عرض مشاركة واحدة
قديم 25/12/2008   #2
شب و شيخ الشباب عطر سوريا
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ عطر سوريا
عطر سوريا is offline
 
نورنا ب:
Sep 2007
المطرح:
صرنا جوا القبر
مشاركات:
1,479

إرسال خطاب ICQ إلى عطر سوريا إرسال خطاب MSN إلى عطر سوريا
افتراضي شهادات من تشرين


شهادات من تشرين الجولان السوري المحتل في ليلة ليلاء، وبعيدا عن كل نواميس الحياة وقيمها، يقتلعون من أرضهم وبيوتهم واحضان عائلاتهم، يجتثون من جذورهم، دون سابق إنذار وبدون رحمة، ودون ذنب أو جريرة، فجأة يتحول نهارهم إلى ظلام دامس، وبحر من الدموع، وعالم مسكون بالهلع والخوف والصراخ، تحت قصف القذائف يتجمعون في غرفة صغيرة لدمل جراحهم وكبت صراخهم، وتجفيف دموعهم، وجمع طاقاتهم لمواجهة الساعات أو الأيام أو الأشهر القادمة الغامضة، التي غزت عالمهم عنوةً. طفل صغير يسبح في دماء والدته، واخر يتعته الشوق إليها، وزوج يحرقه الإحساس لفقدانها، أتاهم الموت ثقيلا، وثقيلا جدا، كان يؤجج تلك المشاعر والعواطف، فيبقى الأموات الغائبين الحاضرين في ذكريات من رحمتهم قذائف الحرب، ويبقى في إحدى زوايا البيت، ذاك الطفل الكبير الذي ينتظر عودة والدته كل حين.
كان الجو هادئا جدا، كل في عمله،غنائيات موسم قطاف التفاح كانت تعلو بين الحين والحين، وهذا الصمت بينهما لم تخترقه سوى أصوات هدير الطائرات، وقصف المدفعية الآتي من بعيد، عيون حائرة تغزو السماء، بنظرات ترقب وانتظار، وخوف، وتتسأل بوعي حاد، وحس مرهف هلع، وأذان مسترقة، هل بدأت الحرب؟؟ تهبط الأسئلة، وتصطدم بحقيقة الواقع.. إنها الحرب، الحرب التي انتظروها سنوات وسنوات طويلة، لربما تعيد إليهم بعضا من أشياء سلبت منهم، وأشياء ستسلب منهم، لكنهم بفطرتهم يعلمون أن هذا اليوم، ليس ككل أيامهم، هذا الموسم ليس ككل مواسمهم، هذا اليوم سيكون له بعده، وذكرياته وأوهامه وأحلامه، التي ستكون موطئ قدم لذكريات ألم ووجع وشوق في قلوبهم، لن تدمله سنوات الزمن القادم.
كانوا أناساً عاديين جداً، حاصرتهم حرب حزيران المشؤومة، في مساحة حدود قريتهم، واحكمت قبضتها من كل الاتجاهات على أحلامهم، ودموعهم، و حاضرهم، وغدت هذه الحرب إحدى قصص الألف ليلية وليلة، في الزمن العربي الصامت، ينتظرون تشييع موتاهم كما يليق بمماتهم، شهداء، أم ضحايا، أم مجرد موتى، ليس مهما، انهم أبرياء، كانوا حاضرين في ماض وذكريات،أشخاصا لم نعرفهم من قبل، لم نسمع عنهم في تاريخنا البسيط المغيب في ذاكرة النسيان الوطنية، انهم أبرياء يحق لهم إن تستحضرهم الأجيال، ويذكرهم صاحب الجلالة كشواهد على صفحاته الجولانية، التي عانت ما عانت من الإهمال والتغيب أزمنة طويلة حصدت تلك الحرب أحد عشر شهيدا وشهيدة، من أحضان عائلاتهم، دخلت إليهم عنوة دون استئذان، واختطفت أرواحهم، لم تراعي براءة أحلامهم، وحصاد عمرهم، منهم من كان في بيته بانتظار الغداء الذي لم يكتمل، ومنهم من استشعر بخطر الحرب فبدأ في لملة أغراضه المنتشرة في بساتين التفاح، يتقي غضب هذا المطر القاتل من القنابل والصواريخ، ولم يفلحوا في تجاوز الشباك المتفجرة التي غطت برهم وسمائهم دون رحمة.
