الموضوع: حوارات أدونيس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05/11/2007   #11
شب و شيخ الشباب verocchio
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ verocchio
verocchio is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
مشاركات:
2,795

إرسال خطاب MSN إلى verocchio
افتراضي


أدونيس: بعد خبرتك الطويلة، حين تسأل، وأنا أسألك الآن: أين تجد هويتك بالمعنى العميق للكلمة، في إنتاجك الفني، أم في انتمائك لبلد أو شعب ما ؟

فاتح: كلمة إيجاد الهوية أو الحصول عليها كلمة ليست دقيقة بالنسبة لي. أنا أفضل أن يصاغ السؤال : كيف صنعت هويتك؟ لأن الهوية كالحرية تصنع صنعاً وإذا لم نصنعها نظل عبيداً لمعارفنا وثقافتنا السابقة و القديمة. صنع الهوية الفكرية بالنسبة لي يحتاج أولا إلى التخلي كلية عن اللاخلاقيات لفسح المجال للنباتات الذاتية كي تنمو، وللأفكار، إن كانت تشكيلية أو أدبية، أن تتشكل بحرية، فهذه الأفكار مثل الأعشاب تنمو والحفاظ على ثبات نموها يحتاج إلى أمور عدة، هي أن نفلسف الواقع أو نخضع له أو نموت لأجله. و الواقع كما هو، أو القبول به كما هو، يسبب للإنسان مرضاً عضالاً هو القهر. القهر الداخلي. وقد ثبت لي من تجربتي الشخصية أن القهر يولد لدى الإنسان، أو يدفع الإنسان إلى الحرد، يعني أن يحرد الإنسان من العالم المحيط به، خاصة في السياسة، فإذا حردت سياسياً فقد قتلت أدبياً. إذن القهر و الحرد إضافة إلى التكوينة الاجتماعية والسياسية المليئة بالمفارقات، كل ذلك يقف عائقاً أمام صونه الهوية الذاتية. أضف إلى ذلك ما يمكن أن أسميه بالغربة القومية والذي يمكن أن أفسره في أن تجد نفسك دون شعب ما متطور ومتقدم. فأن يكون الشعب هو دون الشعب المتقدم عليه، هذا شيء ارفضه نهائياً)

(تكشف لي ومنذ كنت شاباً، أثناء دراستي في روما، و من خلال الأشخاص الذين قابلتهم من فنانين و أدباء، سواء كانوا طليانا أو ألمانا أو من جنسيات أخرى بمن فيهم العرب، ومن خلال متابعاتي لأعمال هؤلاء الفنية و الأدبية، طرحت على نفسي السؤال التالي : هل تلك الأعمال الفنية و الأدبية هي أعمال تراكمية أهي نتيجة تراكم المعرفة أم هي أعمال ذاتية؟ وقد ظل هذا السؤال يؤرقني زمناً طويلاً. وقد توصلت إلى جواب ملخصه أن التراكمات المعرفية هي من أخطر العوامل التي تخلص الإنسان من هويته وذاتيته. أي أنها تحرمه هويته دون أن يشعر. إن وصولي إلى هذه الحقيقة، وأنا أعتبرها حقيقة، دفعني للتساؤل، هل المعرفة و استخدامها بعد النضج نوعاً ما يعتبر خطرا على الإنسان؟ وكيف يمكن له التخلص من هذه المعرفة؟ أي مكنسة سحرية تكنس له دهاليز الذاكرة من تراكم غبار المعرفة الذي بدأ يتراكم منذ القرن السادس قبل الميلاد؟)


(هناك مكيانيكية ذاتية في العمل الفني أعاني منها و أعتقد أن غيري من الفنانين و الأدباء يعانون منها، وهي أنه قبل بدء العملية الإبداعية عند الفنان، وهي رحلة صعبة قليلاً، واقصد بالرحلة ذلك الدخول إلى الذات و الوقوف في خوف أو شجاعة لا أدري، ربما كانت بخوف، ربما بشجاعة.

ذلك الدخول للذات وتناول المادة التي سبق وأن هيأها للبحث فيها، وتناول ما يلزم من المواد الأولية للعمل الفني كما لو أن الفنان يدخل كهف الذاكرة أثناء إقدامه على عمل فني أو إبداعي جديد. أقول لك هذا لأنني كثيراً ما فكرت في هذا الموضوع بيني وبين نفسي، هل أدخل أثناء العمل الإبداعي إلى كهف أنيق أم مشوش. لا اعرف. السؤال موجه لك الآن. كيف تدخل كهف الذاكرة أو المعمل الداخلي، وكيف تخرج منه؟ ما هي الظروف النفسية التي تحيط بك، وما هي الطاقة الانتقائية لك أنت بالذات؟)

أدونيس: (ضاحكاً) يا نباش أنت يا نباش، هذا برائي سؤال الأسئلة، وأود أن اسمع إجابتك عنه بعد أن أنتهي من محاولتي الإجابة عليه. أقول أحاول لأنه سؤال الأسئلة على المستوى الإبداعي. و الارتجال هنا صعب. لذلك أرجو ممن سيقرءون الإجابة أن يكونوا رؤوفين بنا. أولا من أنا بوصفي أمارس العملية الإبداعية؟ أنا موجود ضمن ثقافة معينة، تربيت من خلال ثقافة لا تقول نظرياً ما يجب أن يقال أو ما يتوجب عليها أن تقول. لا تطرح الأسئلة التي يجب أن تطرح. إذن أنا مقموع ثقافياً داخل هذه الثقافة.
فاتح : هذا قبل دخولك الكهف.

