عرض مشاركة واحدة
قديم 19/09/2009   #12
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي


في الطريق إلى دير الملائكة في الجبال، حيث الثلج يصل إلى ارتفاع أكثر من متر وربع المتر.. ستسألني راحيل وزينب وإخاد ألف مرة.. لماذا نذهب إلى هناك ؟...ولن أجيب.. سأقول إن هناك ما أريد منهم جميعاً أن يروه.

* * *

غرفة حجرية منعزلة.. الطريق إليها يلتفّ بين المنحنيات الصخرية، وتحجبها الكتل أحياناً، وأحياناً أخرى تظهر عاريةً ككهف قديم.. بابها من خشب المشمش الذي حفره الرهبان بأزاميل الإيمان والمكابدة والزهد،تكاد شمس العصر تميل إلى الغرب أكثر.. أراها أفضلَ من أي وقت مضى على هذا المرتفع الثلجي... والثلج يشعّ ببياض لا يشبه شيئاً..
لا وسيلةَ سوى البغال يمكنها أن تحملنا إلى الأعلى...والثلاثةُ بصبر مفاجئ لي شخصياً..يمتطون تلك الصهوات المتهالكة... وينظرون إلى ما لا يراه الآخرون.
كادت أصوات حوافر البغال تصل إلى الغرفة التي لم تعد تبعد أكثر من عشرين خطوة... والباب المشمشي ينفتح بصريره العميق.. كأنه تنّفس بحّارٍ منهك، يجلس في حانة يخنقها الدخان في آخر العالم.
يظهر الطيفُ الأسود من خلف الباب، خلفه سوادٌ... وصخر وثلج...إنه الأب نجيب سركيس مقدسي.... المتوحّد والمعتزل في هذه الغرفة القديمة، منذ عودته بعد سنة 67 من أرض الرب والحرب والخراب.

* * *

لوهلة ظننت أنني إبراهيم الخليل ..وأنا أسيرُ وخلفي هذا القفلُ العبراني..أعبر بهم سراةَ عسيرٍ... واليردن... لكنني أفقتُ من ذلك الوهم...وعدتُ إلى المشهد بسرعة.

* *

ـ ما رأيكَ بالتغييرات؟!
ـ رائعة... كيف تمكنت من فعل ذلك بهذه السرعة؟
ـ لا تستهنْ بإمكانياتي... حفنةٌ من الليرات تأتي بحفنةٍ من الخبراء..ويصبح الإنسان على هذه الصورة..ليس الأمر معقداً..
ـ حتى أنني لم أعرفك للوهلة الأولى..
ـ هه ...نعم ...مع أنك صاحب الفكرة... الآن.. ماذا تشرب ؟..
ـ آآ ..شاي ..
ـ شاي...
ويشير إلى الرجل الذي يقف خلفه كظلّ حي.. فيذهب الأخير إلى حيث يجبُ أن يذهب.. ونبقى وحيدين.. أنا ورجلي الجديد...

* * *

نور لديها الكثير من النمش على صدرها الواسع... وهو يزداد أكثر كلما ذهبت للسباحة.. وهي تسبح كلّ يوم... في أقصى درجات الحرارة انخفاضاً... وتلعب اللعبة التي طالما سحرتني... الرقص في الماء ..
اليوم قدّمت لي الدعوة لشرب الفودكا في أحد المسابح الشتوية للمدينة، مياه دافئة... وتيارات صناعية.. ولا أحد سواي... أنا الذي أرتدي السواد بثياب ثقيلة... وحذاء من جلد الجاموس، جلبه لي أحد الأصدقاء من البرازيل.. وطاولة صغيرة معدنية، وغطاء أزرق ..وآلةُ (ووكمان) تدوّر أسطوانة موسيقى... ومنفضة.. وكأس من الزجاج الدمشقي الأزرق..أعرف من يصنعه ..أبو أحمد في باب شرقي.. وفودكا نقيّة بورزوي.. إنجليزية... مازالت رائحة سنابل القمح تنبعث من فوهة قنينتها...
على بعد مترين من الرجل الذي هو أنا، والذي يلفّ ساقاً على ساق..تبدأ بركة السباحة ذات الألوان الزجاجية أيضاً.. أزرق وكحلي.. وأخضر...وذهبي... ونور التي ترقص في الماء.. لا أرى رأسها.. تسبح بالمقلوب.. وساقاها تصنعان الزوايا مع الهواء.. وتدوران في الماء.. وفوقه..ثم تختفيان.. ثم تنقلبان.. دون أن يظهر الشعر المبلل بزيت وماء...
مع موسيقى شومان... والفراشات.. تتسارع حركات الفتاة الذهبية..ودورانها المدهش والإيقاعي.. تقف مع سكتات الآلات... والمياه من حولها تخفق.. مع الحركة...