هم ليسوا جنودا نظاميين، وليسوا مقاتلين وإتباع مليشيات عسكرية، كانوا أطفالاً ونساء وشبابا، يحصدون ثمرة تعبهم. فجأة انقضت عليهم القنابل المتفجرة وحولتهم إلى حكايات وقصص جولانية.
كان قرار التحرير السوري، وتقدم القوات السورية الباسلة في جبهة الجولان، وعبور الجيش المصري لخط بارليف في سيناء، عزاء لمن بقى يستقبل العزاء الأليم في المصاب الحزين. كان النصر مرفوعا فوق أجساد الذين مضوا أبرياء تحت القصف. "بعد أعراس النصر والتحرير نضع الشواهد على أضرحتهم" قال الحزانى المفجوعين من ذويهم. انتهت الحرب ولم تحن بعد الفرصة لإقامة الشواهد على أضرحة أولئك الأبرياء، فهل نذكرهم الآن وبعد مضي اكثر من ثلاثين عاما على قتلهم؟ هل نبقي مجالس العزاء في الذكريات، وهي ما زالت تسكن ملفوفة بالدم في صدور هؤلاء الرجال، ووسط سحابات الزمن؟ أسئلة نطرحها على أنفسنا، وتطرحها علينا الحياة، وحين نصطدم بها، نتخبط في الإجابة عليها.
شهادات من تشرين، هي محاولة لإلقاء بعض الضوء، والحقيقة، على ما جرى في الجولان السوري المحتل في الأيام الأولى من حرب تشرين التحررية، التي كانت حربا عادلة، لقضية عادلة، في وقت تحول صاحب الحق العادل إلى معتدى، والمعتدي إلى ضحية، فهل نغضب حين يبقى أمواتنا وأحياؤنا مجرد أرقام لإحصائيات دولية، دون رصيد ينبض بالحياة والحب والدفء الإنساني؟!
شهادات من تشرين هي مجموعة بسيطة من حكايات جولانية، تستحضر بعضا من ضحايا هذه الحرب، وتستذكر مع أعزائهم بعضا من قصصهم، ولحظات حياتهم الأخيرة. قصصا كان واجبا علينا تسجيلها، وابرازها كشواهد على حجم ذاك الألم الدفين في الصدور، فهل لنا بمشاطرتهم تلك الذكريات الموجعة، علنا نستبق التحرير في تشييعهم كما يليق بممات أولئك الأبرياء، فأحيانا يتحول الصمت لعنة، حين تتلاشى الحقيقة، ويسكن النسيان في الأذهان، في أن لبيوتنا وأرضنا حرمة، لا يجوز تدنيسها، ولشعبنا حق مقدس في الحياة تحت الشمس. فأحلامنا العصية التي لا تبوح بأسرارها إلا لمن فهم لغة هذه الأرض لأجيال وأجيال متعاقبة، لها كلمة الفصل الأخيرة، في تقرير مصيرنا.
