عرض مشاركة واحدة
قديم 10/11/2008   #13
شب و شيخ الشباب yass
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ yass
yass is offline
 
نورنا ب:
Jul 2004
المطرح:
الآن... هنا
مشاركات:
9,461

افتراضي


-2-



خمّارة أبو سركيس تقع على الضفة الشمالية من الفرات, ما بين المحرس الفرنسي القديم و دعامة الجسر الأولى, و هي عبارة عن غرفة كبيرة من البلوك الأسمنتي, بسقف من التوتياء المغطّى بالكثير من الأغصان اليابسة, و حولها مصطبة عشبية صغيرة يضع فيها أبو سركيس بعض الطاولات و الكراسي في أيام الصيف.


و هذه الخمّارة هي مقصد الصيّادين الأول, ففيها يمكنهم الشرب بهدوء على ضوء "الونّاسات" الحمراء الصغيرة الخافت, و أكل بعض أنواع المشاوي الرديئة النوع. و الحديث عن النهر و خيراته و لعناته.
لا تخلو الليالي كذلك من بعض حلقات القمار التي قد تبدأ بالرهان على نصيّة عرق, و تنتهي ببيع الدوانم الزراعية لدفع الديون الناتجة عن "برتيّة" غير موفّقة.

و من خلال باب خمّارة أبو سركيس, هذا المسدود بباب خشبي مكسّر يصدر صريرا مزعجا لدى فتحه, و يمكن رؤية لوحة كتب عليها بخط أعوج يكاد لا يقرأ: "مو عاتب تسكر بالدّين". دخل حيدر الكسراوي ليلة خريف بارد, بعد نهاية عمله و قبض يوميته من صاحب المسمكة الواقعة خلف السراي العتيق.

حيدر شاب في مقتبل الثلاثينيات من العمر, أسمر البشرة, طويل القامة و عريض المنكبين, له منظر يخيف من يراه, و ترافقه دائما هراوة خشبية ملفوفة بشريط أسود من النوع الذي يستخدم كعازل كهربائي و مزيّنة بمسامير فضية و ذهبية اللون, و تسمّى هذه الهراوة شعبيا "دبّوس" أو "محذاف".

بعد تحية بعض الموجودين توجّه رأسا نحو الطاولة المجاورة للبرّاد الذي يجلس خلفه أبو سركيس, حيث ينتظره زملاء القمار لبدء ليلة الحظ.. حسنه أو تعيسه.

يعرف زملاء الطاولة بشكل سطحي من جلسات سابقة, فبجانب الكرسي الذي جلس عليه يقبع أبو علي, تاجر الأدوات المنزلية في السوق الشرقي, بجانبه يجلس مهيد الحرباوي, و هو شيخ عشيرة متوسطة الحجم يعيش على آجار الأراضي الزراعية الكثيرة التي يملكها, و على يمينه يجلس أنيس, خطّاط شركسي الأصل يخسر كل ما يكسبه من الكتابة على لافتات المحلات و تزيين أبواب بيوت الحجاج العائدين بعبارات الترحيب على الخمر و القمار, و رغم ذلك يبدو سعيدا دائما و متفائلا.

بعد مرور نحو نصف ساعة من بدء "البرتيّة", كان واضحا أن هذه الليلة هي ليلة حظ حيدر, و ليلة شؤم الشيخ مهيد, مما جعل هذا الأخير يستشيط غضبا مرات عديدة و يصرخ و يضرب الطاولة بعنف, لأنه عدا الغضب الناتج عن الخسارة فقد كان حيدر خبيرا في استفزاز من يلعب معه بتعليقاته و تهكماته. جاء أبو سركيس بكيلوغرام و نصف مشاوي مشكّلة "ضيافة المحل" رغبة منه بتطرية الجو قليلا و منع الخلاف من الاستفحال. و لكي يستمر اللاعبون بالإنفاق على الشرب و القمار الذي له حصّة مجزية من أرباحه.

ترك المتبارون ورق اللعب قليلا, و انهمكوا في الأكل و استعجال كؤوسهم كي يملأها أبو سركيس ثانية قبل الاستمرار في اللعب.

بعد الوليمة السريعة عادوا إلى اللعب بلهفة الظمآن عند رؤية واحة وسط الصحراء, و لم يغيّر التوقف في سير اللعب من وجهة الحظ, فقد استمر حيدر بالربح حتى نهاية "البرتيّة".

