الموضوع: أسبوع وكاتب - 2
عرض مشاركة واحدة
قديم 25/06/2008   #189
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


ما نشرته الصحف يكذّب كل ما قالته ساشا لأبيها عن أمها! حيث نشرت تفاصيل قصة فرار الكاتب الأشهر من مزرعته، وقصة مغادرته قرية شاماردينو في قطار محطم النوافذ! وعن إصابته بالالتهاب الرئوي الحاد! وعن أحزان الأسرة كلها! وما أصابها في هذا الحادث! وتصدرت الصفحات الأولى صورة الكونتيسة وهي تبكي، وتحت تلك الصورة وضِع عنوان: (سأتبع حبيبي ليوفوتشكا ولو إلى الجحيم! معه دائماً في الحياة وفي الممات..) وبعد أن وصلت إلى محطة استابوفو، وفودٌ من الصحف والمجلات وشركات السينما! وكانت الكاميرات كلها مركّزة على بيت أوزولين ناظر المحطة! على الأبواب والنوافذ! بانتظار اللحظة الحاسمة لخروج الكاتب الكبير!!

وصارت قرية استابوفو الصغيرة مهبط الآلاف من محبّي الكاتب الكبير! آلاف البرقيات من الروس المقيمين في مختلف عواصم أوروبا! من باريس.. من لندن.. من برلين.. من ميونيخ.. تنهال على آلة البرق الصغيرة المتهالكة على مكتب ناظر محطة استابوفو! ورغم البرد الشديد والريح المثلجة.. القارصة! توافد الفلاحون من مختلف القرى والمزارع يحملون على عربات الجر! الأغطية والبطانيات، ونصبوا خياماً في كل مكان حول بيت ناظر المحطة! قساوسة ورهبان يركعون في الطين والجليد، يصلّون من أجل كاتبهم الكبير العجوز المريض! والناس من كافة المناطق والقرى القريبة باتت ترسل مئات الأغطية ومطابخ الحساء لخدمة القادمين إلى استابوفو من مختلف الجهات. لكن اللافت للنظر أن الحكومة القيصرية لم تتحرك مع كل هذا الفيض العاطفي للشعب الروسي تجاه كاتبهم العظيم! لسببٍ واضح! لأن القيصر والقيصرة يبغضون تولستوي أشد البغض، فهو كان يطالب في كل مقالاته وكتبه و رواياته بإطلاق حرية العبادة للمسلمين الموجودين في نطاق الدولة الروسية، وخاصةً مسلمي المناطق التي احتلت بالقوة! كما كان تولستوي يسلّط في كتاباته الضوء على الظلم الذي كان يتعرض له المسلمون!

أما الإمبراطورة فإنها كانت تكره كاتب روسيا الكبير تبعاً لكراهية الأفّاق المشعوذ راسبوتين له! من هنا! لم نجد الحكومة القيصرية قد تحركت فيما يجري في تلك القرية التي يرقد فيها ليو تولستوي، اللهم إلا تلك البرقية التي أرسلها وزير الداخلية إلى عمدة استابوفو وجاء فيها:
«اتخذ إجراءات مناسبة في القرية والقرى المجاورة بالتنسيق مع من سنرسل من ضباط الوزارة! تحسباً للمظاهرات التي قد يقودها الفلاحون والأجراء أنصار تولستوي والداعون مثله إلى توزيع أراضي النبلاء على الفلاحين والعاملين فيها! اقبضوا فوراً على أية عناصر شغب!». والرجل المريض لاهٍ عن كل هذا الذي يدور خارج غرفته! تدور أفكاره كلها حول هموم مرضه، والهموم الأدبية! فيكتب بيدٍ مرتجفة:

«تركت لصديقي تشيرتيكوف الإشراف على نشر كتابي الأخير (طريق الحياة).. لاتزال فكرة روايتي الجديدة عن الشباب غير مكتملة في رأسي! قضيت ليلةً سيئة أمس! هاأنذا منذ ثلاثة أيام والحمّى تفتك بي! تفترسني افتراساً! أعتقد أن صوفيا وأولادي جميعاً قد جاءوا إلى قرية استابوفو، وإن كان الجميع يخفون عني ذلك.. لا أستطيع أن أكتب أكثر من هذا! فالقلم يرتعد في يدي من فرط إحساسي بالحرارة!»

