حج عبدو
إنها المرة الثانية منذ بداية الشهر ، الذي يسعفه فيها الوقت بأن يخرج مبكرا ً من عمله في أحد المكاتب لتحضير القهوة والشاي ، ليقطع الكثير من المسافات مشيا ً على قدميه الكهلتين وصولا ً إلى موقف باص النقل الداخلي .. مكللا ً بقطرات عرقه و قطعة المعروك الذي اشتراها بسعر غال ٍ .. " الله يرحم أيام زمان ، حتى المعروك .. غلي . رمضان ما عاد أبدا ً متل قبل "
الحج أبو عبدو ، لم يعطه الفقر فرصة لتحقيق حلمه بالحج .. لكن الشيب الذي غزا شعره .. دفع الجميع إلى مناداته " حج أبو عبدو " .. ورغم كثرة أولاده لكن الوضع الاقتصادي والغلاء وزوجاتهم عملوا على أن يمنعاه من الحصول على فرصته بالتقاعد .. والراحة
قد يستطيع اليوم أن يصل إلى الإفطار مع عائلته ، فالمكتب الذي يعمل به يقع في أحد الشوارع الفاخرة التي تبعد قرابة الساعة عن بيته
يتزاحم الناس على الموقف فقد اقترب موعد الآذان .. ينظر إليهم حج عبدو بقلق ، أين أنت منهم يا أبو عبدو ، ست وسبعون عاما ً .. لن تستطيع " المطاحشة "
ويمر الباص الأول .. ولا يستطيع أن يجد له مكانا ً فيه
وأخيرا ً تمر ربع ساعة واقفا ً تحت حرّ شهر آ ب ، جلبابه الأبيض .. قد عبق برائحه الكهولة الممزوجة بالتعب والجوع
هو لا يتذمر أبدا ً .. فعليه أن يصبر على ما هو فيه ، لكنه يود فقط لو يستطيع الجلوس إلى مائدة العائلة
" يا رب ما ألنا غيرك " يصعد ويتكأ بصعوبة على أحد المقاعد ، ليس من مكان شاغر
هناك أمامه مباشرة شاب في الثامنة عشرة .. يقترب منه متأملا ً أنه إذا رآ ه سيبادر إلى إعطاءه مكانه لكنه عوضا ً عن ذلك يلقي إليه نظرة فارغة كأنه يتساءل عن جدوى بقاء هذا العجوز حيا ً حتى الآن
تتحرك أحدى السيدات لتعطي الحج مكانها ، لكنه يأبى .. " خسى أبو عبدو ياخد مكان حرمة ؟ "
يسير باص النقل باهتزازته وبكل الناس الذي يحتويهم ، يتوجه ابو عبدو نحو الشاب .. ويطلب منه برفق أن يعطيه مكانه
لكن الشاب يتصرف كأنه لم يسمع ما قاله العجوز ، ويزيد من وتيرة الموسيقى الصاخبة التي يسمعها في سماعات يضعها في أذنيه
فيعود الحج إلى مكانه ، لاعنا ً في داخله تربية هذه الأيام ، وجيل هذه الأيام .. يتذكر بألم .. كيف يصّر أبنه عبدو أن الله غير موجود ويحدثه بكلام كبير .. لا يفقه منه أبو عبدو شيئا ً إلا أنه " كفر " و كفر كبير ..
كيف يكون الله غير موجود ؟ أنه موجود .. أبو عبدو يثق بذلك ويراهن عليه بحياته
سيعطيه في الحياة الأخرى الكثير من الخيرات ..فهو قد صبر كثيرا ً والله رحيم وعادل ، هو لا يفهم كل التبريرات العلمية التي يصوغها ابنه ، فإلهه قد اخترع العلم .. هذا الإله الذي اعتاد أن يسلمه آلام يومه دون تذمر ، يسأله فيمده بالصحة والحياة
تنبعث الأدعية ، من الراديو .. فيستغل الوقت بطلب الغفران له ولولده ولعائلته
يسمع الآذان قبل أن يصل إلى حارته بقليل
حينها فقط يشعر أن قواه كلها تخور ..
“ تأخرت يا أبو عبدو تأخرت ... تماما ً ككل يوم “
|