* * *

أصبحتُ أكثر سطوة الآن... جميع شخوصي معي في المشي نحو الخاتمة..ولكن بم يختتم الذي يحدث؟! وهو الذي لا توقّف فيه ولا التفاتات... حركة دائمة وتغيّرٌ دائم... لا يمكنك أن تقطع خطاً مستمراً... حتى أنك لا تستطيع التقاط النقطة وهي ملايين النقاط... فهي خط إذاً.. ومن جديد... ولا خيارات لديك سوى الاستمرار.. كفعل مضارع.

* * *

ـ الآن ما هي الخطوة القادمة يا صديقي...
سألني محمد شوق.. وكان يتلهف لسماع الكلمات التي سأتلفظ بها..
ـ ستغيّر نمط حياتك... لم لا تفعل ما هو أحدث...؟..لا... ما هو أكثر من الحداثة.. وجدتها..(ما بعد الحداثة) ... ...ما بعد الحداثة هي المخرج..ماذا لدينا الآن؟..(بوستموديرنيست تيروريست)... هذه هي اللعبة.
ـ شو يعني ؟
ـ يعني الكثير ...أولاً غيّر لي هذا المكان الموحش...
ـ ولكن أنت تعرف.. حركتي هذه الأيام يجب أن تكون مدروسة... ولا يمكنني الظهور في الأماكن العامة دون حسابات...و..
ـ إلى مرمر ...
ـ مرمر؟
ـ بوب..ومشرب ومرقص في دمشق القديمة...
ـ ولكن.. آآآ.. لحظة..
كنتُ قد نهضتُ ولم يعد لديه مجال للمناقشة والاعتراض...

* * *

الأب نجيب سركيس... وقد أصبح بديناً وطيباً.. وبلحية بيضاء.. وثوب متقشف... وحبل يربطه حول خصره، لا يأكل إلا من صنع يديه..ويشرب النبيذ فقط في الصلاة... لا يمدّ يده إلى الكهرباء وأزرارها.. يوقد شموعه للعذراء والمسيح... وينام على مصطبة من حجر، عليها غطاء خفيف دون فراش.. أمامها طاولة من الخشب القديم.. ملأ الشحم شقوقها واسودّت مساميرها حتى صارت مثل مسامير صليب يسوع العتيقة.
حين رأت راحيل هذا الشبح الواقف بوداعة وسلام.... لم تتغيّر تعابير وجهها.. والعضلات التي تشد الجلد ظلت تشده بالقسوة ذاتها..
إخاد وزينب شهقا، دون أن يفتحا شفاههما... شهقا من الأعماق اليهودية، شهقا من كل ذرّات التراب المقدس...
فقط عينا راحيل أخذت تجوب المتر والستين سنتمتراً التي يحتلها الراهب من هذا الكون... تتفحّص كل ما ظنت به من ظنون.. تتفحص كلّ ليلة حلمتْ بعناقه والنوم معه... وتنشّق رائحته.... تتفحص مَن أرادت أن تبقى معه في أي مكان، وآمنت أن الأرض المقدسة هي الأرض التي تضمّه.
وهو لا يتوقف عن الابتسام و النظر بعينين تبشيريتين... حتى كدتُ أرى الحلقة المضيئة تدور فوق رأسه كما ترسم الأيقوناتُ القديسين.
كان هذا عندما كنا في الخارج، قبل أن ندخل الغرفة الحجرية.. حيث طاولة المسامير والشحم... وحيث كوّةٌ في عمق الغرفة يرتفع فيها صليب من نحاس عليه الفتى الذي قيل له يوماً، هل أنت قلت أنا ملك اليهود؟ فأجاب دون تردد ..أنا هو ...ولكنه كان قد سأل تلاميذه الإثني عشر قبل ساعات من ذلك ..سؤالاً سيبقى يتردّد إلى الأبد:
(من تظنون أنّه أنا ؟)

* * *

لحظة ...وآخذ بيدكِ من كل هذا التعب
أعودُ إلى الشمس التي تشرق فوق جلستنا ..
وإلى الزغب الأشقر خلف رقبتكِ ..
إلى زهور برية, على دفترك.. وعلى فستانكِ..
لحظة... وأعود معكِ..
ولكنني لا أعود أبداً إليكِ.

