الموضوع: جي دو موبسان
عرض مشاركة واحدة
قديم 17/01/2009   #6
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


أقيمت الحفلة الساهرة , ونجحت السيدة لوازيل , فكانت أكثر من حضرها من النساء رشاقة ولباقة وبهجة .

تدفقت في السرور متأنقة متألقة , فاسترعت الأنظار, واستهوت القلوب , فتسابق الرجال خاصة موظفي مجلس الوزراء إلى السؤال عنها, والتعرف إليها ,والرقص معها.حتي الوزير نفسه ألقى إليها باله.

كانت ترقص في نشوة من الغبظة , وقد امحى من ذهنها كل شئ, فلم تعد تفكر إلا في انتصار جمالها ,وفي مجد انتصارها, وفي ظل رقيق من ظلال السعادة بسطته عليها التحيات التي قدمت إليها , والإعجاب الذي انهال عليها, والرغبات التي تيقظت فيها, والفوز الكامل الذي يبهج بسحره فؤاد المرأة.

تركت الحفل زهاء الساعة الرابعة من الصباح, وكان زوجها منذ منتصف الليل قد غلبه النوم فأخذ مرقده في بهو صغير خلا من الناس هو وثلاثة من المدعوين كان نسؤهم لا يزلن يقصفن (7)
في نشاط ومرح. فلما همت هي وهو بالانصراف ألقى على كتفيها الثياب التي اعدها للخروج, وهي ثياب متواضعة مبتذلة تتنافر بحقارتها مع أناقة ما تلبس من زينة المرقص. وقد شعرت هي بذلك فأرادت ان تتسلل حتى لا يلمحها النساء الأخر وهن يرتدين معاطف الفراء الفاخر . غير أن زوجها اعتاقها قائلا: انتظري ,فقد يصيبك البرد, وسأطلب عربة . ولكنها تصامت( كلامه , وانحدرت مسرعة علي السلم. فلما صارا في الشارع لم يجدا مركبة فمشيا, وكلما ابصرا على البعد حوذيا صاحا بت, فلا يقف.


أخذا سبيلهما إلى(السين) هابطين قانطين يقرقفان (9) من البرد, فوجدا بعد لأي (10) على رصيفه مركبة عتيقة من تلك المراكب التي تسير وهي نائمة, ثم لا تري في باريس إلا تحت الليل كأنما تخزى أن تظهر مهانتها في وضح النهار.

ركباها إلى دارهما في شارع (الشهداء) ودخلاها حزينين.

أما هي فلأنها تتحسر على انقضاء ما كانت فيه, أما هو فلأنه يتذكر أن من واجبه أن يكون في ديوان الوزارة الساعة العاشرة. نضت عن كتفيها امام المراة الثياب التي تدثرت بها حتي تنظر الي نفسها مرة اخيرة وهي في مجدها .


ولم تكد تجيل اللحظ في جيدها حتي صاحت صيحة منكرة ! إنها لم تجد على نحرها تلك الفلادة!
فأقبل عليها زوجها في نصف ثيابه يسألها ماذا أصابها فالتفتت إليه هالعة تقول: أنا .. أنا .. لا أجد قلادة السيدة فورستييه! فانتفض قائما وقد هفا قلبه من الجزع.

- ماذا ؟ كيف ؟ لا يمكن أن يكون هذا!


و طفقا يبحثان في ثنايا الثوب ، وفي طوايا المعطف ، وفي جيوب هذا وذاك ، وفي كل مكان هنا وهناك ،فلم يجداها . فقال الزوج للزوجة : أأنت على يقين من أن القلادة كانت في عنقك ساعة تركت المرقص؟ فأجابته : نعم ، ولقد لمستها بيدي وأنا في دهليز الوزارة .فقال لها: ولكنك لو فقدتها ونحن في الشارع لكنا سمعنا وقعها حين سقطت , فلا بد أن تكون في المركبة . فقالت له:نعم . هذا جائز . فهل تذكر رقم المركبة ؟ فأجابها كلا , وأنت ألم تلحظيها؟ فأجابته كلا , فرنا إليها , ورنت إليه , وكلاهما لا يملك فؤاده من الجزع .

