عرض مشاركة واحدة
قديم 19/09/2009   #6
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي



5 .


ليندا في ضوء ساطع ...والكتابة على جسدها اليوم، ستكون حقل متعة لا حدود له، هي من أقنعني بهذا العمل المجنون، تقول إنها حفيدة جدّة أندلسية، كانت ترسم كل يوم على جسدها بأحبار الجوز، وتغيّر ما ترسمه في اليوم التالي ...كتبتْ على فخذيها بحروف الثلث قصائد لابن زيدون ...والمعتمد ابن عباد..
ولذلك فإن حفيدتها اليوم تريد أن تعيد أندلس جسدها من جديد ..
من جهتي لم أكن أفضل قصائد ابن زيدون على قصائدي ، ولذلك فقد كنت أفكّر بالقصيدة ، وأتخيّلها، وأؤلفها على الفور ..وأنا أكتب على الجلد المشدود كلاماً طازجاً ...ناصعاً ..كلوحة زيت يرسمها الرسام في هذه اللحظة.
تعلمت استخدام القصبة من صديقي الخطاط خالد الساعي،الذي كان يمدّني بالحبر الصيني والقصبات التي يصنعها في بيته العجيب في دمر البلد.
لم يكن يعرف أنني سأكتب ما يطيب لي على جسد ليندا ، كان يظن أنني أتدرب على فنون الحرف العربي ...
كتبتُ:
طائران يغزلان الكلام
في جوّ غنائهما
والطيران
في الإغماض الخفيف
في الالتفاف البطيء حول الآخر ...
في الاقتراب والابتعاد ...
خطُّ الثلث يسحر من يكتب به، النقطة أساسُ الكون ..ومنها سالت الألف، أمدّ الألف على طول الذراع ...ثم انثنتْ فصنعتْ الباء ووقفت في الفضاء تحتها ....الجيم في الرحيل ...والميم في الضم والدوران .....
فوق السرّة ، كان الكلام يمتدّ مرةً ، وينعطف صاعداً إلى النهدين ...ومرةً يدور حول خصر ليندا ..لتنتصف الواو فوق وركيها ...على امتداد سلسلة الظهر...ومرةً يهبط إلى القدمين الصغيرتين عبر الساقين الملتفتين كفخّار حيّ

* * *

جلس الرجل ذو الثياب البيضاء بالقرب مني، وسلّم عليّ، ثم قبّل يده كي يأخذ البركة من الإمام، قال إنه تاجر وأنه يوشك على إنهاء مهمته وواجبه تجاه أبنائه، علمهم مهناً ومصالح كثيرة كما يقول، وأعطاهم من ماله ما يكفيهم، ويعيّشهم مستورين، وأنه راضٍ عنهم واحداً واحداً، ولكنْ....
ـ ولكنْ ماذا يا عم ؟
سألته ..وعندما سمع كلمة (عم) ابتسم وكأنه قد نال مراده، لم أفهم ما يريد، ولكنه لم يتركني أيضاً رهناً للتخمينات..
ـ بقيتْ عندي بنتٌ واحدة ...
ـ ستر الله عليها وجعلها من الصالحات ...وسخّر لها نصيباً طيّباً ..
ـ الله يسلمك يا شيخ محمد...ولهذا جئتك ...بصراحة أنا أسمع عن ورعك وصلاحك وإيمانك منذ مدة، وقد تعمّدت أن أصلي خلفك عدة مرات وأنا ألفّ رأسي بالشال كي لا تنتبه إلى وجودي كغريب بين أهل القرية...جئتك من مكان بعيد ...وأريد أن أخطبك لابنتي ...فماذا تقول؟

