عرض مشاركة واحدة
قديم 11/09/2008   #1
شب و شيخ الشباب أحمد الخميسي
شبه عضو
-- اخ حرٍك --
 
الصورة الرمزية لـ أحمد الخميسي
أحمد الخميسي is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
مشاركات:
34

افتراضي قطعة ليل - قصة قصيرة د .أحمد الخميسي


قطعة ليل

قصة قصيرة :
د. أحمد الخميسي

واصل الثلاثة سيرهم منهكين على طريق تعلو وتهبط وتلتوي كالثعبان .
الشمس في قلب السماء كالحريق ، والقمر مثبت في الجهة الأخرى ، أبيض ، بلا ضوء .
في اليوم الأول كانوا جماعة كبيرة من نحو خمسين شخصا ، ثم تساقط أفرادها من التعب واليأس واحداً بعد الآخر على جانبي الطريق . في اليوم الثالث تهاوى رجل وأمه ، في اليوم الخامس حطت أسرة بأطفالها تحت شجرة ، ثم شابان عاشقان ، ثم ذلك الرجل الذي قال إنه لا يرى جدوى من هذا البحث ، ولكنه ينضم إليهم من باب الفضول . وبعد ذلك لم تعد لدي أحد رغبة أو جهد لمراقبة الذين ينسلون بهدوء.
كان الثلاثة يجرجرون خطواتهم والغبار يتصاعد حول أقدامهم والعرق يسيل من أعناقهم إلى ظهورهم . من وقت لآخر كان أحدهم يتطلع إلى جانبي الطريق المقفرة بحثا عن ظل شجرة ، أو إلى السماء ربما تعبر سحابة مثقلة بالماء ، أو يرهف السمع إلى خرير مياه في نهر بعيد متخيل .

قال البدين الذي احمرَّت عيناه وهو يدفع جسده إلى الأمام:
- لو أنها أمطرت على الأقل .
ولم تكن لدى الاثنين الآخرين : النحيف ، والقصير ، قدرة على النطق بشيء . في اليومين الأخيرين كانت الكلمات تخرج من الفم كأنها أحجار ثقيلة ساخنة وملتهبة.
ابتلع القصير ريقه يرطب به حلقه :
- قيل لنا إن قطعة الليل مسدلة خلف الجبل ، وهانحن قد تركنا الجبل منذ أيام ، ثم جبلا ، وآخر ، والآن نمشي فلا نصادف سوى سلاحف تطل بأعناقها من جحورها ، وشجيرات صبار ، وضوء متدفق من كل ناحية . ما من شيء ، تلاشى حتى نباح الكلاب الضالة الذي رافقنا الأيام الأولى .
قال النحيف :
- لو كان الليل في مكان قريب لشاهدنا ولو ظلا من عتمته يعبر السماء .
توقف البدين لاهثا ، ثم ارتمى على الطريق جالسا وهو يغطي رأسه بيديه الضخمتين .
توقف الاثنان الآخران أيضا .
نظر البدين إلى ساعة يده وقال بصوت مذبوح :
- الثالثة فجرا ، والضوء ساطع كالجحيم ، حتى ذرات التراب مضاءة متوهجة.
ألقى النحيف بنفسه إلى جوار البدين متسائلا :
- ألا يجدر بنا أن نفكر في الرجوع ؟
أجابه القصير :
- نرجع ؟ ألا يحتمل أن نكون قاب قوسين من الليل ؟
زفر البدين :
- نعود إلى حياتنا دون شيء ؟
تبرم القصير :
- الضوء أربع وعشرين ساعة يبعث على الجنون .
تعجب النحيف :
- يحدق الجميع في أعين بعضهم البعض صراحة ، ولا يستطيع أحد أن يقول شيئا ، لم يعد هناك مكان لشائعة ، أو مال متدفق ، أو خطة تُدبر.
أوضح البدين :
- لابد أن قطعة الليل مرمية في مكان ما . كيف يمكن للحياة أن تستمر هكذا ؟
علق القصير :
- جفت حلوقنا ، ونفدت قوانا .
قال النحيف :
- مازال القمر يقف قبالة الشمس أبيض بلا ضوء .

تناول كل منهم جرعة ماء ، ومسحوا جباههم بقطرات منه ، ثم استأنفوا السير.
زحف البدين إلى الأمام والعرق يغطي عينيه والملح يحرق جلده متطلعا إلى نهاية الطريق . وكان النحيف يرسل بصره إلى السماء بحثا عن طير يضرب الجو بجناحيه ، أما القصير فراح يدفع أنفه إلى الهواء لعله يتنشق شيئا غير رائحة الدخان والحريق .
سحابة رمادية ركضت مسرعة في السماء . أشار النحيف إليها صائحا بلهفة:
- انظرا !

تطلع الاثنان الآخران إلى السماء .
هتف النحيف وركبتاه تصطكان من التعب :
- لعلها الظلمة قريبة منا في مكان ما .
اضطربت عينا البدين المحمرتين بهوس وغمغم :
-لابد أنها وراء هذه الرابية .
غذ ثلاثتهم السير ، وانحرفت الطريق بهم يمينا ، ثم ارتفعت إلى أعلى ، وظهرت رابية عالية توقف عندها الثلاثة يلتقطون أنفاسهم . وضع الطويل حافة يده فوق عينيه :
- لا أرى شيئا .

- ألم نقترب قليلا ؟
- ربما . لكن لا يبين شيء من هنا ولا يُسمع صوت .
- دقق النظر !
- لا شيء . بحر من الضوء !
مكثوا فوق الرابية يفتشون في الأفق عن خيط من ظلمة .
تقدم البدين باقتراحه :
- نستريح اليوم ونواصل السير غدا ؟
- كلا .
- فلنمض .
واصلوا سيرهم منهكين من الضوء ..


***
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.18267 seconds with 11 queries