الموضوع: أسبوع وكاتب - 2
عرض مشاركة واحدة
قديم 21/06/2008   #177
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


وتمّ كل شيء، لرحيل الكاتب الكبير.. ابن الثانية والثمانين، الفنان، الإنسان، الذي يفرّ وهو في أيامه الأخيرة! يفرُّ من الثراء، والرفاهية، والرقابة المفرطة من الزوجة المحبة.. يفرّ إلى المجهول..! إنها أعجب مغامرةٍ (طائشة) في تاريخ الأدب العالمي. قبل أن تتحرّك العربة قال تولستوي بانفعالٍ شديد لابنته: «ساشا، لا تنسي، احتفظي بكل أوراقي، مسودات رواياتي، يومياتي، أوراق روايتي التي بدأتها منذ أسبوعين ولم أتمّ منها إلا الفصل الأول، إذ سأكتبها فيما بعد». فتجيبه باكيةً: «اطمئن يا أبت..أرجوك.. لا تترك نفسك لهذا الانفعال المثير.. إنه ضار بصحتك..». فيحتضنها معانقاً إياها ويقول: «اطمئني يا ساشا، سنلتقي في أقـرب ممـا تتصورين!». انطلقت العربة.. نحو المجهول.. كانت ساشا تظن أن أباها يعرف وجهته، ولكن الكاتب الكبير شُغل عن هذا برغبته الجامحة في الانطلاق بعيداً قدر الاستطاعة عن إيزيانا/ بوليانا.. وعن صوفيا. وبزغ أول نور للفجر وهم يسيرون في الطريق الوحيد الخارج من المزرعة إلى الجنوب، وبينما كانت العربة تسير بهم، توجّه الدكتور بسؤال تولستوي:
- إلى أين نتجه؟!
- إلى أبعد مكان عن إيزيانا/ بوليانا! وعن صوفيا.
- هل تعني أنك لم تحدّد وجهتك؟! أهذا معقول؟! أي خطة هرب هذه يا ليو؟
- لنتجه إلى محطة قطار شيتشكينو.

بعد أن فكّر في عدم الاتجاه ناحية الجنوب، ابتعاداً عن منطقة (شاماردينو) حيث تقيم أخته ماريا، فيسهل على صوفي اللحاق به هناك، لكن مدير المحطة أخبره بأن عليه أن ينتظر لأكثر من ساعتين إذا كان سيأخذ القطار المتجه إلى الشمال، فانتابه الرعب وقال: ساعتين؟! هذا يزيد فرص صوفي في العثور علينا! وعندما اقترح عليه الدكتور أن يقضي الوقت في مكتب مدير المحطة.. قال تولستوي: كلا.. كلا.. سيعرف من أنا على الفور، وقد يداخله الشك، فيتصل بصوفيا، فنفاجأ بها أمامنا قبل وصول القطار، يستحسن أن نبقى هنا.! لكن الدكتورينصحه بعدم الوقوف في الريح المثلجة، لأن صحته لن تحتمل هذا الجو القارس. فيجيبه: سأحتمل كل شيء.. كل شيء.


وفي القطار جلس الكاتب الكبير مع صديقه الدكتور ماكوفيتسكي في مقعدين في الدرجة الثانية، ورغم محاولته إخفاء وجهه بالياقة العريضة لمعطف الفراء السميك، فقد أخذ بعض الركاب يتفرسون فيه كأنما يريدون أن يعرفوا حقيقة هذا الشيخ الهرم الذي يشبه كاتبهم الكبير المحبوب ليو تولستوي. ودرءاً لمخاوفه من اكتشاف شخصيته يطلب من صديقه الدكتور أن ينتقل إلى عربات الدرجة الثالثة، لكن ماكوفتسكي يبدي عدم موافقته على الفكرة، فالجو قارس، ونوافذ الزجاج في الدرجة الثالثة محطّمة، وإنه يخشى عليه من تتسلل الريح إلى جسده عبر النوافذ المفتوحة!