هنا في ساحة سلطان باشا الأطرش، التي كانت ساحة المدرسة، وسط مجدل شمس، كان بيت عتيق تسكنه عائلة المرحومة زريفة عماشة المرعي وأفراد أسرتها. التقينا أم نبيل المرعي وابنتها الهام داخل منزلهم الذي تعرض إلى الدمار أيضا، وأعيد بنائه بعد سنتين من الحرب:
"
حين أطلقت الطائرة صاروخها على البيت، كانت "الختيارة" تعد الطعام لزوجها، بعد عودتهم سالمين من منطقة "المرج"، كانت السيارات تقل المزارعين الذين انقطعوا هناك، وتعيدهم إلى منازلهم حيث شعر الجميع أن البلدة مكان آمن- كان القصف في "المرج" عشوائيا وسقط أشخاص هناك. حين وصلوا إلى البيت نزلنا وسلمنا عليهم. أبو نبيل استقل السيارة وذهب ليعيدهم إلى البيت، هم رأوه وابنتنا هذه كانت معهم، نادوا علية لكنه من السرعة وضجة القصف والطائرات لم يراهم أو يسمعهم. أصيبت سيارته بشظايا، كان يترك السيارة ليستقل سيارة أخرى من أحد أصحابه هنا في السوق، ويعود ليجلب معه من المرج أناس كانوا مقطوعين هناك. ابني الصغير كان نائما، حين حصل الانفجار الكبير. اعتقدت إن كل شئ ذهب، الانفجار كان قويا جدا والغبار ملأ الساحة وغطى كل شئ، خفت على ابني النائم وعلى "الختيارة" والختيار (يوسف المرعي - والد زوجي) . بيتنا هذا انقسم إلى قسمين، خرجت خائفة، لا أعرف ماذا افعل، رآني أحد الشباب الذين كانوا في الساحة وساعدني على النزول لا اعرف كيف. كنت اصرخ وأقول لهم "الولد جوا.. الولد جوا". لم أعرف ماذا حل بالآخرين. "زريفة" كانت داخل منزلها الذي أصيب مباشرة و"الختيار"- زوجها- دخل إلى الدكان قبل الانفجار، واخرين كانوا جالسين أمام الدكان، كلهم تعرضوا إلى إصابات قسم منهم إصاباته خفيفة، وقسم أخر أصيب بشظايا. رأيت الطفلة الصغيرة ماجدة ابنة سلفي في الساحة، حملوها بعد أن قذفها الانفجار خارج البيت وضربها بقوة على الأرض، أخذوها فورا بسيارة إلى مشفى صفد هي و"الختيار" واخرين من الشباب الذين أصيبوا. أما والدها وجدتها فبقوا تحت الردم. ساعة ونصف من بحثنا عن ابني بين الردم، كان كل الناس مندفعين وقلقين عليه، الجميع اعتقد انه مات، لكن حين أزيح قسم من الردم عن مكان الغرفة التي كان نائما فيها، رأوا رجله وقبل متابعة البحث عنه أبعدوني وابعدوا والده ابو نبيل، خوفا علينا من قسوة المنظر، لكن أبوه أصر على مشاهدته، ولحسن حظنا والحمد لله، كانت الخزانة قد وقعت على إحدى الزوايا والصبي بينهما، كان عمره سنة ونصف إصابته خفيفة جدا. أبو نبيل ما زال تعبان لغاية اليوم، أما البنت الصغرى ماجدة فقد فارقت الحياة، جلبوها ودفنوها بسرعة لم يكن والدها موجودا وقت الدفن. "الختيارة" بقيت يومين تحت الردم حتى عثروا عليها، كانت مهشمة، ووجها مشوه،"وقشّارة" البطاطا في يدها المتصلبة، ولم يستطيعوا إخراجها من تحت الردم بسهولة. فاجعة إصابتنا جراء الحرب. لكنني اذكر مساعدة الناس لنا. لم يتبق لنا أي شيء، كل أغراضنا وحاجاتنا كلها بقيت تحت الردم. أهل البلدة تنافسوا على تقديم المساعدة، سكنا لمدة سنتين لدى عائلة المرحوم أبو غسان فريد أبو جبل. كنا نقاسمهم كل شئ. لا أنسى فضل أهل البلدة علينا أبدا. حين أرى واشاهد الدمار الإسرائيلي في فلسطين، كل جسمي يتشنج. أتذكر هذه اللحظات واتذكر "الختيارة" الحنونة، وهذه الطفلة التي كانت تملا الحارة بحركتها وطيبتها. قبل الانفجار طلبت من ابنتي"الهام" أن تذهب معها إلى النبي شعيب(عليه السلام)، مع أهلها، لكننا لم نوافق. كل عائلة سلفي ذهبوا إلى هناك ليعودوا ريثما تهدأ الأحوال قليلاً، لأن والد ماجدة كان تاجر وجلب الخضروات للناس هنا أثناء الحرب، لكن قسمتهم إن يحصل ما حصل، الله يساعد كل من يتهدم بيته، الله يساعد أهل فلسطين والعراق على هذا الدمار الذي يصيبهم من القصف والحرب. هذه الحرب التي انتظرناها كانت بالنسبة لنا مأساة، فقدنا عزيزين من نفس البيت، وأصيب معظم أولادنا فيها، والحمد لله إنها لم تكن أعظم من الذي حصل. حين مر بعض أفراد الجيش السوري ومنهم شاب اسمه "كمال حميدي" انسحبوا باتجاه قرية "حضر"، أعطيناهم الخبز والماء. كانوا أقوياء جدا، غادروا وهم يعدوننا بأنهم لن يتأخروا سيعودون، ولغاية ألان ما زلنا ننتظرهم، "انشالله" يرجعوا ونخلص من "هالمصيبة".
