الموضوع: حوارات أدونيس
عرض مشاركة واحدة
قديم 05/11/2007   #8
شب و شيخ الشباب verocchio
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ verocchio
verocchio is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
مشاركات:
2,795

إرسال خطاب MSN إلى verocchio
افتراضي


العمود

عباس : أسـألك عن عودتك إلى الشـعر العـمودي في هذا النص، بينمـا بدا وكـأنه فـتـحـت مـعركـة مع الشـعر العمودي؟
أدونيس : هناك بعض القصائد لا أسميها عمودية بل أسميها تفصيلية، العمود مصطلح نقدي خاص، نستخدمه أحيانا بدون تدقيق، فأركان العمود متعددة، أما الأوزان أو التفاعيل فشيء مختلف. خذ البحـر الطويل مثلا عند امرئ القيس وخـذه عند المتنبي. فهو مع أنه بحر واحد تحس انه عند المتنبي شيء وعند امرئ القيس شيء آخر. فليس البحر هو ما يحدد هوية الشعر، بل حركة الشاعر داخل هذا البحر أو معه، لو كان البحر هو ما يحدد لكان جـميع الشـعراء الذين يكتبون على بحر واحـد متساوين. ولذلك ليس المهم الوزن في ذاته، إنما الأساس هو حركة الشاعر الروحية أو الإيقاعية داخل الوزن، والمهم نظام الرؤية ومنطق العلاقات. نجد ما يشبه هذه المشكلة لدى كتاب قصيدة النثر. فالحق أننا نجد عند بعضهم جملة واحدة وصيغة واحدة وتكوينا واحدا تتكرر جـميعها على مدى كتاباتهم كلها. إما جملة اسمية أو جملة فعلية نادرا، وعلاقة الفاعل بالمفعول والضمير بغيره والكلمة بغيرها، هي تماما بنية واحدة تتكرر على مدى القصيدة. وهذه تظهر في النثر أسوأ من الوزن، فالوزن تنقذه الموسيقى قليلا. الوزن يغطي ويحجب، ويموه.. أما في النثر فتبدو هذه الأمور بشكل جلي فاضح. وأكرر أن المسألة ليست مسألة الوزن بل هي مسألة الحركية فيه والأبعاد الموسيقية وتكوين العلاقات بين الكلمات والأشياء.
عباس : هل ما بني نقديا في فترة بدايات القصيدة الجديدة، هل مـا بني على نقد العـمود الشـعري ومـا نسب لهذا العمود الشعري، هل هو خطأ برأيك؟
أدونيس : لا، إطلاقا، لكن يجب أن نميز بين المتنبي ومن قلد المتنبي، في كتابتي لم أكن مرة ضد الأوزان بحد ذاتها، الخليل عبقري، اكتشف ستة عشر إيقاعا ليس لها مثيل، هذه عبقرية كبرى مقارنة باللغات الأخرى وموسيقى اللغات الأخرى. لكن أين الخطأ، الخطأ أن تنسج على منوال الآخرين. نحن في نقد العمودية كنا ضد تقليد العمودية، ولم نكن ضد الأوزان أو البحور في حد ذاتها، إطلاقا. اسمح لي هنا بأن أستغرب تركيزك على بضعة مقاطع كتبت بالوزن، وتبعا لنظام الشطرين، وعدم الانتباه إلى أن أشكالا متعددة من الكتابة الشعرية وأنواعا كثيرة من الإيقاعات تتجاوز وتتلاقى في "الكتاب". النثر فيه حـاضر إلى جـانب القصيدة التفعيلية. فهل ترى في هذا الحضور رفضا لقصيدة النثر؟ أم المسألة على عكس ذلك؟
عباس : هناك، اليوم، من يكتب بالبحور نفسها…
أدونيس: طبعا. لكن مع غلبة النمطية. وهذا ما نقدته في مقالتي عن الجواهري. فقد بقي إجمالا داخل النمطيـة الوزنية- شكلا و إيقاعا. عندما تقارنه مثلا، مع المتنبي أو مع أبي نواس، أو مع أبي تمام، فإنك تجد أن حركية هؤلاء الفنية- التقنية، داخل الوزن وقياسا إلى معظم الشعر الجاهلي، أغنى وأعمق وأكثر حيوية من حركية الجواهري- قياسا إليهم.
