عرض مشاركة واحدة
قديم 02/03/2009   #2
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


ما الطريقة التي يقترحها كل من دولوز وغاتاري لفهم الرغبة، وهي عمدة المجال الذي أسساه وهو التحليل الفصامي المقابل للتحليل النفسي ؟ يجب، أولاً، رفض التصور السلبي الذي يُسْبِغه التحليل النفسي على الرغبة. ليست الرغبة سلبًا ونقصًا، وإنما هي قوة. والواقع أن دولوز وغاتاري يحاولان نقض التصور القائم على السلب والنقص. فلا وجود إلا للإثبات ؛ وكل رغبة إثبات. ونحن نعرف البعد الذي أعطاه دولوز لفلسفة الإثبات في مجموع فلسفته. وبالفعل، بذل دولوز جهدًا فلسفيًا جبارًا، سواء في كتاب الاختلاف والتكرار19 أو في منطق المعنى20، لنقض التصور الجدلي القائم على السلب، واستبداله بتصور قائم على الإثبات. كما حاول في كتاب سبينوزا وإشكالية التعبير21، إبعاد كل تصور جدلي عن الفلسفة السبينوزية. فالصفات اللامتناهية التي تؤسس الجوهر هي في علاقة اختلاف دون أن تكون في علاقة سلب. فالعلاقة القائمة على السلب هي تلك التي تكون بين أطراف بحيث يكون حضور طرف نافيًا وسالبًا للطرف الآخر. أمَّا العلاقة القائمة على الاختلاف، فيكون حضور طرف منها متزامنًا مع حضور الأطراف الأخرى المختلفة. « يبدو أن التمييز الواقعي [بين صفات الجوهر، أي صفات الله] يبشر بتصور جديد للسلب، دون تقابل ولا نقص، ولكنه يبشر أيضًا بتصور جديد للإثبات، دون تسام ودون تناسب »22.
هذا التوجه الفلسفي الذي عبر عنه دولوز في كل كتاباته التي تندرج في ما يعرف بتاريخ الفلسفة، استثمره، هنا، ضد التحليل النفسي. وبالفعل، لم يكن من الممكن، وهو المدافع على التصور الإثباتي في كل كتابته، والحامل على التصور الجدلي الهيغيلي أينما صادفه، أن يغض الطرف عن التصور السلبي الذي يقدمه التحليل النفسي عن الرغبة. لذلك عمل مع غاتاري على نسف تصور التحليل النفسي، وقاما سويّةً ببناء تصور جديد للرغبة، تصور قائم على الإثبات. يقول غاتاري : « إن اللاشعور ليس من طبيعة جدلية، ولا علاقة له مع السلب وسلب السلب. اللاشعور كله إيجاب، إنه منطق السيولات والتكثيفات التي لا تكون محددة، ولا تكون مراقبة من طرف التمثل »23. والواقع أن دولوز وغاتاري ينطلقان من الفلسفات التي أعطت الرغبة قيمة إثباتية، مثل الفلسفة الأبيقورية وبالخصوص الفلسفة السبينوزية والنيتشوية. لنتناول على سبيل المثال، الفلسفة السبينوزية. يعتبر سبينوزا الرغبة كمالاً. يقول سبينوزا في تعريفات العواطف : « إن الرغْبَةَ هِيَ مَاهِيَةُ الإنسَانِ عَيْنُها، مِن حَيثُ تَصَوُّرُهَا مُجبَرَةً، بِمُقتَضَى انفِعَالٍ مِن انفعالاَتِهَا الذَّاتِيَّةِ، عَلَى فِعلِ شَيءٍ ما »24، أي أن الرغبة، مهما كانت هذه الرغبة، حتى وإن كانت غيرة وحقدًا، تعبر عن ماهية الإنسان في زمان ومكان مُعَيَّنَيْنِ. لذلك لا يمكن للرغبة إلا أن تكون إثباتية وإيجابية. فمادامت « الرَّغْبَةَ هِيَ طَبِيعَةُ كُلِّ فَرْدٍ أَو هِيَ مَاهِيَتُهُ نفسُهُ »25، فلا يمكنها أن تكون سلبًا أو نقصًا. إنها كمال محض، حتى وإن كانت تُعَبِّر عن ذاتها بانفعال « قبيح » مثل الغيرة أو الحسد، لأن كل ما ترغب فيه الرغبة من فعل أو انفعال، هو كمال يعبر عن ذاتها ؛ لأنها تكون، من حيث هي ماهية الإنسان الفعلية، « مُجبَرَةً عَلى القِيَامِ بِما يصلُحُ لِحِفْظِهَا »26. فأفعال الإنسان من رغبات كلها كمال، حتى وإن كانت رغبة حقد أو غيرة، أو غيرهما، لأنها تصلح لحفظ ماهيته، لضمان استمرارها في الوجود.