أدونيس : طبعاً، أنا اصف نفسي أولاً خارج الكهف، ثم هناك عالم لا نهائي مقموع ومهمش في ثقافتي هو عالم الجسد وما يتصل به من مثل اللاشعور و العواطف و الأحلام و التطلعات و الشهوات .. الخ. وهو المادة الحقيقية للذاكرة الإبداعية. هكذا أدخل العملية الإبداعية، أو الكهف الإبداعي بوصفي كياناً نصف مبتور. أدخله معي جيش هائل من الشرطة ترافقني و تأمرني، قل هذا ولا تقل ذلك، هذا لا يجوز، هذا ضد الدين، هذا ضد السياسة. يعني أدخل فعلاً وكأنني مطوق ليس من الخارج بل من الداخل بجيش هائل من الرقباء، ثم ابدأ العملية الكتابية. وحين ابدأ ، تقنياً أنا لا أكتب القصيدة مباشرة، حين تأتيني فكرة القصيدة أتركها تختمر في جسدي، في ذهني، وفيما هي تختمر تمتد جذورها في جميع الاتجاهات. بحيث أن القصيدة يمكن أن تقول أشياء كثيرة قيلت في الماضي بتنويعات أخرى. و أثناء ذلك الاختمار الطويل، يشارك الجسد، ويشارك العقل، وتشارك الثقافة، و المؤثرات الخارجية أيضاً. واثناء الاختمار تخلق القصيدة إيقاعها أيضا. وعليّ أن أنتظر الشرارة لأنني لا أستطيع أن أكتب شيئا إلا إذا جاءت الإشارة، والإشارة هي شرارة ما لا أظن أن أحداّ يقدر على تفسيرها. يمكن أن تأتي بلحظة لا تنتظرها، يمكن أن تأتي و أنت داخل في النوم، يمكن أن تأتي و أنت تحلم، فتستيقظ وتبدأ. وفيما ابدأ أكتب مباشرة ودون انقطاع. يعني أن القصيدة يمكن أن تكون عشرين صفحة أكتبها دفعة واحدة لأنها تكون موجودة في عقلي. بعد أن أنتهي من كتابة القصيدة أطويها و أضعها بعيداً عني، و أنفصل عنها أتركها فترة، أسبوعاً ، عشرة أيام، حسب الحالة ثم أعود إلى قراءتها وكأنني اقرأها للمرة الأولى. أحياناً تمر معي أشياء لا أتذكرها، ولا أتذكر كيف كتبتها. ثم أمارس رقابتي الفنية عليها، وأرتبها بشكلها النهائي، يمكن أن يصبح أولها آخرها، ويمكن لأن أبدل بعض الكلمات كلون تمحوه، وتأتي ببديل مكانه. هذه العملية الفنية دقيقة لا تحدث في المطلق، ولا تحدث إلا في القصيدة ذاتها.
قال ريلكه مرة يجب أن تكون لديك معارف عن الفيزياء و الأشجار و الأنهار و الكون لتستطيع الكتابة عن زهرة أو عن شيء بسيط في هذا الكون. وعمل الفنان الكبير يتضمن الكون كله، من زاوية هذا العمل طبعاً. لذلك تكون هناك استعادات، عناصر يستعيدها الفنان. ولكن لا يمكن أن يكون هناك أي استعادة تشبه الأخرى. دائما هناك تنويع لكن القراء السطحيين، و العاديين مجرد قراءتهم كلمة حب واحدة في قصيدة، أو رؤيتهم ، مجرد ما يرون لوناً مكرراً يقولون أن أدونيس أو فاتح يكرران نفسهما. ولكن الفنان لا يكرر نفيه. أم كلثوم تقول الجملة الغنائية أحياناً عشر مرات، وفي كل مرة تقولها بشكل مختلف، ولكن لا يكشف هذا الاختلاف إلا الفنانون، وهذا ما يصح قوله عن جميع الفنانين الكبار. الفنان الكبير يقول الشيء مرة واحدة ولكنه يقوله بتنويع كبير إلى ما لانهاية. وليس هناك فنان قال بشكل جمعي شيء + شيء+ شيء. الفنان كالشجرة ينزل عمودياً، يشع في جميع الاتجاهات.

وأنتقل إلى النقطة الثالثة، ما فعلته، هل أنا صادق به أم كاذب. أنا أقول أن لدي كذباً مزدوجاً فيما كتبت. الكذبة الأولى أنني لم استطع أن أقول مما أردت قوله إلا الشيء الذي سمح به ذلك الجيش من الرقباء ، مع أنني نسبياً (بين أجرأ) من يكتب باللغة العربية. أنا لدي رقابة أخرى هي رقابة جسدي، أنا لا أستطيع أن أكون صادقاً مع نفسي مائة في المائة، لأن هذا النوع من الصدق هو الموت نفسه. إذن هناك كذب مفروض عليك وهناك كذب اضطراري ذاتي. وهناك نوع آخر من الكذب، كذب لغوي، فمن المستحيل على الكلمة مهما كانت محيطة وعميقة، أن تفصح إفصاحا كاملاً عن الشيء. كما هو اللون. وإذن هناك ما اسميه كذب المسافة، تظل هناك مسافة بينك وبين الشيء الذي تريد قوله ولم تستطع أن تلتقطه. بهذا المعنى الفن صادق فقط على مستوى الإخلاص للمحاولة. صادق بوصفك أخلصت و أعطيت نفسك لهذه المحاولة.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05874 seconds with 11 queries