عرض مشاركة واحدة
قديم 19/09/2009   #1
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي يوميات يهودي من دمشق (رواية)


يوميات يهودي من دمشق

الكاتب: ابراهيم الجبين

( لتحميل الكتاب كاملا ً .. إضغط هنا
)

هذه الرواية تستند إلى أحداث وشخصيات حقيقية..بعض الأسماء تم تغييرها لضرورات تتعلق بسلامة أصحابها.

(كُتبتْ هذه الصفحات في كلّ من دمشق وحلب وسياتل و نيويورك)


1.


لم تكن تلك الأرض تعني لي الكثير، ولكنهم يتحدثون عنها في البيت، وفي مكان الصلاة، وفي نشرة الأخبار، ليس مهماً الآن استعادة تلك اللحظات، وكيف تم اكتشاف أن هذه الأرض لها معنى آخر غير كونها شوارع وبيوت وحارات وأبنية مغبرة وأيضاً مبان حكومية وأماكن للفسحة والنزهات أو ما كان يسميه أهلي (سيران)
في السيران كنا نخرج إلى المناطق المحيطة بالمدينة، وكنت على الأغلب أشعر بالملل، لم أتعود على مغادرة الأماكن الحجرية، وحين يذهب أبي إلى مشغله، في القشلة، كنت أرافقه وأنا مليء بالإحساس بأنني سائح فأنا الآن أبتعد عن الحارة، وأذهب في مغامرة إلى القشلة رغم أن المسافة لم تكن تزيد عن مئتي متر فقط، ولكنها كانت تعني عبور الحدود وتلك الحدود التي لم تكن مرئية كانت أكثر من مرئية وثقيلة وحادة، الحدود التي تفصل بين الأحياء المسيحية وحارة اليهود حيث نسكن.

الآن مضى كل ذلك وذهب الجميع في سيرانهم الجديد إلى البعيد، وانفتحت الحارة وأصبح كل شيء مختلفاً، وبقيت وحدي مع هاتين الآنستين الخمسينيتين، شقيقتي زينب وراحيل، قد يندهش البعض من أن أختي الكبرى اسمها زينب، أما أنا فلا أجد الأمر غريباً، فأبي لم يكن يكترث إذا كان اسم أحد أبنائه الأربعة عبرانياً أم لا، وإذا ما كان الاسم يحمل دلالات آتية من الديانتين الأخريين، كان يهمه فقط أن يكون الاسم ملائماً للوقت وقد كان وقتها يعمل لصالح أحد التجار الدمشقيين الذين يمتون إلينا بصلة قرابة لم أعرف كيف وقتها، فهم مسلمون سنة ونحن يهود موسويون كما يسموننا، عرفت فيما بعد أن أقاربنا هؤلاء قد فضلوا التحول إلى الإسلام لأسبابهم التي قال أبي إنها تخصهم ولم يطلعنا عليها، وكان هذا التاجر قد بدأ يصبح شيخاً مسلماً وقرر التبرع بقسط كبير من أمواله الهائلة لبناء جامع باسمه قرب باب توما، وكانت ابنته الكبرى اسمها زينب ـوهو الاسم الذي سمى به محمد رسول المسلمين ابنتهـ كان أبي قريباً من الرجل ويساهم معه في كافة نشاطاته، ولذلك قرر أن يكرّم زينب بنت الشيخ الجديد بأن يسمي ابنته على اسمها.

لا أعرف لماذا أحدثك عن أمور كهذه، هل تعتقد أننا صرنا أصدقاء كفاية حتى أفتح لك صدري وأبوح لك بأسراري الخاصة؟ لا أعرف على كل حال أنا الذي جئت إليك وطلبت أن نتحدث.

* *



لست الوحيد الذي لديه أصدقاء غريبو الأطوار، هناك أيضاً من يحس بأنه يرافق أناساً مختلفين أو لهم علامات فارقة. ولكن هذا الصديق ليس عادياً وليس غريب الأطوار ـقد أكون أنا كذلك ولهذا أراه مختلفاًـ جاء إلي وأنا في المقهى، وكنت وقتها في أسوأ أحوالي والعواصف تشتد من حول كتفي، أفكر بما أفعل وبما لم أفعل، كنت أقصف كسعفة، في الخارج خلف زجاج المقهى كان الثلج يندفع بخفة من الجنوب من جهة البرلمان إلى عمق شارع العابد، يقترب من طاولتي شاب أشقر بثياب عادية، أقل أناقة قليلاً مما توحي ملامحه، يشبه سريان الجزيرة السورية، ولكنه ليس سرياناً هذا واضح من التفاصيل غير الدقيقة في وجهه، فالسريان طالما تميزوا بوجوه محفورة وملونة بدماء كثيرة تتحرك تحت جلودهم. هذا الشاب مختلف، ولكن من هو؟