عباس : هل لأن الجواهري تقليدي، أم لأن القصيدة العربية استنفدت؟
أدونيس : بل لأن الجواهرى متمسك بوزنية كلاسيكية صارمة، ومنمطة. الشعر لا يستنفد. وكذلك الوزن. التنميط هو الذي يستنفد. القصيدة العربية، نمطيا، فخ حقيقي. كمثل قصيدة النثر اليوم. فما إن يبدأ الشاعر العبارة الموزونة نمطيـا، حتى يسقط في البنى التقليدية كلها. لقد صارت نمطا من التفكير والتذوق يصعب الفكاك منه إلا بسيطرة كـاملة على الوزن واللغـة وإيقاعاتها جميعا، وإلا بالقدرة الثقافية- الإبداعية على الفصل بينه وبين البنى الفكرية التي اقترنت به. وآنذاك تمكن الكتابة بالوزن دون الوقوع في النمطية أو التقليد. غير أن التخلص من هذه القيود مع استغلال أو استثمار الغنى الإيقاعي في اللغة معادلة صعبة لا تنجح دائما، لكنها إذا نجحت فتحت أبوابا جديدة لموسيقية الكتابة الشعرية. وهذا نوع من التحدي والاختبار. وفي ما يتعلق بالنصوص القليلة جدا، والموزونة خليليا، في "الكتاب" أو في غيره من كتبي، فلا يمكن لمن يعرف الوزن معرفة حـقيقية أن يصفها بالنمطية، أو التقليدية أو العمودية. ولقد لجأت في "الكتاب" عامدا إلى كتابة الموزون، خليليا، لكي أقيم أحيانا، حوارا مع المتنبي في حركية الوزن عنده، أو لكي أقيم أحـيانا، تجاورا بين أشكال من الكتابة متباعدة ومتناقضة. وفي ما يتعلق بالجواهري، فإن ما كتبته عنه لم يكن نقدا له بقدر ما كان توكيدا على أن التذوق التقليدي والمعايير التقليدية لا تزال راسخة، وعلى أن جانبا كبيرا في مكانة الجواهري كانت نتيجة لسيادة الجمالية التقليدية أكثر مما هي نتيجـة لشعريته بحد ذاتها.
عباس : أدونيس، تقول في أحد مقاطعك "خذ الشعر، أنت أيها المأخوذ بالمرئي. ارفـعه بيتا، وأقم فيه. سيكون حتما عليك آنذاك أن تسكن في الجانب الآخر غير المرئي".
هل هذا استكمال للسجال بينك وبين شعراء من جيل آخر، جـاءوا بعدك، وأعطوا اعتبارا كبيرا للعالم المباشر، العالم المرئي والواقـعي والحدثي. يبدو كـأن هناك سجـالا بينك وبين هؤلاء الشعراء الذين يعتبرونك أقل اكتراثا بالجانب المرئي والمبـاشـر والحي والوقـائعي، هل هذا جـزء من سجالك مع هؤلاء؟
أدونيس : أولا أحترم نتاج كثير منهم احتراما كبيرا. وهذا الاحترام هو نفسه الذي يجعلني أحب أن يكون بيني وبين بعضهم سجال، من جهة ثانية لا أعتقد أن هناك قطيعة كما يحاول بعضهم أن يرى بين ما نراه وما لا نراه من الأشياء. وأعتقد أيضا أننا لكي نفهم الجـانب المرئي من الأشياء لابد من أن نفهم الجـانب غير المرئي، لأن الجـانب المرئي عابر ولا يفصح عن الشيء، والشعر ليس من جانب العابر، الشعر يلتقط العابر لكي يمسك بغير العابر. لذلك أعتقد أن هذا النوع من السجال بيني وبينهم هو سجال غني ويغني الحركة الشعرية.