* * *

تعال ..سأريك سراديب البيت

* * *

لوهلة تصوّرتُ أنني سأكون توما الكبوشي الجديد، وأن هذا اليهودي قاتلي دون ريب، ولكن ما الذي لفت نظره إليّ، دوناً عن خلق الله ؟
إنه يجرّني تقريباً من يدي، ويأخذني عبر أعماق بيت أبيه الكبير....
ننزل الدرجات..برودة الحجر القديم وسواده تحملانني وكأنني بلا وزن، طائراً فوق الأرض أمشي على الهواء وأنا أعبر نزولاً نزولاً ....مائة درجة تنحني كل عشرين منها وتلفّ هابطةً ...والهواء يأتي من الأسفل ..إذاً هناك فتحة ما في آخر الهبوط ...ولكني أثق بإخاد، كيف؟ لا أعرف ...بالكاد أعرفه ..منذ ساعات فقط ، ولكنه ليس مثيراً للريبة.
ـ إلى أين نذهب ؟
ـ إلى مكان لا تعرفه ..
ـ ولكن أصبحنا على عمق كبير تحت الأرض ...
يبتسم إخاد ...
ـ أنت تقول ذلك ....ربما نكون الآن في حالة صعود لا هبوط ....
الأدراج مضاءة بالفوانيس النحاسية القديمة ..فوانيس الكاز ...وكأنه كان قد أعدّ المكان لزيارتي ...
ـ هل كنت تخطط لجلبي إلى هنا يا إخاد ؟
ـ لا ...آآآآ ..تقصد الفوانيس...؟ أنا أوقدها باستمرار ..لا تنطفئ أبداً ..
ثم نتابع انحدارنا ....الأرض المرصوفة بالحجر الأسود، تبدو ممسوحة بالزيت، لمعانها الذي يعكس ضوء الفوانيس يجعلها تبدو كأحجار كريمة ...أو كسبحات العنبر والدهن ... يجب أن أنتبه ..فهذا الحذاء قد يزلق بي إذا قرر الاحتكاك اللطيف مع الحجر ....ولكن متى نصل ؟ وإلى أين؟

* * *

العرق وحده هو الذي يتمكن من محو ما أكتبه على جسد ليندا، والكلمات تبقى تلتمع وتلتمع،حتى تنضحها القطرات الصغيرة التي تنزّ من بشرتها، قطرات الملح الذهبية، حينها تبدأ الحروف بالتغيّر ...والعبارات بالتحوّل ...والمعاني بالولادات الجديدة ... شعرٌ يصبح سرداً.. ونثرٌ يأتلف من جديد وكأن جسمها يردّ لي صوتي ...
وهي ترقص السماح الأندلسي، تريد موسيقى مغربية، وتريد عزفاً منفرداً على القانون ..وتريد دفقات من وتريات العود .....
تدور وتنثني كما في الموشّحات، كالموشحّات ...وأصابعها الطويلة تعزف على أوتار غير مرئية في هواء الغرفة الصغيرة ...
الليلة طويلة هكذا ...ولا تنتهي ....والعبث الأندلسي يعلو

* * *

بعد ستة أشهر، ينتقل عمي إلى جوار ربّه، وترث ابنته عدة ملايين، وهي ما تزال بعد في شهرها الخامس من الحمل ..كانت الثروة تنتظر محجن وهو جنين .وأمه ابنة التسعة عشر ربيعاً ..ترى العالم كلّه يمرّ من تحت بطني وأنا راكع ...وقرب جبيني في سجودي ...
ـ يعني ورثت أنت ؟
ـ ورثت ...وأصبح لدي ما يكفيني لأعمارٍ قادمة ..ولكنني لم أكن أفكّر في عَرَض الدنيا، كانت الدعوة إلى الله سبيلي الذي اختطته قدماي منذ اللحظة التي اقترب مني فيها الرجل الأبيض في مسجد القرية ذي السقف المثقّب بآلاف الثقوب