إلا أن تولستوي العنيد يصرّ على رأيه.. فذلك أفضل من أن يعرفه أحد من ركاب الدرجة الثانية ويفتضح أمره.. فتعرف صوفيا وجهته..! وما هو إلا وقت قليل، حتى وقع ما كان يخشاه! فكل ركاب عربة الدرجة الثالثة تعرفوا على كاتب روسيا الأشهر، الرجل الذي عبّر عن أحلام الفقراء وآمالهم في معظم أعماله الروائية، فمَن لم يقرأها منهم سمعوا بها أو استمعوا إلى فصول منها من الرواة والأدباء الشعبيين في المقاهي أو في عربات القطارات، التي تسري في كل أنحاء روسيا الشاسعة كما تسري الشرايين والأوردة في الجسم البشري، فالقطار كان بطلاً في الكثير من الأعمال الأدبية الروسية. تحلّقوا حول كاتبهم المحبوب، وهتفوا له، وأخذوا يتسابقون في إهدائه ما حملوه من أطعمة، وحاول الدكتور ماكوفيتسكي إقناعهم بإعطاء الأديب فرصةً للراحة، لكنهم لم يستجيبوا لرجائه، فابتعدوا مسافة نصف متر عن مقعد محبوبهم الكبير، ثم شرعوا يمطرونه بأسئلتهم عن أفكاره، وآرائه، وأخذت الأسئلة تتلاحق.

كيف يمكن تطبيق مذهب اللاعنف وحكومة القيصر تصرّ على الحرب في الشرق الأقصى؟!
أهناك أمل أن يساهم كبار الملاك في إنشاء بعض المدارس الابتدائية لأولادنا في مزارعهم وقراهم؟! لقد قبضوا على زوجي، وألقوا به في السجن بعد أن جلدوه لأنه لم يستطع تقديم إيصال دفع ضريبة العام الماضي؟!
أتوسل إليك أن تكتب طالباً الإفراج عنه.. أيها الأب الكبير الرحيم إننا نحبك، ونقدّرك، ولكننا على ثقة بأنه لا فائدة من كل ما تقول وتكتب، مع وجود النظام القيصري القهري، ولأننا نحبك ولا نريد أن نفسد حياتك بمشكلاتنا، لا نرى لك إلا أن تعتزل هذه الحياة الفاسدة في أحد الأديرة.. أليس هذا هو السلام الذي تنشده؟! كانت ابتسامته الوديعة هي الإجابة عن كل تساؤلاتهم، إلا أن ملامحه بدت مرهقة! ست ساعات من الصخب وهو يستمع إلى هذه الآراء الثائرة المتناقضة، والحوارات الجانبية الغاضبة والساخطة أحياناً، حتى أوشك أن يغمى عليه من رائحة الدخان، فهمس الدكتور ماكوفيتسكي في أذنه: في المحطة المقبلة سننتقل إلى الدرجة الثانية مرة أخرى..! فالتفت إليه باسماً: المهم أن نبتعد عن صوفيا! أجل هذا هو المهم! ليس هناك يا سيرجي ماكوفيتسكي ما هو أغلى من الحرية..! وبلغ القطار قرية (كوزيلسك)، فقال له الدكتور: هذه آخر محطة للقطار يا ليـو.. سنضطر إلى البقاء فيها إحدى عشرة ساعة في انتظار القطار السريع.. فيصيح تولستوي: كلا.. كلا.. كلا.. لن أقيم في كوزيلسك كل هذه الساعات، ففيها مزرعة كبيرة لصديقي تورجنيف، وستعرف صوفيا على الفور مكاني! ثم يسأل عن المحطة التالية، فيعلم أنها أوبتيينا، وفيها دير ونزل صغير يستقبل الزوار، فيقترح الدكتور أن يستريحا فيه ليومين أو ثلاثة! وبينما كان تولستوي مع صديقه الدكتور في غرفتهما الصغيرة في النزل الريفي الملحق بالدير، كتب في دفتر يومياته: ما أجمل الشعور بالأمان والاطمئنان! ماذا يريد المرء من دنياه أجمل من هذا؟! القوت الضروري، والأمان.. ما أسعدني! وتمدّد على الفراش لينام،
وكان يدرك أن صوفيا أندريفنا ستفعل المستحيل كي تلحق به لتعيده إلى إيزيانا/ بوليانا.. وظل الهاجس يراوده بأن يفاجأ في أية لحظة يُطرق فيها باب الغرفة الصغيرة عليه ليجد نفسه وجهاً لوجه أمام صوفيا!

لا أحتاجُ لتوقيعٍ .. فالصفحةُ بيضا
وتاريخُ اليوم ليس يعاد ..

اللحظةُ عندي توقيعٌ ..
إن جسمكِ كانَ ليَّ الصفحات
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04122 seconds with 11 queries