عرض مشاركة واحدة
قديم 09/10/2007   #22
شب و شيخ الشباب BL@CK
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ BL@CK
BL@CK is offline
 
نورنا ب:
Apr 2007
المطرح:
Aleppo-Syria
مشاركات:
4,345

افتراضي


بكاء ولا دموع!


وسط هذا الممر الرمادي الطويل، الذي يبدو وكأنه لا ينتهي وسط الأكفان البيض المتحركة ممرضات وأطباء تتجوّلون بين جموع المرضى المتعبة التي تتجوّل وتثرثر، وكأنَّ الثرثرة بلسم لوجع القلوب الذي لا تنفذ فيه العقاقير...‏
وسط هذا السديم، كانت "شيرين" تقفز وهي تركض نحوي، فأفتح ذراعي لأستقبل جسمها الضئيل، وأتلقى قبلتها التي تفيض شوقاً ومحبة، وهي تصر أن تطبعها على وجنتي الواحدة تلو الأخرى...‏
كانت شيرين زهرة بنفسج صغيرة آسرة بفتنتها تبتسم وتثرثر، وكانت تحدثني دائماً عن بيتهم في حلب، بيتهم الذي يطل على حديقة واسعة تلعب فيها مع أولاد الحارة تحدثني عن الأراجيح والقطط الصغيرة والأزهار الملونة، وكانت تفيض حولي كرائحة زكية، فأحسها أقرب إلى الخيال بنظافتها وأحاديثها الملونة الزاهية كانت تنتشلني للحظات من عالم آلي جامد لتجعلني أطل على عالم طفولي، فأتمنى ولو لبرهةٍ أن أرتمي فيه وأبكي بفرح وأنسى عالم الإسمنت والأجهزة التي تبلغ قيمتها أضعاف قيمة الإنسان...‏
ماكانت شيرين تترك يدي حتى أعدها أني سأزور بيتهم في حلب، وأني سألعب في الحديقة معها ومع أولاد الحارة، وآخر ماكانت تقوله قبل أن تفارقني:‏
ـ هل ستأتين غداً؟..‏
فأجيب مؤكدة: "بالطبع يا صغيرتي الحلوة...‏
كانت شيرين تهب لي أشياء كثيرة، أعظم من الكتب الفلسفية أكبر من المحاضرات القيّمة أعمق كثيراً من جدلنا، وأحاديثنا التي لا تنتهي إلا بصداع وفراغ... كانت كلماتها المتناهية في البراءة والبساطة تحرك في نفسي المثقلة آلاف المشاعر...‏
كنت أحتويها بمسامي، بروحي، وبحواسي كلها، وعندما سألتني ببساطتها وابتسامتها الرقيقة هل صحيح سيستأصل الطبيب عيني؟...‏
ذهلتُ... حاولت أن أكذب، وهالني أن أكون كاذبة أمام ملاك صغير، كان سؤالها بالبساطة نفسها، والابتسامة ذاتها وهي تسألني كعادتها: هل ستأتين غداً؟..‏
ـ من قال لك هذا يا شيرين؟..‏
الطبيب قال لأمي أنه سيستأصل عيني هذه...‏
وأشارت بإصبعها الصغيرة إلى عينيها المغطاة بضماد كبير على الوجه الطفولي المتألم.‏
قلت بأسى عميق: بلى يا عزيزتي...‏
آه، يا طفلتي، أي عزاء أقدّمه لك؟.. هل أُريك معنى الحقد في نفسي هل أشرح لك أن السرطان يأكل عيون أطفال أبرياء؟!...‏
سمعتها تقول: داخل عيني دملة صغيرة، ألا تشفى بالقطرة؟...‏
ـ كلا، لا تشفى يا شيرين، لا تحزني يا طفلتي، فأنت سترتاحين من مرض متعب، ثم سيضع لك الطبيب عيناً من زجاج، عيناً "جميلة جداً"، لا أحد يحس أنها من زجاج...‏
ـ ولكن، أنا سأشعر أنها من زجاج ولن أرى بها...‏
ـ ابق سعيدة يا شيرين، أنت في عمر الفرح، وتملكين عيناً أخرى تبصر، والذين يبصرون قلة يا حبيبتي...‏
ـ هل ستأتين غداً؟..‏
ـ أجل يا صغيرتي...‏

في اليوم التالي لم تستقبلني شيرين، لفّني الرواق الرمادي الطويل، ضغط على روحي بروائح المرض والأدوية، ومشيت بلا بسمة... لم أطل اليوم على العالم الطفولي الرائع... كانت شيرين مُخّدرة في غرفة العمليات، وكانت عينها المتهتكة المتورمة تنزف لمغادرتها الوجه الحبيب لتترك هوة، حفرة، يملؤها فيما بعد زجاج بارد ميت...‏
بعد أيام رأيتُ شيرين تتجول كعادتها في الرواق، ركضت صوبي، ولكن هذه المرة كأنها تحتمي من شيء وحاولت ألا تظهر ما يعتمل في داخلها وهي لا تتبين تماماً ثقل مشاعرها...‏
قلت لها بفرح: لأغطي حزني العميق: الحمد لله على السلامة يا شيرين...‏
فإذا بصوتها يأتيني حزيناً كئيباً: ولكني متعبة... وعيني التي بقيت لي حمراء... أصابني هلع، خشيت أن أنظر إليها، فقد يكون المرض الخبيث انتقل إلى العين الثانية السليمة... وحدست أن شيرين سيجري لها عملية أخرى، وأنها لن تعود قادرة على القفز واللعب في الحديقة الغنّاء مع الأولاد...‏


يتبــــــع ..

ويحَ زمَنٍ أصبَحَ فيهِ عاشِقُ الوطَنِ يُهان ..

ويُشطَبُ مِن ذاكرةِ عشقِهِ ..

ومِن قائِمَةِ بني الإنسان !!



.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03770 seconds with 11 queries