عرض مشاركة واحدة
قديم 19/09/2009   #3
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي


مشينا أنا وإخاد ثلاثة أميال من شارع العابد حتى باب توما، لم يقل إلى أين سنذهب ولم يقل أيضاً أنه يدعوني إلى أي مكان..وأنا لم أتجرأ على دعوته بالخمسين ليرة التي في جيبي، كان صامتاً معظم الوقت، ولكنه كان حاضراً إلى جانبي، ولم أعرف إذا كان علي وقتها أن أبدأ بفتح الموضوع الذي جاء من أجله أم لا..فاخترت أن أتحدث عن شارع بغداد وعن بيتي هناك في الديوانية أيام كنت أسكن على بعد أمتار من الطريق في بيت قديم في وسطه بركة ماء وتملؤه البرودة، كان سريري تحت النافذة التي تطل على حارة فرعية ضيقة، وكنت أستيقظ كل صباح وأنا أظن أنني نائم على الشاطئ، هواء تلك النافذة يحمل معه صوت الموج وريح البحر مع أنها تتجه نحو الشمال لا نحو الجنوب.
المهم أن إخاد لم يفتح معي أية مواضيع ولكنه كان يمشي بهمة من يعرف أنه متجه نحو هدف واحد محدد، وصلنا الآن إلى ساحة التحرير حيث تقف الأعمدة الحجرية ذات العقد التي تنتصب كمسلات لا فراعنة لها، أمام مبنى كلية الفنون الجميلة الذي حولوه إلى مبنى رسمي يشرف على العلاقات السورية اللبنانية، أعمدة بلا أي معنى توحي بأن الناس في هذه المدينة يقضون وقتهم، وقتاً واقفاً كتلك المجسمات البلهاء.
انحرفنا يميناً نحو نوبار بائع الخبز، لم أكن جائعاً تماماً،لكن تذكرت أنني كلما مررت منه هنا عادة أكون في آخر لحظات الصبر على المعدة الخاوية رغم أني لا آكل كثيراً عادة إلا عندما أعمل، يتملكني الشعور بالرغبة في إشغال معدتي بأشياء تلهيها عن بث الإشارات إلى الدماغ.
وسط ساحة باب توما، أمام القوس الوحيد والموحش، الذي كان باباً ذات يوم ولكنه الآن لا وظيفة له سوى انتظار المزيد من التخريب الذي يحوم حوله كل لحظة، تدور حول الباب، وتعبر من تحته، ولا شيء يفضي إليه الباب، سوى دمشق، تُختصر في باب توما خاصرة المدينة التي انفتحت على الفراغ.
في القشلة على الحجر المرصوف على شكل طريق طويلة ومنحنية، كمسار سهم يلتف ليدخل حارة اليهود، تكلم إخاد أخيراً، يريد أن يقول شيئاً، كنت أشعر به، ولكنه لم يتكلم طيلة المشوار، الآن تكلم وطلب إلي أن أختار بين الجلوس في مقهى قديم في المنطقة أو الذهاب إلى بيته.

* *

لا شيء....
أجلس وحيداً في الليل مثل نوستراداموس، أرى في الماء وأعرف كيف تتحرك الشخوص من حولي، تقترب الأرواح، لم يكن نوستراداموس يسمح لها بإحداث الضجيج والصخب، كان يسيطر، ولكن أنا كيف أضبط حركة الأرواح؟ لو تعرف يا إبراهيم ماذا حدث حين جرّبت أن أستخرج تعويذة من أحد النواويس القديمة في المقبرة...قد لا تكون مقتنعاً بكلامي، ولكنك لست ملحداً أعرف أن لديك اهتمامات روحانية، ربما لست متديناً، ولكنك لست علمانياً كفاية أليس كذلك ؟!

لا تغضب أنا أمازحك...كنت أقول لو تعرف ماذا حدث لي.. ظهرت إشارات لا يشعر بها أحد قرب الناووس، وسمعت صوت تحريك الحجر الضخم الذي كتب عليه بالعربية والعبرانية، شيء يخرج، نحن لا نؤمن بالمومياء ولكننا ماهرون بالسحر.

ارتعد جسمي وندمت على هذا الدخول غير المشروع، لا أؤمن كثيراً بتلك المهارة ولكنها تحاصرني وتلاحقني كرائحة تعبر من البزورية إلى بيتنا، أنت تعرف بيتنا، ألم تنتبه إلى أنه دائماً يعبق بروائح مختلطة، كأنه قافلة قادمة من الشرق إلى خراسان...