في اليوم الرابع.. أسفرت النهاية الحتمية عن وجهها! وهذا آخر ما كتبه تولستوي في كراسته:
أليس هكذا يموت الفلاح الروسي؟! وشرع يهذي.. حين أمسك الدكتور ماكوفيتسكي بيده، قال له هامساً:
يا صديقي.. أعتقد أنني سأموت..؟! وهذا أمر طبيعي.. ولكن من يدري.. لعل الموت شيء غير هذا الذي أشعر به يقترب مني.. ثم أخذ يهذي.. ابحث! ابحث! هذا ما يجب أن يفعله كل إنسان عاقل.. أن يبحث، ويفكّر.. ابحث دائماً يا دكتور ماكوفيتسكي! حينما علمت صوفيا أنه بدأ يهذي! غادرت عربة القطار! وهي في حالةٍ أشبه ما تكون بالجنون! فمنعوها من الدخول إليه، فأسرعت إلى النافذة المجاورة للسور! فرأته من خلال الزجاج.. راقداً ووجهه إلى سقف الغرفة! طرقت الزجاج بأصابعها في عصبية! فلم يتحرك! أسرع ماكوفيتسكي وأرخى الستارة من الداخل، فشرعت تصرخ مناديةً! ليوفوتشكا.. ليوفوتشكا.. ليوفوتشكا! فهرع أبناؤها إليها وحملوها بعيداً عن البيت! التقط المصورون ورجال السينما صوراً كثيرة لها وهي تصبّ اللعنات عليهم! أعادوها إلى عربة القطار!!.. التي كانت محاطة بالكثير من رجال الصحافة والإعلام! ممن امتلأت بهم الطرق والحقول القريبة من المحطة، وعلى طول الشريط الحديدي الذي افترشه الفلاحون! الصحفيون يتشممون الأخبار عن صحة الكاتب الكبير، ويترقبون لحظات موته! شائعات كثيرة عن مظاهرات قامت في القرى المجاورة، وعن إطلاق النار على المتظاهرين من قبل الشرطة! المئات من رجال المخابرات القيصرية يندسون وسط الجموع! برقياتٌ مشبوهة تصل إلى جهاز البرق في المحطة! كُتب في بعضها التالي:
ـ اطلبوا إلى تولستوي أن يتوب عن أخطائه..
ـ تُب إلى خالقك يا تولستوي! قبل أن تمثل أمام المحكمة الربانية!


والعشرات من هذه النماذج التي ثبت فيما بعد أنها قد أُرسلت من عملاء القيصر! ولم يجسر أحد على ذكرها أمام الرجل المسجّى في غرفة الموت! في صباح اليوم التالي يقدم إلى استابوفو الأب (فارسونوفي) رئيس القساوسة، ومعه تكليف من القيصر بالدخول إلى الكونت ليتلقى اعترافاته في ساعاته الأخيرة! وما أن سمعت صوفيا بذلك حتى تركت مقصورتها متجهةً نحو مكتب ناظر المحطة! لن أسمح لأحد أن يدخل على زوجي ليزوّر عنه فيما بعد ما لم يقُل.. اطردوا هذا القسيس من (استابوفو).. ولولا حماية الشرطة القيصرية، لما نجا القسيس القيصري من الشنق بأيدي الفلاحين على شجرة من أشجار الطريق، لكن محافظ منطقة تولا جاء محاطاً بحماية الشرطة ومعه القسيس الذي طلب أن يدخل ليتلقى اعترافات تولستوي قبل موته. لكن ساشا خرجت بكراسة أبيها وهي تصيح في وجه الجميع:
«اللعنة على من يريد أن يرغم أبي على ما لا يريد•• إليك أيها المحافظ ما كتب أبي عن ذلك حين اشتد به المرض.. واسمع أنت أيها القس المأجور•• اسمعوا ماذا كتب أبي لتريحوا أنفسكم من تلقي اعترافاته.. ثم أخذت تقرأ أمام الحشود التي صمتت احتراماً لكلمات الكاتب الكبير..
«حين يحوم الموت حول رأسي فلا أريد أن يقتحم لقائي مع ربي أحدٌ من رجال الدين... أريد أن أقترب من خالقي في فيضٍ من نور المحبة.. وليس مع ثرثرة كهنوتية... ثم رفعت رأسها من على الكراسة وقالت: أسمعت أيها المحافظ؟! أسمعت أيها القس المأجور؟! والآن عودا من حيث جئتما قبل أن يندم من أرسلكما بسبب ما سيحدث في هذه القرية من مذابح...! في الحادية عشرة مساءً، ظن من حول سرير تولستوي! أن الحياة قد فارقت الجسد!!.. ولكنه تحرك قرب الفجر!!.. سمعته ابنته يهمس:
ـ ساشا.. الآن أود أن تكون صوفيا بجانبي..
هرعت ساشا لأمها:
ـ أماه أرجوك لا تبكي أمامه.. لقد كان يهذي باسمك بأرق صوت سمعته من أبي.. كان مغمض العينين! ما أن شعر بوجودها.. حتى علت البسمة وجهه!!.. مدّ يده نحوها! أسرعت تجثو إلى جانب فراشه! قبّلت يده.. لثمتها! أغرقتها بالدموع الصامتة! أخذت تناغيه.. وتناديه..
ـ حبيبي! ليو تولستوي.. ليوفوتشكا! أحبك! أحست فجأةً ببرودة الموت في اليد المحبوبة!
وإذا بساشا وفي صوتها ضراعة باكية:
ـ أماه.. إن أبي..الآن مع خالقه..

لم تعلم الجموع في استابوفو بموت الكاتب الكبير إلا حين أرسل الدكتور ماكوفيستكي بأوامر أوصاه بها الكونت بنصّ البرقية التالية: «إلى مزرعة تولستوي في إيزيانا/ بوليانا أرسلوا صندوقاً لامعاً من خشب الجوز، مبطناً بالزنك وبمقابض من الفضة الخالصة..».
وكتبت صوفيا أندريفنا في كراستها: في السابع من نوفمبر مات حبيبي ليو تولستوي، في السادسة صباحاً! لن أنسى لهم أبداً أنهم أدخلوني عليه في اللحظة الأخيرة! بينما كان يجب أن أكون معه قبلها بأربعة أيام! يا لهم من قساة! غلاظ القلوب!

لا أحتاجُ لتوقيعٍ .. فالصفحةُ بيضا
وتاريخُ اليوم ليس يعاد ..

اللحظةُ عندي توقيعٌ ..
إن جسمكِ كانَ ليَّ الصفحات
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05396 seconds with 11 queries