عباس : لكن هناك فلسفتين للشـعر، فهؤلاء الشـعراء قد يعتبرون أحـيانا- بشكل أو بآخـر- أن مـا تراه عابرا هو أساسي في عالم محكوم.
أدونيس : أحترم وجـهة النظر هذه، ولكني لا أفسر الاتجاهات الشعرية العربية بقسمة الشعراء إلى بعض يهتم بالعابر وبعض أخر يهتم بغير العابر، لأنه حتى الذي يهتم بغير العابر ملزم بأن يهتم بالعابر لكن بدرجة أو بطريقة أخرى مخـتلفة. أقسم الشـعراء العرب، بالأحرى، إلى قسمين كبيرين: شعراء يكتبون داخل المعطى، أيا كان هذا المعطى، المعطى المباشر أو المعطى غير المباشر، المعطى التاريخي أو الاجتماعي... الخ ويحاولون أن ينقدوه أو يتأملوا فيه أو يتفجعوا بشكل أو بآخر، ويصلحـوه بشكل أو بآخـر، أو يعطوا عنه صـورا بشكل أو بآخر، لكن يكتبون داخل المعطى القائم. إذا هناك شعراء يقبلون المعطى، لكنهم يعملون على إصلاحه. وهناك شعراء آخـرون يعيدون النظر جـذريا في المعطى ولا يكتـبون داخله، وكـأنهم يحاولون أن يخلقوا عالما جديدا مختلفا كليا عما هو سائد، وأنا من جهتي في هذا الاتجـاه. أنا أرى إلى الشعر العربي من هذه الزاوية.
عباس : وجود وجهة أو تيار معني أكثر بالعالم الذي سميته مرئيا (وقد نختلف على هذه التسمية) ألم يجعلك تنتبه أكـثر إلى هذا المكان، في الـعالم، في الحـيـاة، في شـعرك نفسه؟
أدونيس : شعريا، المهم أولا كيف ترى. وليس مجرد أن ترى. ولا أظن أنني تخليت كثيرا عن المرئي، لأني حين أقرأ شعري حتى من "أغاني مهيار الدمشقي" و"قصائد أولى" و"أوراق في الريح"، أجد أن كل هذا الشعر قائم على المرئيـات، لكن نظرتي إلى هذه المرئيات مختلفة، بمعنى أنها ليست وصفية. وأنا ميال إلى الشـعر الذي يخترق المرئي عموديا ويخلخله ويقدم شيئا مختلفا.
عباس : هذا يجعلنا ننتقل إلى علاقتك بالأجيال التالية- ولن أسميها جديدة لأنها لم تعد كذلك- هل تلاحظ مثلي أن الشـعر الموزون متـدهور إلى حـد بعـيـد في الأجـيـال التالية؟
أدونيس :جدا .
عباس : هل لهذا دلالة عندك؟
أدونيس : طبعا له دلالة. أولا، لا أحد يمتلك حقا، وبشكل كياني معرفة الوزن العربي وموسيقاه، فكيف يمكن أن لا يكون الشعر الموزون الراهن متدهورا؟ كيف يمكن أن نخلق إيقاعات جـديدة بلغـة لا نعرف موسيقيتها، وعناصرها، وتاريخها الفني الجمالي؟ كميا، على سبيل المثال، قلصت الإيقاعات الشعرية العربية في أربعة أو خمسة أوزان، وأهملت أكثر من عشرة. ألم يكن حريا بالحداثة الشعرية مثلا، أن تغني الموسيقى الشعرية العربيـة، بدلا من أن تفقرها؟ هذه مسألة للبحث. ولماذا ننسى أن هناك أشخاصا يجايلونني ويجايلونك ويجايلون الأصغر منا سنا يكتبون شعرا بالتفعيلة الخليلية لا يقلون أهـمية عن الشعراء الذيـن يكتبون قصيدة النثر؟
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07265 seconds with 11 queries