* * *

قال أبي إننا يجب أن نرحل فوراً فقد سمح لنا الرئيس بالسفر أخيراً ولكنْ هناك شرط وحيد، وهو ألا نفكر بالعودة ثانية إلى هنا، ماذا أفعل؟.. لا أريد الرحيل... وأبي يحقق حلمه القديم والأزلي بالذهاب إلى هناك وأخذ يعد العدة للسفر واتفق بسرعة مع أحد التجار على أن يبيعه أثاث البيت، زينب لم تناقشه، تريد فقط أن تذهب إلى هناك كي تتزوج رغم أنها تجاوزت الأربعين بعدة سنوات تكتمها دائماً، راحيل مثلي تحب البقاء هنا، ربما ما زالت تنتظر عودة صديقها المسيحي الذي ذهب إلى الحرب في العام 1967 ولم يعد، كان نجيب أكثر شبان الحارة زعرنة وقلة أدب..وكنت وقتها لا أزال طفلاً ولكنني أعرفه وأتذكر كيف أنه ذهب مرغماً إلى التجنيد والجبهة ولا أعتقد أنه مات شهيداً فداء لوطنه وأرضه، كان يجب أن تفكر راحيل بالسفر إلى هناك للبحث عنه بدلاً من زينب، فمن المؤكد أنه بقي هناك ويحمل الآن جواز سفر الدولة.

أنا لا أريد السفر لأنني لا أعرف لماذا علي أن أسافر، قد تظن أنني أكثر تطرفاً من أهلي ولكن هذه هي الحقيقة، هنا وهناك مكان واحد يا إبراهيم، يقولون أرض مقدسة هناك، ولكن هل هذه الأرض ليست مقدسة أيضاً؟

اسمع...يصف الصوفيون اليهود قدر إيليا وأخنوخ اللاحق في السماء بطريقة خيالية، ففي حين تلتهم النار جسد أخنوخ ويتحول هو ذاته إلى الملاك الأعلى ميتاترون، يحافظ إيليا بعد صعوده على ارتباطه بالعالم البشري، حيث يمكنه الظهور على الأرض،إذا كان ذلك ضروريا.إن جسده لم يشكّل من تراب الأرض كبقية الكائنات البشرية، بل جاء من شجرة الحياة، وقد مكّنه هذا من تنفيذ أوامر الله ومعجزاته.. هكذا.. ألم تنتبه إلى أن إيليا لم يكن يوماً من الأرض؟ بل هو من شجرة الحياة وبالتالي فإن أي أرض هي مقدسة عنده، لأنها ارتباطه بالعالم البشري الذي على معجزاته أن تظهر فيه... ليس لديّ أرض مقدسة دون سواها.. كل الأرض ملك للآتي من شجرة الحياة.

* * *

مذهل كيف يفكر هذا الأشقر...ولكنني لا أعرف بعد..أتوقع أنه يفكر بطريقة غرائبية أيضاً، مازال يقترب، لعله لا يقصدني..يجب أن لا أحدّق به أهكذا ..ماذا لو كان يتجه نحو ذاك الذي يلعب بالزهر مع العجوز العراقي، لا أحب هذا العجوز يقول إنه كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث في العراق وأنه اختلف مع صدام حسين يوم أن قال لهم صدام ( قسماً بالله..اللي أسمعه همساً يحكي ويّا مواطن عراقي..أو بعثي..إلا أطرّه بإيدي أربع وصل....يلا اطلعو..لعنة الله على هالشوارب) وكان أعضاء القيادة في طريقهم إلى الإعدام لولا أنه تمكن من الفرار بطريقة ما بواسطة أحد أقاربه، وجاء إلى البعث الآخر حيث سيستضيفونه هنا ويخصصون له الكثير من الخدمات. بيت وسيارة ودخل شهري مغدق. وهو الآن لا يريد العودة إلى العراق مع أن صدام قضى الوقت وهو يفكّر في كتابة مذكراته في السجن الأميركي، قبل إعدامه، وانتهى عهده وسقطت جمهورية الخوف التي صنعها. لماذا لا يريد العودة ؟! لا أفهم كيف أترك أفكاري أحياناً تسترسل وتتسلسل..
ما همّني أنا، عاد أم لم يعد..؟