وغصة أخرى، ما زالت تسكن الذاكرة والوجدان، غصة ممزوجة بألم دفين، ودموع حبيسة لم تجد لها مخرجاً، إلا حين غصنا في تفاصيل تلك الأيام، التي حولت حياة طفل وطفلة وزوج إلى ذكريات يعتصرها الزمن، كما يعتصر هذا الألم في صدر علم الدين الشوفي:
"
قبل الحرب تعرفت على زوجتي المرحومة "آمال السيد احمد"، وتزوجنا في العام 1970. عشنا حياة حلوة، ومنسجمة، خاصة بعد ان رزقنا بطفلتنا الأولى فاتن، وبعدها ابننا سمير. كنت اعمل لتوفير لقمة العيش. تعلم انه منذ الاحتلال عام 1967 كانت أوضاع الناس صعبة والجميع يعمل بشكل مؤقت، لأن قناعتنا وأملنا بتحرير الأرض قريباً جدا.
في تمام الساعة الثانية وعشرة دقائق من يوم السبت، الواقع في 6 تشرين عام 1973، كنا جالسين أنا وبعض إخوتي وعدد من الأصدقاء نشرب القهوة، فجأة سمعنا صوت انفجارات ودوى قذائف، خرجنا إلى أمام البيت، لم ندري ما الذي يحصل، رشق ناري لم نعرف مصدره كان يتطاير باتجاهنا، ركضنا لنختبئ داخل البيت، كنت أول من دخل، هربا من الرصاص، حين دخلت لم اصدق ما أشاهد أمامي، كانت زوجتي أمال، التي كانت تعد لنا الطعام، ممدة على الأرض وتحاول الزحف للامساك بالطفل الذي كان على مقربة منها. كان دمها يسيل بغزارة على ارض المطبخ، وبكاء الطفل ملأ كل الأجواء.. لقد أصيبت أمال برشقات رصاص عديدة، وأصيب ابني في رجليه إصابة مباشرة. أذكر تلك اللحظات وكأنها أمامي الآن. إخوتي أسرعوا لنجدة أمال وأنا حملت الطفل ولففت رجليه ببطانية او قطعة قماش لا أذكر، لوقف نزيف الدم، لم استوعب ان الرجل الأولى للصبي ما تزال تلوح، وكف رجله الثانية غير موجود. كان صوت الطائرات والمدافع قويا، ركضت به كالمجنون من غرفة إلى أخرى، حتى امسكه مني أحد إخوتي، وركضت باتجاه أمال، كانت تنظر إلي، تتألم بصمت، ودون أي صوت، لم استطع فعل أي شئ، لم أعرف ماذا أفعل، لم أشعر إلا بنظراتها وصراخ إخوتي. حملتها والدموع تحجب رؤيتي، وحمل أخي الطفل وتوجهنا الى سيارة أخي، وانطلقنا مسرعين باتجاه مشفى صفد. كانت بين أحضاني تتطلع مباشرة في عيوني، لم افقد الأمل بنجاتها، لم استسلم، قلت لها اطمئني بعد قليل نكون في المستشفى. لم تستطع الكلام، كانت تنظر الي، وتضغط على يدي، قبل وصولنا إلى قرية الخالصة قالت لي: "بحياة عمرك دير بالك عالأولاد"، وفقدت