لدي إحساس بأن هناك أمورا أو أحداثا قصد أن تكون نظما. حتى في المتن، هناك أحيانا أخبار منظومة. مثلا كلامك على أبي نواس وما قيل فيه.
أدونيس : قلت وأكرر أنني تعمدت أن أعيد صياغة بعض الأحداث والأقوال، بشكل موزون. أشعر في هذا الإطار، بأن تقديم أبي نواس بما قيل عنه في وقته، وفي شكل موزون، يعطي لموقعه في تاريخنا الشعري بعدا رمزيا، أكثر دلالة من تكرار ما قيل عنه بصيغته ا لنثرية. الاستشهاد أو التمثل بعبارة قديمة نوع من العودة إلى أصل اللغة- الكلام، عودة لا تتضمن الارتداد أو المحافظة، و انما هي اسـتـعـادة للغـة القديمة، مفرغة من نمطيتها. وهي في سياقها المختلف، توكيد آخر على أن الماضي لا يزال حيا- وهذه من الأفكار الأساسية التي توجه الكتاب كله- وبخاصة في كل ما يتصل بالعلاقة بين السلطة والفكر، والفنون بعامة، أو بين السياسي والشاعر. وفي الاستشهاد، على مستوى آخر، ما يشير إلى أن أبا نواس فهم ماضيا- في عصره، بشكل أعمق مما يفهمه عصرنا. وفيه أيضا توكيد على أننا لا نملك قانونا مطلقا للتقدم الثقافي نستطيع أن نقول على أساسه، بشكل قاطع ومطلق، إن عصرنا الراهن أكثر تقدما في العمق، من العصور السابقة. وبهذا المعنى مرة ثانية، لا تنفصل الرؤية الجمالية عن الرؤية الفكرية أو الفلسفية للتاريخ. اسمح لي بأن أعود هنا إلى المسألة السردية في الشعر، سواء كان السرد منثورا أو موزونا. تعرف أن هذه المسـألة هي التي تطغى الآن على الكتـابة الشعرية في العالم. وهي في تقديري عودة للحياة اليومية، أو لنثرها الغامر، عبر عودة أعمق إلى الشعر القديم بدءا من جلكامش، مرورا بهوميروس وفيرجيل ودانتي. وتعرف خيرا مني أن كافافيس وريتسوس يقودان هذا الاتجاه في عصرنا الراهن إضافة إلى فرنسيس بونج- مع فارق هو أن كتابة هذا الأخير تتمحور حول الأشياء في حين تتمحور كتابة الشاعرين الأولين حول الأشخاص. تعرف كذلك مدى التأثير الذي يمارسه هذان الشاعران على اللغة الشعرية العربية اليوم. في نصوص هؤلاء الشعراء أو جلها، إرادة لتغييب الذات، أو لأقل: ليست الذات حاضرة فيها إلا بوصفها راوية.
عباس : : ولكنك فعلت شيئا أكثر إرادية، كفافيس مثلا ينظر في التـاريخ الإغريقي والهلليني- يعمل على قصة ويعيد بناءها. أنت في أمـاكن كـثيرة قمت بنظم الأثر أو الخبر لا أكثر. والسؤال لماذا لم تقل ذلك نثرا؟ لماذا- وهذا الغريب- يبدو الشعر أحيانا في نثرك أكثر مما يبدو في وزنك؟
أدونيس : لا أجـادلك في الفقرة الأخـيرة من سؤالك. فالشعر ليس محصورا في شكل دون آخر، وقد يكون موجـودا في النثر أكثر منه في الوزن. والعكس صحيح. غير أنني أخـالفك في الفقرة الأولى. فليس صحيحـا أن كـفافيس يعيد دائما بناء القصة القديمة أو الحدث. خذ، لا على التعيين، ما شئت من قصائده، أو خـذ تحديدا قصائده: على مشارف أنطاكية، وصفة لسحرة يونانيين قدامى من سوريا، ألكسندروس وألكسندرا، في الطريـق إلى سينوبوس، أمير من ليبيا الغربية، لم يحدث أن فهمت... وماذا أيضا، نستطيع أن نضيف قصائد أخرى كثيرة. أقول هذه القصائد لا تقوم على إعادة بناء للأصل، وانما هي سـرد استـعـادي. بل أن قصيدة مثل "ايمينوس" ليست إلا فقرات لإيمينوس نفسه، يبثها كما هي، ثم يختمها معلقا: "هذه فقـرات من خطاب للشاب إيمينوس وهو سليل أسرة رومـانيـة نبـيلة، اشتـهر بالانحلال في سيراقوسة في العهد المنحل لميخائيل الثالث".
واسمح لي بأن آخـذ مثلا من الكتاب، الجـزء الثاني، يتعلق بهامش عن آدم حفيد الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي ضربه الخليفة المهدي ثلاثمئة سوط بتهمة الزندقة. وكان يؤكد للخليفة قائلا: ،( والله، ما أشركت بالله طرفة عين. ومتى رأيت قرشيا تزندق؟ ولكنه طرب غلبني، وشعر طفح على قلبي، وأنا فتى من فتيان قريش، أشرب النبيذ وأقول على سبيل المجون). هذا الخبر- الحدث روى في الهامش (الكتاب، الجزء الثاني، ص 36) أو"نظم" كما تعبر، بالشكل الموزون التالي:
"لم يكن آدم يتزندق. ما قاله
جاء فيضا على القلب، من طرب وانتشاء
كان هذا مجونا.