وأخيرا , مضى لوازيل فلبس ثيابه وقال : سأرجع في الطريق التي قطعناها على الأقدام فلعلي أجدها . ثم خرج وترك امرأته في ثياب السهرة , وقد استلقت من الخور علي أحد المقاعد , لا تشتهي النوم , ولا تطلب الدفء , ولا تملك الفكر . ثم عاد في الساعة السابعة دون ان يجد شيئا . وما لبث أن ارتد إلى دائرة الشرطة يسجل المفقود , ثم إلى إدارات الصحف يعلن المكافأة , ثم إلى شركة العربات الصغيرة ينشد المركبة , ثم إلى كل مكان يهديه إليه بصيص من الأمل .


وكانت هي تنتظر طول النهار علي حالها الأليمة من الذهول والوله . وفي المساء عاد لوازيل ساهم الوجه , كاسف البال , لأنه لم يكتشف شيئا. ولما أعياه الأمر قال لزوجته : لا بد أن تكتبي إلى صديقتك تخبرينها ان مشبك القلادة انكسر , وأنك بسبيل تصليحه . ذلك يعطينا المهلة لنتخذ تدبيرا آخر . فكتبت ما أملاه عليها .

وفي آخر الأسبوع وقفت أمالها على شفا اليأس , فأعلن لوازيل أنه لا بد من وسيلة لشراء قلادة بدل القلادة.

وفي صباح الغد أخدا علبة الحلية , وذهبا بها إلى الجوهري الذي كتب اسمه عليها فسألاه عنها . فقال بعد أن رجع إلى سجلاته : لست أنا يا سيدتي الذي صنع القلادة , وإنما صنعت هذه العلبة فقط . فذهبا يضطربان في سوق الجواهر ينتقلان من صائغ إلى صائغ يسألان , ويبحثان وجدا آخر الأمر في دكان من الدكاكين قلادة من الماس تشبه في نظرهما القلادة المفقودة كل الشبه... كان ثمنها أربعين ألف فرنك , ولكن الجوهري رضي أن ينزل عنها بستة وثلاثين ألفا . فرجوا منه ألا يبيعها لأحد قبل ُثلاثة أيام , وشرطا عليه أن يعود فيشتريها منهما بأربعة وثلاثين ألف فرنك إذا هما وجدا القلادة الأولى آخر شباط .


كان لوازيل يملك ثمانية عشر ألف فرنك تركها له أبوه , فلا مناص من أن يقترض الباقي . اقترض ألفا من هذا و خمسمئة من ذاك , وخمس ليرات من هنا وثلاثا من هناك .


كتب على نفسه الصكوك المحرجة , وتردد على كل مراب , واختلف إلى كل مقرض .


عرض آخرة عمرة للخطر ,وغامر بإمضائه وهو لا يضمن الوفاء بما التزم . وفي حال يرجف لها القلب فرقا (11) , مما يتجرعه من هموم المستقبل , وما يتوقعه من بؤس العيش , وما يخشاه من حرمان الجسم ولوعة القلب , ذهب يشتري القلادة الجديدة . وضع علي منضدة الجوهري ستة وثلاثين ألف فرنك ؟
ولما أخذت السيدة فورستييه الحلية من السيدة لوازيل , قالت في هيئة من غاضبة ولهجة عاتبة : لقد كان ينبغي أن ترديها قبل ذلك , فقد كنت بحاجة إليها .

ثم رفعت العلبة من دون ان تفتحها , فكفت بذلك صديقتها ما كانت تخشاه . فلقد كانت تقول لنفسها : ماذا عسى ان تظن السيدة فورستييه إذا لحظت أن القلادة غير القلادة ؟ إلا تحسبني لصة ؟!

***

ذاقت السيدة لوازيل عيش المعوزين المر الخشن , وحملت نصيبها من ذلك دفعة واحدة في بسالة وقوة.

كان لا بد من قضاء هذا الدين الفادح وستقضيه . استغنت عن الخادم , وانتقلت من المنزل , واستأجرت غرفة على أحد السطوح , وزاولت الأعمال الغليظة في البيت وباشرت الأمور البغيضة في المطبخ و فغسلت الأطباق وأتلفت أظافرها الوردية في صدأ القدور ودسم الأواني (وصبنت) القذر من الابيضة والأقمصة والخرق ونشرتها على الحبل , ثم هبطت الشارع كل صباح لتصعد بالماء وتقف عند كل طبقة تتنفس الصعداء من التعب , ولبست لباس السوقة , واختلفت إلى الفاكهاني والبقال والجزار وعلى ذراعها السلة , فتساوم ,وتقاوم وتدفع الغبن عن كل (بارة) من نقودها القليلة . فإذا تصرم الشهر وجب عليها أن توفي صكا , وتجدد صكا , وتطلب مهلة .