لا شك أن الفتى الأشقر يقترب مني أنا، حتى أنه يبتسم وكأن في فمه كلاماً يكاد يسبق وصوله إليّ. كيف يمكن أن أترجم أفكاري المختلطة حول إنسانية أنك تخاف من اقتراب أحد منك؟ لا مشكلة في من يكون، ولكن في أن يكون هنا الآن.

أحياناً تشعر أنك لا تطيق أن يلمسك أحد، وكأنك لا تريد أن يوقظك أحد من كآبتك، مع أنني لا أرغب بالاستغراق في الكآبة.

لأعد إلى ورقتي ..كنت أكتب عن بيروت ...وعن بحر بيروت ..لم أستطع تحمل الحياة هناك، كان يسيطر علي شعور باليأس وعدم الإدراك لكل شيء..
حتى الماء في بيروت كان مختلفاً، والخضار والهواء والأصدقاء.. كنت أقول:
كتابة على بحر بيروت ....
لماذا لم أكتب شيئاً في بيروت ؟!
ولمَ تجعلني الأبنية القديمة في دوامة كما يفعل بي النهر ؟!
ما أكتبه في بيروت
عن بيروت ...
ليس عن بيروت ؟
لا ليس عن المدينة ولا سكانها الذين اعتادوا صخب السنوات والكلام الدائخ كمركب رامبو .....والفكرة التالية في حوارٍ مديد ...
لا تكتب في بيروت ...!!
كيف لا أكتب في بيروت ؟!
ولكن كيف أكتب في بيروت ؟!
يدخل البحر دورته الزرقاء والخضراء ...على المقهى تجلس البدوية في ثياب حديثة ..تنظر إلي كمن يكتشف قرينه الناري....لم أتحدث معها...أدرت عيني إلى البحر ....
والبحر يأتي بالكلام القديم ....خشب رطب مالح ما زال ينتظر من يحمله إلى المتحف ...متحف الحرب ...ومتحف الناجين...
الناجون من الحرب هم الأحياء الآن....وهم أبناء القتلة...ولكنهم لا خيار لهم سوى القتل وقتها ..والانجذاب نحو الصدف المرمي في رمل الشاطئ....
يظهر البحر في المنحنى الأرضي ....تراه من الأشرفية كما تراه من خلف النهر....تراه من فردان ...وتراه من الرملة البيضاء...تراه من الحمرا....تراه من دمشق أيضاً....
ماذا يفعلون في بيروت ....سألتُ أصحابي ...لم أعثر على أحد يفعل شيئاً .... جميعهم يعيشون باضطرار ولكن في حياتهم اشتياق إلى الحرب ....دون بنادق ولا قذائف ولا متاريس ....حرب في الرقص والموسيقى وحرب في الفراش وفي الشراب ...
على البار القريب ...كأس فودكا ...تسير لوحدها على الخشب الرخامي ....من اليمين إلى اليسار ... صورة للحلاج ....كان يحترق من يومها في بيته في الحمرا ...
صورة لزياد رحباني ... صورة لهيفا وهبي .... وهراير ... صورة لسامر أبو هواش ....الفلسطيني الرقيق ....الذي لا يتحدث عن الثورة .,..يفضل التحدث عن ابنه إسماعيل ...أو عن ضياء ....أو عن الترجمة ...
في المدى التي لا تراه العين ...أصلع بشاربين ...وصوت ضاحك ....عباس بيضون ....يعرف أنني لن أنجح في رحلتي ...ولكنه يتكلم وكأنني صرت على الحد الذي يفصل آخر مفرزة للسوريين عن الأرواح السجينة ....
ولكن أين سفن البحر ...؟
لا المرفأ يشبه الذي حدثوني عنه ولا مينا الصيادين ....وأين مبنى السفير ...؟
هل هذه بيروت ؟!
هناك ما ينطمر في غبار الحداثة الجديدة ...؟
بسام حجار ويوسف بزي أحياء .....
كنت مطارداً ...والأرواح السوداء تلاحقني .... كتبت (نهاية التاريخ السوري) في ملحق النهار ....لم أشعر أنني خارج الأرض التي تلاحقني ....معي ورق ينبغي أن لا يراه أحد ...