وعيها. لم أعرف أنها ماتت إلا حين وصلنا إلى العيادة في الخالصة. اخذوا الصبي فورا وادخلوها للفحص وطلبوا منا بعد عدة فحوصات ان نتابع فوراً إلى مستشفى صفد. في سيارة الإسعاف كانت أمال قد فارقت الحياة. في صفد اخذوا الولد لغرفة العمليات. في اليوم التالي سلمونا جثة أمال وعدنا بها إلى البلدة، لتوارى الثرى. كان القصف ما زال قويا في محيط البلدة. عدة أشخاص فقط كانوا وقت تشييع جثمانها. أنا عدت إلى صفد لأبقى هناك مع ابني الذي كان عمره 8 اشهر، واخته فاتن عمرها سنتين. لم يتبق لي سواهم، فهم من ذكرى المرحومة، وثمرة حبي لها. بعد علاج ابني حبست دموعي وأحزاني، وتفرغت لهم. كنت الام والأب. كانوا يسألوني كثيرا عنها، لم اعرف بماذا أجيبهم، سوى أنها سافرت وستعود. ربما سبب إجابتي يعود إلى عدم تصديقي أنها قتلت. يؤلمني جدا حين أراهم دون أمهم، وزملائهم في المدرسة مع أمهاتهم. بقيت قربهم طيلة أربع سنوات بعد الحرب. لم استطع التفكير بالزواج من امرأة أخرى. كل من حولي كان يحثني على الزواج من اجل الأولاد، الذين كبروا بانتظار عودة أمهم. أخيرا تزوجت من زوجتي الحالية أمد الله في عمرها، انسانة رائعة ومحترمة ولطيفة جداً، وكانت أما مثالية للأولاد، تعلقوا بها وأحبوها وأحبتهم، وهذا وفر لي راحة واستقرار نفسي لغاية اليوم. مراسيم زواجي الثاني لم تكن وفق الطقوس التقليدية نظرا لحساسية الموقف، كنت ارغب في تقديم كل شئ لهذه الإنسانة الرائعة المتفهمة لوضعي ولوضع أولادي.
مأساتي في مقتل زوجتي لم تمنعني من الاستمرار في الحياة. آمال رحمها الله كان عمرها وقت الحرب 19 عاماً، لكن ما زلت أذكرها، ما زالت في أعماقي، كلما التقي مع أهلها أو أصدقائها، جميعهم يحدثونني عنها يستذكرونها بحسرة وحزن وشوق إليها. حين تزوجت فاتن كانت آمال حاضرة في دموع الناس، في دموع فاتن التي رغبت أن تكون أمها إلى جانبها، ورغبنا جميعا في ذلك، لكن هذا قدرها، أمها الحالية عوضت فقدانها إلى أبعد الحدود، وهذا عزائي.
زوجتي ساعدتني في تجاوز أحزاني، وخاصة حين رزقنا بطفلة، أسميناها على اسم زوجتي المرحومة آمال، لأنه يجب أن يبقى لفاتن وسمير شيئا من ذكراها داخل البيت، وهم يحبونها جدا ومتعلقون بها أكثر، لأنها تحمل ذكرى من ذواتهم، ذكرى والدتهم التي لم يعرفوها أبدا.