في جلستي أرى كل شيء، لم يكن أبي يشجعني على الاحتكاك بالحاخامات، كان يفضل أن أبقى هكذا دون ثياب سوداء ودون ضفيرتين تتدليان قرب أذنيّ، وحين مات كنت قد رأيت موته في إناء الليل، كنت أعرف أنه سيرحل ولكنني فهمت الإشارة بشكل خاطيء، ظننت أن سفره إلى هناك سيكون موتاً، ولم أعرف أنه سيموت قبل أن يخطو خطوة واحدة خارج دمشق.
راحيل لم تبك أباها، وزينب يئست بصمت من العثور على مرافق إلى هناك، لم يعد لديها من يدخل معها غلالة الحلم الأزرق والأبيض خلف نهر الأردن.

رأيت في الماء، ولم يكن سوى ماءً صافياً لا يخالطه شيء، فقط قرأت عليه الكلمات( بالإيمان رُفعَ أخنوخ لئلا يرى الموت، فلم يجده أحد لأن الله أخذه.وشُهد له قبل رفعه بأن الله قد رضي عنه، وبغير الإيمان يستحيل نيل رضا الله) هذا ما قلته يا إبراهيم، لم أكن أبحث عن أبي في الماء والكلمات ولكن الكلمات عثرت عليه وحدها، ووجدته ميتاً، ورضا الله هو البحث عن تلك الأرض..لم يقتنع أبي بأن كل الأرض ملك للرب وأبنائه الذين يعملون عمل أخنوخ.
أنت مثل أخنوخ ولكنك لست يهودياً، قد تكون يهودياً لا أحد يعرف، ربما كان أحد أجدادك يهودياً، لا يهم، إنسان العالم الجديد يهودي ، حتى دون أن يعرف شيئاً عن الدين ،الأرض ستنفتح على بعضها ونصبح كلنا شعب واحد.

أنت تعتقد أنني واهم، وأحلم بترهات لن تتحقق،ولكن هذا ما سيحدث.

* *

كانت ليندا ترتدي بنطلون جينز بلون أزرق داكن، وفي الأعلى بلوز أبيض خفيف يكشف كتفيها ورقبتها وشريطاً عارياً من بطنها البيضاء المشدودة بهندسة عالية، كانت تحدثني عن تمارين رياضية قاسية تواظب عليها يومياً، وحديد، وجري، وتايكواندو..وغير ذلك..وكنت مهتماً فقط بصوتها الخلاب الذي لا يذكرني بشيء، جديد تماماً، وشهي، ومنعش، لا أعرف الآن ما الذي سيحدث في مدخل البيت..غرقنا في قبلة طويلة، مع أنني ما أزال أسمع أصوات العائلة قريبة من أذني وكأننا نجلس معاً.

بدت وكأنها لن تكتفي بالقبلة الطويلة البنفسجية ـ بنفسجية بلون الروج الذي كانت تضعه ـ بدأت بالتحوّل إلى كائن آخر، ولم أعد أمسك ظهرها من الخلف ويدي لم تعد تتحرك ببطء تحت بلوزها الأبيض.لم يعد لها وزن أو حجم، أحسست أنني وحدي في مدخل البيت.

* * *

أدخلني إخاد إلى حارات اليهود في المدينة، ومشينا في ظلال جدران مائلة، ونوافذ يسترق من خلفها السمع ظلال أخرى، في العتمة داخل البيوت المهجورة.
فوق كل باب رسمت نجمة داود، وكتب تحتها عبارة بالحروف العبرانية، والأبواب كانت موصدة من الخارج بأقفال وسلاسل صدئة، بيوت نزعت شبابيكها وبقيت أقفالها كقوس باب توما، تركها أناس لم يفكروا في تركها للأبد، لابد أنهم عندما رحلوا كانوا ينوون العودة، وربما لم يكن رحيلهم كاملاً.

بين تلك الأطلال، رأيت بيوت الفلسطينيين، وهم جيران لليهود في حاراتهم، لم أفهم لماذا، ولكنهم يسكنون في المكان ذاته وفي بيوت تشبه بيوت اليهود وأطفالهم يلعبون مع أطفال اليهود.