* * *

يتوقف إخاد في وسط الأدراج الهابطة، ويلتفت إليّ..
ـ في بيت هولو باشا العابد كان عليك أن تكتشف أسراراً دفنها الورثة، ولكنك هنا ستأخذ ما أقدّمه لك، هناك كانت الجدران تخفي عنك ما وراءها، هنا ستنفتح لك الأبواب ، كي تكتب وتدوّن ما تراه، لأنك إذا لم تفعل فقد لا يحصل ذلك لغيرك ، وقد ينطمر كل شيء في لحظة واحدة.
ـ كيف تعرف كل ذلك عن بيت العابد ؟..الريبورتاج الذي كتبته لم ينشر حتى !!
ـ وكيف خطر على بالك أن أحداً سيوافق على نشر معلومات كهذه عن أول قصر رئاسي في سوريا ؟ الذي هو بيت تيمور لنك حين دخل دمشق غازياً ..والذي أصبح فيما بعد منزل كاتب السلطان العثماني ...والمدرسة الأمريكانية في دمشق ..ثم المحفل الماسوني فيها ؟ هل كنت تتوقع أنهم سيجرؤون على نشر كلام كهذا ؟
ـ كان البيت يحترق وقرّرتُ أن السوريين يجب أن يعرفوا شيئاً عن قيمة ثمينة موجودة في قلب سوق ساروجة...هذا كل شيء ...ولكن جميع الصحف اعتذرت عن النشر ...
ـ نعم ...مع أنهم كانوا يأخذون منك الأوراق التي كتبتها والصور ...
ـ صحيح ..كيف عرفت ؟
ـ لا تسألني ...
يكلمني إخاد، وأنا أذهب إلى بيت العابد في ساروجة، حيث عثرتُ على سيوف أموية ، وأوانٍ زجاجية من أيام تيمور لنك، و حيث اكتشفت الطابق الثاني الذي لا باب له ولا نافذة ..طابق أرضي حول أرض الدار والمدخل ..ثم درج يصعد...ثم طابق ثالث ...بين الطابقين مكانٌ مكتوم لا يمكن الدخول إليه...تكشطُ الكلس الأبيض على الجدران، فترى زمناً آخر ..تكشط الزمن الذي تراه ..فترى زماناً قبله .....كل شيء جاهز للحرق والإتلاف ....في ليلة رأس السنة ...
ـ وصلنا...
ـ هه..
انتبهت ...وصلنا ؟...انتهت الأدراج ..ونحن الآن في فناء مسقوف..ومضاء بالفوانيس ...أصبح لون الحجر خلفية لما يشعّ في داخل الساحة...شعاع ذهبي ينبعث من كل شيء ...قطع أثاث ..أرائك ...طاولات متناثرة، كراسي صغيرة بأذرع خشبية محفورة.مكتبة موزّعة هنا وهناك وأعمدة من الكتب الثقيلة الضخمة ترتفع حتى السقف المشكّل من أقواس متقاطعة ..رومانية وإسلامية وذات عقد نصفية ...
ـ أين نحن ؟

* * *

أما موسى بن ميمون...
فقد عاش في المحيط العربي والإسلامي ، بعد فيلون بستة قرون ، فقد وُلِد في قرطبة سنة 1135، وتوفى في القاهرة سنة 1204 للميلاد، واشتهر بأنه أهم شخصية يهودية خلال العصور الوسطى، كما اشتهر كتابه (دلالة الحائرين) بأنه واحدٌ من أهم الكتب التي دوَّنها اليهود.
كان ابن ميمون قد تلقَّى العلم على يد ثلاثةٍ من العلماء المسلمين، فتلقَّى مباشرةً من ابن الأفلح ومن أحد تلاميذ ابن الصائغ .. وتلقى من ابن رشد بشكلٍ غير مباشر ، حين عكف ـ كما يذكر ابن ميمون نفسه ـ على دراسة مؤلفات ابن رشد طيلة ثلاثة عشر سنة.
وحين ألَّف إسرائيل ولفنسون كتابه موسى بن ميمون حياته ومصنفاته وهو الكتابُ المنشور بالعربية في القاهرة سنـة 1936 كتب الشيخ مصطفى عبد الرزاق مقدمة الكتاب فقال فيها : إن موسى ابن ميمون يعدُّ من الفلاسفة المسلمين! ثم ذكر العديد من الأدلة المؤيدة لذلك .. وفى مقدمة تحقيقه لكتاب " دلالة الحائرين" يقول حسين آتاي: إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الشهرستانى قد عدَّ حنين بن إسحاق النصراني ، فيلسوفاً إسلاميّاً ؛ فإنه لا وجهَ للتفرقة بينه وبين موسى بن ميمون الإسرائيلي .. وكما يعتبر الفلاسفة اليهود المشاركين في الفلسفة الغربية ـ يقصد أمثال: اسبينوزا وكارل ماركس وبرجسون ـ في بلاد الغرب ، فلاسفةً غربيين؛ فإن الفلاسفة اليهود والنصارى الذين شاركوا في الفلسفة الإسلامية وعاشوا في العالم الإسلامي آنذاك يعتبرون فلاسفةً إسلاميين، فمحمد أبو بكر بن زكريا الرازي مع أنه كان لا يعتنق ديناً ما، فقد اعتُبر من بين فلاسفة المسلمين. وعلى ذلك، فالفلاسفة أمثال موسى بن ميمون لا يعتبرون فلاسفةً من ناحية الشكل فحسب، لمجرد انتسابهم للمجتمع الإسلامي، بل لمشاركتهم في ثقافةِ ذلك المجتمع أيضاً، لذلك فموسى بن ميمون فيلسوف إسلامي من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع، لأنه نشأ في ذلك المناخ الفكري، فساهم فيه وأضاف إليه بقدر ما أخذ منه . وقولنا إنه فيلسوفٌ إسلامي، لا يعنى أننا نرمى إلى القول بأنه مسلمٌ آمن بالإسلام ديناً ـ كان موسى بن ميمون قد أشهر إسلامه وهو في المغرب ثم ارتد في مصرـ بل هو فيلسوفٌ إسلامي بالمعنى الثقافي الحضاري فحسب .. والدارس للثقافة الإسلامية ولا يزال الكلام هنا للدكتور آتاى حين يقرأ كتابه "دلالة الحائرين" يرى أن موسى بن ميمون حتى في مناقشاته لنصوص التوراة، إنما يصدر عن فكرٍ وثقافةٍ إسلامية، وأنه عندما ينتقد المتكلمين المسلمين يكون نقدُه لهم بأسلوبٍ خالٍ من الشدة التي ينتقد بها المتكلمون المسلمون بعضهم بعضاً، وأنه ينقد بني دينه بشكلٍ أشد .. إذن، فأبن ميمون يُعتبر فيلسوفاً إسلاميّاً.
ـ ولكنك يا محمد تعرف أن ابن ميمون كتب في الإسرائيليات، وكنت قبل سنوات قليلة ترفض الاعتراف بمفكرين مسلمين، الآن أجدك تنفتح على ابن ميمون ؟! لست معترضاً ولكنني أراقب تغيّراتك...ما مناسبةُ الحديث عن ابن ميمون ؟!
ـ لا شيء...أردت أن تعرف أنني لست متعصباً..منذ لقائنا الماضي وأنت تتربص بي يا إبراهيم..أحاول أن أستعيد صداقتك وأنت تبحث عن أخطاء وشكوك وظنون....كان بإمكاني تجاهل علاقتنا ونسيان تلك الأيام....
ـ إذاً أنت تعتبر نفسك قد بذلت جهداً كبيراً من أجل صداقتنا ؟! يا أخي أنا أعفيك من هدر هذا الجهد...لا مشكلة..أنا ماشي...
ـ لحظة..لا تزعل ...لم أقصد ...خلاص ..ولكن حاول أن تفهمني أرجوك..أنا أؤسس لفكرٍ دعويٍّ جديد!!....