ما يحز في قلبي، وأنت تفتح صدري وجراحي بعد مضي اكثر من ثلاثين عاماً، هو ذاك الشعور الصعب، في أن أمال ومن استشهد معها أثناء الحرب لم يأخذوا حقهم من المجتمع. لا أحد يذكرهم، ليس هناك شاهد تاريخي أو اجتماعي، يشرح مأساة هذه المنطقة، وماذا قدمت هذه المنطقة بسبب صراعنا مع الاحتلال. فلولا وجوده لم تكن حرب، ولولا الحرب لما ذهبت آمال واثنا عشر مواطناً بريئاً من أبناء مجتمعنا، أليس كذلك؟ ودعت هذا الرجل بصمت. لم استطع مواساته سوى بالشكر الجزيل على فتح جراحه أمامي، وجراح هذه الحرب التي كان لها أن تعوضنا عن أشياء كثيرة سلبت منا، فهل ستعوضنا بعد أيام الزمن الآتية؟؟ عائلة الشيخ أبو قاسم هاني العفلق تقاسمت دموع وأوجاع هده الحرب. في بيتهم العتيق، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً، ما زالت آثار الحرب قائمة على ذاك الحائط الحجري القديم، حيث كانت الإصابة المباشرة للقذيفة، أولى ساعات الحرب، أي قبل يوم واحد فقط من استشهاده. عادوا هلعين وخائفين من المرج، إسوة بآلاف العائلات الجولانية، وتركوا تفاحهم وأغراضهم وحوائجهم هناك. في طريق العودة إلى منزلهم، شاهدوا ومعهم جهاد، عائلة فارس المقت، والمصاب الذي أصابهم. كان جهاد يتطلع نحوهم بحزن وقلق: "يا حبيب روحي" قالتها "الختيارة" أم قاسم، وهي تستحضر تلك اللحظات الأخيرة من عمر ابنها جهاد، الذي اختطفته تلك الحرب. كان عمره 18 عاماً، كان هنا على هذا التخت جالسا بجانبي، يراقب الطائرات وصوت الرصاص والقذائف. أبوه كان داخل الغرفة مع ابني صالح، ورحاب ابنتي الوحيدة كانت داخل البيت، فجأة رأينا شيئا قادما إلينا بسرعة البرق، وضرب في هدا الحائط. كان الدخان كثيف جدا، والصوت كان سريعا جدا، ما زال يطن في أدني لغاية اليوم. لا أعرف ماذا حدث، لكنني سمعت البنت تصرخ، وجهاد الذي كان بجانبي، "يا حسرة قلبي عليه"، كان قد انتهى دون أن يصرخ، الشظية اخترقت بطنه كله، وتدفق دمه كسيل من المياه. أبو قاسم خرج من الغرفة إثر سماع هدير القذيفة، وما أن فتح الباب حتى انفجرت، وتطايرت، فأصيب صالح، كان عمره 12 عاماً. قذفته إلى داخل البيت، وأصابتني شظية منها في رجلي، ما زال قسما منها داخل رجلي، لم يلفظها الدم كما قالوا لي. والحريق شب داخل البيت، الفرش، والبساط السوري القديم، والمساند و "النملية"، كل ذلك احترق. سارع الجيران للمساعدة، رغم أن الكثيرين كانوا مختبئين في بيوتهم. أبو قاسم حمل صالح المضرج بالدم، وغطاه ببطانية، وخرج به من الجهة الأخرى للبيت، ليصل إلينا على "البرندة". كان بعض جيراننا قد وصلوا سمعوا صوت الانفجار، وصوت صراخنا، فحمّلونا في سيارة وانطلقوا بنا إلى مستشفى صفد، أنا وصالح ورحاب، أما جهاد "يا حسرة قلبي عليه" لم أره، حمله أبوه مع عدة رجال، فقط، من الموجودين، وأخذه إلى المقبرة حيث دفنوه، دون أن نلقي عليه الوداع الأخير، وعاد والتحق بنا إلى صفد، وهناك أخبرني أنه دفنه في البلدة وأتى إلى صفد.