* * *

طلبت مني ليندا أن أساعدها بإدخال الخيط في ثقب الإبرة، ظننتها تشير إلى أمرٍ ما في نفسها، ولكنها كانت تتحدث بجدية، (أرجوك...لا أستطيع فعل ذلك اليوم...) ولكن لماذا ؟!
قالت إنه السبت.

* *

عندما يعرض يوسف شاهين فيلماً جديداً، أكون في مأزق كبير، كيف يتمكن هؤلاء من إنجاز ذلك الحلم الواسع ولا أفعل أنا؟!
عندما عرض (المصير) كدت أصاب باختناق في صالة العرض، إنها أفكاري، بالطبع لم يسرقها أحد، ولكنها تذهب إلى الآخرين، تخيلت من قبل أنني سأكتب وأخرج فيلماً عن ابن رشد، وسأصوره في قلعة الحصن، وسآتي بمحمد منير ليغني فيه، لم أفكر في نور الشريف لأداء الدور الرئيسي، من الممكن أن أعطيه لجمال سليمان، لم تكن ليلى علوي سيئة.

الغريب أنني التقيت بخالد يوسف كاتب قصة وسيناريو الفيلم،وقت عرضه، وكدنا نصبح أصدقاء، لولا أنه كان مشغولاً بارتباطاته وكنت مشغولاً باكتئابي وزواجي الذي كان ينهار يوماً إثر يوم.تحدثنا في كلام متقطع فترة مهرجان السينما، ثم ذهب ونسيت الأمر، ولم أحسد خالد، بل حسدت يوسف شاهين على عبقريته، كذلك حسدت التونسي ناصر الخمير صاحب أهم أفلام السينما العربية على الإطلاق..(طوق الحمامة المفقود).

ولكن ليست لدي أية شهية للعمل الجماعي، ولا أظن أنني كنت سأنجح في التفاهم مع ما يسمونه الـ (كاست) ولا مع جهة الإنتاج، ولا الممثلين، عرفت ذلك منذ زمن طويل، الكتابة بمفردك أرض أكثر حرية من تضييع الوقت مع آخرين.

* * *

أمشي في شوارع المدينة، إنه شهر آب، والناس تظهر من بيوتها بعد المغيب الأخير، حين تبدأ المنارات ببث أذان العشاء، وصلت إلى ركن الدين، وهو حي يكثر فيه الأكراد، ويمتد ليصعد على كتف قاسيون حيث تزداد كثافتهم وتزداد حريتهم في استعمال لغتهم وتقاليدهم، لا يمكنهم فعل ذلك في الأسفل.

قرب جامع (عثمان آغا) التركي، رأيت شاشة عرض عملاقة، عليها صورة متحركة لشيخ بلحية طويلة تصل إلى منتصف صدره، يتحدث بانفعال، لم أعرف لماذا هو منفعل من المسافة التي التقطت عيناي عبرها الشاشة، اقتربت، بدأ الصوت يتضح أكثر فأكثر...(إخوانكم في إندونيسيا ...إخوانكم في أفغانستان...أهلنا في الشيشان ..) عرفت على الفور أن الرجل يحاول قول شيء ما عن الاضطهاد والثورة وغير ذلك، لم أكترث ومضيت في طريقي مبتعداً عن المكان، ولكن مهلاً هذا الصوت أعرفه..وحتى الصورة ليست غريبة عني، أعرف هذا الرجل ...ولكن من هو ؟! ومتى كان لدي الوقت للقاء مثل هؤلاء؟!

التفتُّ عائداً ...وصلت إلى حيث جلس مئات الأشخاص على الأرض، خارج الجامع الذي امتلأ تماماً ..سألت أحدهم : من هذا الشيخ؟! قال: إنه أبو المحجن...
ـ من أبو المحجن ؟
ـ الدكتور أبو المحجن ،أقوى داعية في بلاد الشام،خطبته تبكّي الحجر!!
ـ ولكن ما اسمه ؟! بلا أبو كذا...
ـ اسمه محمد شوق نيازي
ـ محمد شوق نيازي...أعرفه ..
ـ كيف تعرفه ؟! كلنا نعرفه..إنه أشهر من نار على علم.
ـ شكراً ...
ـ هل لديك مشكلة ؟
ـ لا ..لا شيء...سلام.
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

* * *



ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05667 seconds with 11 queries