ويؤكد أصحابه :
لم يكن آدم مشركا"،.
فهل هذا الهامش هو حقا، مجرد "نظم" لذلك ا لخبر- الحدث؟ والأمثلة من هذا النوع هي الغالبة في الهامش. أظن أنني ميال، هذه اللحظة، إلى أن أدعوك لإعادة قراءة الكتاب.
عباس : مرة أخرى. ما الكتاب؟ هل هو- ببساطة- مجموعة شعرية أو كتاب شعري، وهو بالتأكيد ليس كذلك برأيي، هناك نص، جزء كبير منه إرادي ومصنوع ومقصود، كـما أنه على الصـعيد الشـعري البحت، يبدو كأنه خـلاصة شـعـرك، بمعنى أنه في كل فنك، من غـيـر أن يكون بالضرورة تجديدا لهذا الفن. فمقارنة "بأغاني مهيار" أو "مفرد بصـيغة الجمع "، يبـدو كأنه يتابع هذه الكتب ويعمل عليها. لكن القصد لا يبدو أنه الفن الشعري ذاته، فما هو "الكتاب"، بهذا المعنى؟
أدونيس : تصر على وضعي في موقع الشارح المفسر لعمله. ليكن، لا شك في أن بين "الكتاب" وشعري السابق صلة عميقة. فهو بمعنى ما، أفق آخر في سياق ما كتبته حتى الآن. غير أنه في الوقت نفسه، مخـتلف عنه- بناء وطموحا- وأوسع منه آفاقا ودلالات. فهو ينهض، بنائيا، على تعددية تشكيلية تتمازج فيها وتتواكب صور تعبيرية متنوعة: وزنية، نثرية، سردية، شذرات واستشهادات، أشياء الذات وأشياء العالم، أشياء السياسة وأشياء التاريخ، وقائع كأنها خرافات، وخرافات تعاش يوميا كأنها هي وحـدها الواقع- في صراعـات وتأرجحـات واحـتمالات ومفاجآت تعكس الأزمة الكيـانية العربية، أزمة الهوية والصيرورة، بحـيث يبدو "الكتاب" نفسه هو أيضا أزمة فنية- تعبيرية. واضح إذن أن "الكتـاب"، هو كما تقول، ليس مجرد مجموعة شعرية، وائما هو مشروع. وهو بوصفه مشروعا متعدد اللغات: تتمازج فيه لغة الرؤية الشـعرية، ولغـة الرؤية الفكرية، ولغـة الرؤية التاريخية- في عقدة نواتها العميقة تلك العلاقة الغامضة المعقدة بين العربي والعربي، وبين العربي والآخـر، وبين الإنسان والكون. وفي تراثنا الكتابي- الفني نماذج أولى لهذا المشروع نجدها خـاصة عند المعري وعند ابن عربي. "الكتاب"، في هذا الأفق هو "اللزوميات" و" رسالة الغفران" معا، منصهرين في كتاب واحد. وهو "ترجمان الأشواق" و"الفتوحات" ذائبين في تموج واحد.
"الكوميديا الإلهية" لدانتي ليست نموذجـا للكتـاب. ذلك أنها من جهة، تستقي كثيرا من العناصر التخييلية العربية، ومن جهة ثانية سفر تصاعدي في الأفق: جحـيم، مطهر، جنة. بينما "الكتاب" سفر في جحيم متواصل، يتنوع إلى ما لا نهاية. وهو إذن، سفر في عمق الكينونة العربية. وليس الوقوف عند تجلياتها في الممارسة، إلا لمزيد من الغوص في أغوار هذه الكينونة. "الكوميديا الإلهية" سلم صاعد. "الكتاب1" دوائر هبـوط في الكينونة، واسـتقصاء لأبعـادها ومظاهرها. وهو في هذه الزاوية أكـثـر قربا إلى مشروع نيتشه في رؤيتـه للحضارة الغربية المسيحية، منه إلى مشروع دانتي- هذا إذا وافقت معي على أن مشروع نيتشه هو أساسيا فني- فكري: فن بلغة الفكر، وفكر بلغة الفن. ومن هنا لا يقرأ "الكتاب" إلا بوصفه كلا- بوصفه قصيدة واحدة، بتنويعات. وهو بوصفه كذلك خروج من نظام القصيدة- الأغنية الذاتية، التي هي قوام " ديوان العرب". واستطرادا، أود أن أشير إلى أن شعر الحداثة العربية استمرار لهذا التقليد: القصيدة- الأغنية. وبهذا المعنى تواصل الحداثة الشعرية العربية كتابة شعرها وفقا للبنية الفنية العميقة التي أسست لها اللغة الشعرية القديمة. فالحداثة على مستوى البنائية الفنية، استمرار للقدامة. غيرت الثوب، لكنها لا تزال، على الرغم من ادعاءاتها المناقضة، تدور في البنية القديمة ذاتها، في الحدس الأساسي للقصيدة العربية القديمة. لا يمكن استطرادا، تأسيس قطيعة مع الماضي إلا في سياق علائقي: علاقتنا بتاريخنا، علاقتنا بالمجتمع وعلاقاتنا بالطبيعة وأشيائها، علاقتنا بالآخر. بدون هذا السياق العلائقي، لا تكون القطيعة إلا لفظية، هكذا، ربما أردت أن أجعل من "الكتاب" صورة للإنسان العربي في تناقضاته- بين ماضيه وحـاضره أولا، وفي تناقضاته الأخلاقية والفكرية والتعبيرية- على نحو خ
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06064 seconds with 11 queries