تتوقف أم قاسم عن الحديث وتنهيدات صدرها المشتاق إلى ابنها تتحول إلى دموع حارقة على حسرة قلبها. كان استحضار ابنها جهاد قاسيا جدا عليها، خاصة وأن هده العائلة تحملت الكثير من الآلام والعذاب المستمر لغاية اليوم. يقطع لحظات الصمت، وتنهيدات الصدر، العم أبو قاسم: "نعم بقينا هناك في صفد3 اشهر متواصلة، فكل عائلتي في المستشفى. أم قاسم في العلاج. أجروا لها عمليات لإخراج الرصاص من رجلها، وبقيت شظية قالوا لها فيما بعد تخرج لوحدها، حتى اليوم لم تخرج،. وصالح فلذة كبدي وسندي المتبقي لي، في غيبوبة، وحالته صعبة. الشظية أخدت منه كلية واحدة والطحال، وجزءً من معدته، وجزءً من البنكرياس وأجزاء من الكبد. كيف سيعيش قلت لهم هناك؟ فقالوا لي نحاول قدر إمكاننا أن ننقذ. ورحاب كذلك كانت ترقد هناك لعلاج رجلها المصابة، فمادا سأفعل وحدي في البيت؟ يا ابني تحملت الكثير من الأوجاع في حياتي، ومستعد للتحمل اكثر بعد. أجدادي ذهبوا شهداء، في الثورة، والأمراض أخذت مني خمسة أولاد، وجهاد. كان هناك مرض لم نعرف عنه شيئا، فجأة اختطف أكثر من عشرين ولدا من هده البلدة، هكذا قالوا لنا في مستشفى المجتهد بالشام. أولادي كانت أعمارهم 11، 12 عاما، وبنت عمرها كان تسعة اشهر، وبنت أخرى، وجهاد استشهد في الحرب. كل فترة كانت تصيبنا مصيبة ونخرج منها ونقول الحمد لله. بقينا في أرزاقنا وأوطاننا، ولم نحتج إلى أي معونة من أحد. بعد الحرب التي اختطفت ابني جهاد رحمه الله جاء الإسرائيليون إلى البيت، ليأخذوا بقايا القذيفة التي بقيت هنا لفترة من الوقت ، كان بينهم ضابط اسمه "سردل". قال لي إن الضربة كانت تستهدف الجنود وليس ابنك. أين الجنود هنا؟ لم يكن جنود سوريين. هنا يعيش مواطنون عزل. وحاول مواساتي بتعهده بان دولته ستعوضني عن ابني وفلذة كبدي. أي شيء في الدنيا يعوضني عنه، يا ليت ابني موجود الآن معي. رفضت عرضه، وقلت له اجمع أدوات قتلك وأدوات جريمتك وارحل من هنا، لا احتاج إلى مالكم، ولن أتوجه إلى قانونكم، فانتم مجرمين قتلتم ابني دون أي ذنب.
ويتابع العم أبو قاسم بصوت مفجوع:
"
ابني الكبير قاسم بقى في الشام. كان جنديا في الشرطة العسكرية، لم يدخل البلدة منذ الاحتلال. يعيش اليوم في السويداء، يعمل في البناء والزراعة. وصالح عاجز عن القيام بأي أعمال متعبة، بسبب الإصابات التي حولته إلى شبه عاجز. لقد سمى ابنه على اسم أخيه جهاد، فهل نستطيع أن ننساه للحظة واحدة. أرى جهاد في ابن أخيه وهذا أمر يسعدني جدا. "الله يخلصنا من هالمصايب ويهَدّي بالنا شويه".
انتهى اللقاء مع عائلة أبو قاسم هاني العفلق، ودموع الوجع والشوق تخيم على اجواء ذاك البيت القديم، الذي شهد عملية قتل بشعة لشاب في أوائل سني عمره، وما زال يحتفظ في ملامحه وذكرياته وعنفوانه، المتجسد في تلك الزاوية الصغيرة التي بقيت محفورة على الجدار، وشريط الذكريات الأليمة التي هزت مرافقي، الشاب محمد، ابن البنت المصابة رحاب، حيث تفاجأت لردة فعله وانفعالاته العفوية، حين كان يستمع إلى قصة من ماضي والدته وذويها، في إحدى محطات حياتهم.

ما للعروبـةِ تبدو مثلَ أرملةٍ؟ أليسَ في كتبِ التاريخِ أفراحُ؟
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.09629 seconds with 11 queries