عمل كل من دولوز وغاتاري على استثمار هذا التصور وإعطائه دلالاته القوية من أجل تفعيله لهدم أركان كل تصور يضفي طابع السلبية والنقص على الرغبة. فالرغبة مهما كانت، حتى الرغبة الأوديبية، هي رغبة بريئة، حتى وإن أدت إلى عواقب غير محمودة. ولعل هدف دولوز وغاتاري هو تحرير الرغبة، أي رغبة كانت، من كل شعور بالذنب ومن كل ندم وحسرة. الرغبة كمال مهما كانت طبيعتها. لذلك يقرنان الرغبة بقوة ديونيسوس التي يتحدث عنها نيتشه، أي ينبغي أن تصبح الرغبة رغبةً حرة طليقة، رغبة خفيفة، مادامت متحررة من كل ثقل أخلاقي يَسِمُها بالذنب.
وإذا كان كل من دولوز وغاتاري عمدا إلى تاريخ الفلسفة بحثًا عن بديل لتصور التحليل النفسي عن الرغبة، فإنهما عمدا أيضًا إلى الأدب للتنقيب عن التوجه الذي يجسد هذا الطموح بغية الظفر بتصور ثوري للرغبة، مؤكدين على ذلك التوجه الأصيل الذي ساد عند أغلب فلاسفة القرن العشرين، وهو التوجه الرابط بين الفلسفة والأدب، والذي يعتبرهما مجالين متلاحقين متكاملين. غير أن دولوز وغاتاري لم يختارا الأدب الفرنسي مجالاً للتنقيب عن تصور ثوري للرغبة. فنحن نعرف الموقف الذي صنفا فيه الأدب الفرنسي عمومًا. إنه أدب لم يستطع التخلص من هيمنة الآنا، كما يقول دولوز في كتاب حوارات : « فهناك السفر على الطريقة الفرنسية التي يطغى عليها الطابع التاريخي والثقافي والتنظيمي، حيث نكتفي بِحَمْل "أناتنا" »27. وفي مقابل ذلك يَعتبر كل من دولوز وغاتاري الأدب الإنجليزي-الأمريكي أسمى في تعامله مع الرغبة. ولعل الكاتب الأمريكي هنري ميلر خير مثال على التوجه غير المسبوق في التعامل مع الرغبة بعيدًا عن كل شعور بالذنب، وعن كل تأنيب. وبالفعل تعتبر أعمال هنري ميلر الأدبية توجهًا ثوريًا مضادًا لكل التصورات الأوديبية للرغبة. إنه يعتبر الرغبة في براءتها وعذريتها، أي ينظر فيها من حيث هي رغبة فقط، ويعيشها كما هي رغبة. ولا وجود لنص مفعم بالقوة وبالحياة والفرح أفضل من نشيد الرغبة الذي تَغَنَّى به هنري ميلر في عمله الأدبي الشهير مدار السرطان : « أُحِبُّ كل ما ينساب، حتى مجرى دم الحيض الحامل للبيض غير المخصب. أحب الكتابات التي تنساب، سواء كانت تراتبية أو باطنية أو انحرافية أو متعددة أو أحادية الشكل. أحب كل ما ينساب، كل ما يحمل في ذاته الزمان والصيرورة، كل ما يعود بنا إلى البداية حيث لا وجود أصلاً للنهاية : عنف الأنبياء، الفحشاء التي هي نشوة، حِكْمة المتعصبين، الكاهن وصلواته المتأنقة، الكلمات النابية التي تنطق بها العاهرة، اللعاب الذي ينساب في مجرى مياه الزقاق، حليب الثدي والعسل المر الذي ينساب من الرحم. أحب كل ما هو سائل، كل ما يذوب، كل ما هو موجود في الأعماق وقابل للذوبان، كل قيح وكل وسخ يتطهران بسيلانهما، كل ما يفقد معنى أصله، كل ما يقطع الدورة الكبرى نحو الموت والذوبان. إن الرغبة الكبرى لعشق المحارم هي مواصلة الانسياب، هي التوحد مع الزمن، هي صهر الصورة الكبرى للعالم العلوي مع "هنا والآن" »28. كل شيء في هذا النشيد. الرغبة الحرة الطليقة المتحررة من كل غائية، ومن كل ذَنْبٍ ونقص. والرغبة المنسابة دائمًا لتقترن مع عوالم خارجية، عوالم غريبة تمنحها قوة وشدة.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03944 seconds with 11 queries