بعد الانتهاء و توزيع الغنائم, أخرج وحيد سيجارة و صار يغنّي منتشيا و هو ينظر نحو الشيخ مهيد و يبتسم بخبث, و الشيخ يكبت غيظه بصعوبة.

حتى بدأ حيدر بغناء العتابا الشهيرة للشاعر عبد الله الفاضل, التي يقول فيها:

"هلي الما رادوني مارِدهم, و يلونهوم ميّة الفرات يابا"

فعندها.. صرخ الشيخ مهيد بغضب: "يلعن أهلك و أهل أهلك يا قوّاد".. فكان رد حيدر ضربة دبوّس كسرت حنك الشيخ مهيد, و أوقعته أرضا.

عندما رأي حيدر الشيخ مرميّا على الأرض, استفاق من سُكره و فكّر في نتائج ما فعل.. و خرج راكضا نحو حارته لاستنفار أقربائه ترقبا لهجوم محتمل من عشيرة غاضبة تطلب الثأر لشيخها.

و كان الهجوم...

و حصيلته... مقتل عزيز.. شقيق حيدر الأصغر, مقابل مقتل ثلاثة من المهاجمين و جرح الكثيرين من الطرفين, و احتلال الشرطة لحارتي العائلتين المتحاربتين.

صار على ذكور عشيرة الكسراوي أن يفرّوا, فالثأر للقتيلين الإضافيين من العائلة الأخرى سيقع لا محالة.

و لذلك فقد هربوا إلى قريتهم الأصلية على الضفة الأخرى من النهر, حيث لن يجرؤ أحد على الهجوم. و باشروا بمحاولة إغراء مشايخ العشائر الكبيرة للقيام بالجهود الوساطية اللازمة لحل الخلاف مادّيا عن طريق دفع "الوديّات".


لكن انتقاما حصل قبل أن تحل المشكلة...

عبد الرحمن, ابن عم حيدر و أستاذ رياضيات في المدرسة الإعدادية, كان قد رفض الهرب إلى القرية, و بقي في بيته برفقة زوجته و طفليه الصغار.

كان عبد الرحمن هو المتعلّم الوحيد في عشيرته, فعدا عن كونه خريج معهد متوسط, فهو إنسان مستقيم مشهود له بالخلق العالي و محترم و محبوب من جميع طلابه و عائلاتهم.

رفض عبد الرحمن الهرب لأنه يحتقر كل هذه العصبيات, و قد كان واثقا أن معرفة الجميع بكراهيته لهذه الأمور و أنه لا يشارك فيها بأي شكل من الأشكال قد يجعلانه خارج دائرة المرض الانتقامي.

لكن عشيرة الحرباوي رأت فيه صيدا ثمينا.. ففي عُرف الثأر العشائري, لا يجب الثأر ممن قتل, بل يجب إلحاق أكبر ضرر ممكن بعشيرته, ويكون ذلك عن طريق استهداف أبرزهم علميا أو ماديا, أو الشخص الذي لديه أكبر عدد من الأبناء, حتى لو لم يكن له أي علاقة بما حدث.

لذلك, فقد ذُبح عبد الرحمن بعد يومين من هرب عائلته, عند خروجه من المعهد البسيط الذي كان قد أقامه في شقة مستأجرة بالقرب من بيته.

حُلّ الخلاف بعد أقل من سنة عن طريق دفع وديّة عالية جدا عن القتيل الباقي من عشيرة الحرباوي, و شرط ألا تعود عشيرة الكسراوي إلى حارتها قبل مضي عشر سنوات.

اليوم, بعد مرور سنوات قليلة... تفخر عشيرة الكسراوي بابنها حيدر, الذي لم يقبل و لم يسكت على أن يشتم سكير عائلته.

بينما تعتز عشيرة الحرباوي بقيامها قومة الرجل الواحد دفاعا عن كرامة شيخها الأمّي السكير الجاهل, حتى لو كلّف الأمر .. الدماء و الأرواح...

في حين يسأل أبناء عبد الرحمن, الذين ما زالوا أطفالا... عن أبيهم كل ليلة, و لا يجدون جوابا شافيا...


__________________________________________________ ___

أي تشابه ما بين أحداث القصة و أي أحداث حقيقية حدثت ليس أبدا وليد الصدفة




Yass

أبو مـــــــــ1984ـــــــارال
خبز,, سلم,, حرّية

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 


آخر تعديل yass يوم 10/11/2008 في 02:00.
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05013 seconds with 11 queries