وكان الزوج في المساء يشتغل بتبييض الحساب لتاجر , وفي الليل بنسخ صور لبعض الأصول , كل صفحة بربع فرنك , ودأب الزوجان على هذه الحال عشرة سنين . وفي نهاية هذه المدة كانا قد أديا الدين كله بسعره الفاحش و وربحه المركب , وكانت السيدة لوازيل قد أخلقت جدتها وبدت في رأسها رواعي المشيب .

وكان من طول قيامها بشؤون المنزل أصبحت قوية غليظة جافية . لا تكاد تراها إلا شعثاء الشعر ,حمراء اليد , مقلوبة الثوب , ترفع صوتها في الكلام , وتغسل ارض الغرف بالماء الغمر , ولكنك تراها في بعض أوقاتها تجلس إلى النافذة حين يجلس زوجها إلى المكتب , فتفكر في تلك الأمسية الذاهبة في تلك الحفلة الساهرة التي كانت فيها مهوى القلوب , ومراد الأعين . ما الذي يحدث لو أن هذه الحلية لم تفقد؟
من يدري ؟ إن الحياة غريبة الأطوار سريعة التقلب ! وإن موتك أو حياتك قد يكونان رهنا بأحقر الأشياء !


***

وفي ذات أحد من الآحاد بينما كانت ماتيلدة ترفه عن نفسها عناء الأسبوع في رياض (الشانزليزيه) وقع بصرها فجأة على السيدة فورستييه ,ومعها طفل تنزهه وتروضه. وكانت لا تزال رفافة البشرة , رائقة الحسن ’ فتانة الملامح ,فاعتراها لدى مرآها اضطراب وقلق . أتذهب إليها فتكلمها! نعم! ولم لا ؟ لقد أدت الآن كل ما عليها , فلم لا تفضي بكل شئ إليها ؟

دنت السيدة لوازيل من صديقتها القديمة وقالت لها:
صباح الخير يا جان!
ولكن صديقتها أنكرتها , وأدهشها أن تسمع امرأة مع عرض الطريق بهذه الألفة , وتناديها من غير كلفة ,فقالت مغمغمة:
ولكن .. سيدتي ... لا بد أن يكون الأمر قد اشتبه عليك . فقالت لها: كلا! أنا ماتيلدة لوازيل .
فصاحت السيدة صيحة الدهش , وقالت : أوه! صديقتي المسكينة ماتيلدة ! لشدة ما تغيرت بعدي !
فقالت: نعم! لقد كابدت برحاء الهموم (12) عانيت بأساء منذ غبت عنك , وذلك كله بسببك .


- بسببي؟ وكيف ذلك؟
- إنك تذكرين ولا شك تلك القلادة الماسية التي أعرتني إياها يوم حفلة الوزارة.
- نعم , وبعد؟
- إنني أضعتها.
- وكيف أضعتها وقد رددتها إلي؟
- لقد رددت إليك قلادة أخرى تشبهها كل الشبه.


وها هي تلك عشرة أعوام قضيناها في أداء ثمنها . وليس ذلك باليسير علينا كما تعلمين, فاليد خالية, والمورد ناضب, والجهد قليل ,وقد انتهى الأمر والحمد لله , وأصبحت على هذه الشدة راضية مغتبطة , فقالت السيدة فورستييه في تؤدة وبطء:
- أتقولين إنك اشتريت قلادة من الماس بدل قلادتي؟
- نعم. ألم تلاحظي ذلك؟ هه ؟ إنها لا تختلف عنها في شئ .

وكانت شفتاها قد افترتا عن ابتسامة تنم على الكبر والسذاجة , ولكن السيدة فورستييه أخذت يديها في يديها , وقالت لها في لهجة الإشفاق والعجب :
- مسكينة يا صديقتي ماتيلدة !
إن قلادتي كانت كاذبة !
وما كان ثمنها يزيد عن خمسمئة فرنك !!


(تمت)..

ترجمها :احمد الزيات
كتبها : وسيم بركه
__________________
(1) مهر الزوجة
(2) المهترئ.
(3) من الجنس البريوتي.
(4) القصور.
(5) البسط.
(6) نوع من الطيور.
(7) يرقصن.
( تظاهرت انها صماء.
(9) يرجفان.
(10) مشقة.
(11) خوفا شديدا.
(12) شدة الهموم.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07388 seconds with 11 queries