لا شيء في بيروت يذكّرني بأنني خرجت من حدود الراية الحمقاء للعنف...
ولا شيء سيقول لي كيف أصنع ؟!
أين بيت سعدي يوسف الذي أكلته الكوليرا ...؟!
وأين مطبعة أبو علي التي زرتها قبل سنوات ؟!
أين الطريق التي مرّ منها جورج حاوي بعد عودته من زيارة غيفارا ؟!
هل أنا في بيروت ؟!
لا لست هنا ؟!
حين يضرب الشريط الشوكي الذي تهزه الريح بطرف قميصي ، التفت إلى الخلف ....ماذا يوجد في الخلف سوى المفرزة ؟!
والمفرزة لا يجلس فيها سوى الآتين من بلادنا الموصدة ....
هل أنا في بيروت ؟!
لستُ في أي مكان الآن ...
أصعد إلى الطابق السابع في برج حمود ...حيث أسكن على أنني لبناني .....عبرت الحدود بالرشوة ...ولكنهم سوف يعرفون ...وسيصلون إلى الطابق السابع حيث أسكن على أنني لبناني ....يحاصرني شهود يهوه ورئيستهم التي تحيك الثياب بإبرتها المقدسة ، أنت من عند قرياقوس ...مطران المسلمين ؟! نعم من عند قرياقوس ...
.ولكنه ليس مطراناً لأحد !!!
أنت تقرأ بالعبرانية ؟!
اقرأ بالسريانية ...
أنت ...
أنت ...
وفي الأعلى ..أتفقد المبنى القديم في برج حمود ...هناك بقايا من سنوات الحرب ...صندوق رصاص ...وجمجمة طائر ....وكتباً لشخص ما يبدو أنه من القوميين السوريين ....
لم يكن لدي وقت لأتحسّس نفسي ...هل أنا هنا ؟
(إنهم في الثكنة القديمة في الأشرفية ) هل تحضر اجتماعاتنا ؟...
وماذا تفعلون ؟!
نقرأ سيرة المنتظر ....
ومن تنتظرون ؟....
لا يجيبون ....
وماذا عليّ أن أفعل أنا ؟
ستكتب عن بيروت ....
لم اشعر أنني هنا ....
لن تشعر ...أنت في الطبقة السفلية من المدينة ....
هل تتقن أي شيء ...؟
لاشيء ...!!
حسناً سنقول إنك تتقن أشياء كثيرة .......
ما هي المشكلة ؟
لا مشكلة ...
إذاً ؟
عادت الطيور إلى السطح الذي أسكنه على أنني لبناني ، لم يكن صاحب البيت ليقبل بي لو عرف أنني من دمشق ....ولكنه سيحدثني عن المعمودية ...إذاً ليتحدث ...هناك الكثير ...وسيتحدث عن الذين احتجزوا ولده يوماً ولم يعد إليه ...وسيتحدث عن بيته الذي سأسكنه وكيف أنهم سيطروا عليه لسنوات ........
ماذا أفعل ؟!
هل أعود إلى دمشق ؟!
ستطاردني الأرواح السوداء ....
وسأترك زوجتي وطفلتي في مهب الرياح الشريرة ...
ريح من شر تهب من دمشق ......
ولكنني لا أعرف كيف أصنع ...هل انتظر معهم ذاك الذي ينتظرونه ؟!
أجلس وحيداً مع البحر ....تراني المراكب التي لا أراها ...
وتراني سلطعوناتٌ ، وكائناتُ ليلٍ ....
أجلس وحيداً مع البحر ...
أنظر في الكأس .... نوستراداموس ...ماذا تفعل هنا ؟
تركتك في دمشق ...
ولو أنك تتركني ...
ولو أن شيئاً يترصّدك في بيروت ...ستعرف أنني رأيت ما رأيت
هل أنت في المدينة التي تعرف ؟
لا ...
يتوقف البحر ..
والسلطعونات ترجع خطوة عن زحفها ....كانت تقترب مني ....
وكائنات الليل تصمت ...
وبيروت ترحل إلى مكانها في الغيب ....
في الغيب الأزرق
في الغيب السماوي

* *



ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)

آخر تعديل butterfly يوم 27/09/2009 في 17:24.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.11109 seconds with 11 queries