* * *

في مرمر سيكون منذر مالك المكان في استقبالي.. والضوء المتكسّر كأجساد الراقصين.. والبار الخشبي... والحيطان الخضراء.. والسلكان الكهربائيان العاريان الذين يمتدان في هواء مرمر.. بتحدٍّ لكل من يشرد لحظة عن مغازلة جارته... أو تدوير قطعة الثلج في كأسه... أو الغرق مع الـ (دي جي) الذي يضجّ بموسيقاه المكان ومن فيه...
خلفي يدخل محمد شوق.... وكأنه يدخل الدركَ الأسفل من النار، صبايا وشباب، نساء ومفاتن، ولكنه لا يقطّب حاجبيه... أراقبه جيداً..
نجلس حول أقرب طاولة... وحدنا... طلبت منه أن يُبقي المرافقَ في الخارج، ولكنني انتبهت إلى أن نبضه يتسارع، فقد بدأت قطرات العرق، تنزّ من جبهته.. وأخذ يوسّع قليلاً من دائرة ربطة عنقه حول ياقة القميص.
يأتي النادل.. أشير إليه بأن يحضر البيرة... فيسرع إلى وضع قنينتين ، عاتمتين وقصيرتين ومثلجتين، على الطاولة ...يستنكر محمد شوق بهدوء.. دون أن ينتبه إليه أحد... ولكنني أتجاهل استنكاره..
وأصبّ له من القنينة، في كأس عملاقة، وأتعمّد جعل الرغوة تتصاعد وتتصاعد من الكأس حتى تنسكب على سطح الطاولة..
هذا الرجل مندهشٌ تماماً الآن... ولا يعرف كيف يتصرف.. ولكنه ذكي، ويحافظ على رباطة جأشه وهدوئه، حتى لا ينتبه إلى ارتباكه أحد.
ومضى الوقت ونحن ننجدلُ مع الإيقاع والضوء.. وحركة الأجساد... لم نتحدث.. ولو تحدثنا لما سمع أحد منا ما يقوله الآخر.

* * *

اليوم يبدأ الشتاء الفعلي.. نحن في اليوم الأول من النصف الثاني من كانون الأول.. والخريف ينتهي، لا ورق أصفر أو أحمر، بعدُ في المدينة ولا على مشارفها.. لا زوابع.. ولا شمس حمراء تغرق في الغيوم...
الطير تسكن في الشقوق الخافية، والأصوات تصل في الليل... (كل ليلة وكل يوم ...أسهر لبكرا ..بانتظارك يا حبيبي ... يا حبيبي )
تمشي في ليل المدينة القديمة... رائحة العرق... في الأحياء المسيحية.. ورائحة البخور في الأحياء المسلمة ...رائحة الصمت في حارات اليهود..
(يا ترى ...يا وحشني ... بتفكر في مين ...وعامل إيه الشوق معاك ...وعامل إيه ويّا الحنين...)
الحب والوحشية... يرتبطان هنا.. في نقطة من هذا المكان.. تحت الأرض أو فوقها.. أو في شرخ بين صخرتين من جدار عتيق... العنف والشهوة..الحنين والنفور ...الضجيج والصمت ... الكلام والكتابة..الجنس والقتل ...الإرهاب والطيور ...والمياه الباردة المتفجرة من عروق دمشق.. ولهيب البشر ...
أصوات خافتةٌ من كل مكان.. ولكنك لا تسمع سوى صوت كعبكَ الخشبي..كعب الحذاء البرازيلي.. الذي يمشي على الحجر الأسود..

* * *

ـ أبونا... سنترككما قليلاً ..
ـ هذا أفضل ..
ونخرج أنا وزينب وإخاد... نمشي على الثلج هذه المرة، ونتجنّب الممرات الصخرية في أعلى الجبل... نعرف أن راحيل الآن في وضع لا تحسد عليه..كيف ستكلّم الراهب ؟.. وماذا ستقول له؟ وهل ستحاول لمس أصابع يده؟ هل سيتعانقان؟ هل ستجد من الكلمات ما يجعلها تتجرأ على سؤاله لماذا اختفى طيلة العقود الماضية ؟ ومادام في البلاد...لمَ لمْ يحاول الاتصال بها ؟...
إخاد شارد وزينب في تجهمها المعتاد... وأنا أسير على الثلج كريح خفيفة.. لم أكن أصدّق أن خطواتي لا تترك آثاراً على الثلج حين أسير عليه... انشغلتُ بالنظر إلى الخلف طيلة الوقت.. كي أرى.. هل فعلاً لا تترك خطواتي آثاراً وحفراً صغيرة على مسارٍ يتبعني؟..

* * *



ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06639 seconds with 11 queries