* * *

لا أفهم لماذا يحاول محمد شوق نيازي التقرّب مني، بعد لقائنا الأول الجديد، أخذ يتصل بي ويدعوني كل مرة للعشاء ولتدخين الأركيلة في مناطق مختلفة من المدينة، وكان لا يظهر إلا في الليل ..في النهار يكون نائماً...ولا أعرف متى كان يصلّي بأتباعه ...أو حتى متى كان يصلّي أصلاً ..كان مصرّاً على أن نلتقي باستمرار ...ويسترسل بإلقاء محاضراته عليّ وكأنه يكتب أو يقرأ من كتاب ...

* * *

(ـ ماذا يعني لكَ يا مومو أن تكون يهودياً؟
ـ حسناً، لا أعرف.. إنه يعني بالنسبة لأبي أن تكون مكتئباً طوال النهار.. أما بالنسبة لي. . . فهو مجرد شيء يمنعني من أن أكون أي شئ آخر.)
ـ هذه محاورة بين إبراهيم ومومو من رواية السيد إبراهيم وأزهار القرآن لإيريك إيمانويل شميت.... يا سيّد إبراهيم ..
ـ هل قرأتِ الرواية ؟!
ـ نعم ..قرأتُها ...وشاهدتُ الفيلم أيضاً ...
ـ أنت تسحرينني ...
ـ أذكّركَ بأحدٍ ما ...صديقة قديمة مثلاً .
ـ ......ربما ....لا ..لا أعتقد ...
ـ بلى ..أشعر بذلك ...أنتَ تغازلني وكأننا نعرف بعضنا البعض مذ زمن طويل ...
ـ أنتِ جذابة ...وبتُّ أشعر أنه من أصول اللياقة أن أغازلكِ...هذا حقّ للجميلات ...
ـ عموماً ...انهضْ ...يجب أن نذهب إلى موعدنا ..ألم نتأخر ؟
ـ فعلاً ...لم يبق سوى نصف ساعة ...أرجو ألا يكون الطريق مزدحماً ..
ـ يلّلا قوم ...غازلني عالطريق ...

* * *



ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.08914 seconds with 11 queries