الموضوع: محمود البدوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 19/08/2008   #20
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي قصة الصياد


أبحر الزورق في الخليج .. ومنذ اندلعت نيران الحرب وشعبان لا يبـعد في الليـل. كان يصطاد قريبـا من الساحل متحاشيا الموج ما أمكن، وكانت الظلمة شـديدة ولكن الريح كانت رخـاء.. فأرسل الزورق على سننه .

وأخذ يرمى الشبكة وهو جالس في المؤخـرة .. وكان يمنى النفس بصيد كثير قبل أن ينتصف الليل. فلم يكن منذ نشب القتـال يتأخر عن زوجته وأبنائه الصـغار. كانت صورهم لا تبعد عن ذهنه أبدا وهو في قلب البحر.. أنهم امتداد له وحياة ..

خلف مدينة السويس وراءه غارقة في الظلام ولا يبدو من بيوتها البيضاء ومآذنها وأعمدة مصابيحها.. إلا ظلال في العتمة الشاحبة.
وبدا شاطئا القناة من بعيد في سواد الأبنوس .. وغابت الأشجار التي على الشط الغربي من بور توفيق في الظلمة وانطمست معالمها ..
وأخذ شعبان يحرك الزورق بلين .. ولجة الماء دكناء ساكنة وغيـاهب الليـل تتساقط في كل ساعة تنقضي وتصبح كريش الغراب.
وفجأة أحس أن الشبكة أمسكت بشيء .. فقد اهتزت في يده بعنف .. وخشي أن يمزق الصيد الشبكة لضـخامته وقوته.. فأرخى الحبـل حيث جرته السمكة واتجه إلى الشرق .. تسـحب في لين وراء السمكة الكبيرة .. التي أحس بها تنتفض في عنـف وخشي أن تكون من صنف القرش فيذهب كل تعبه هباء وتصبح الليلة لا نفع منها ولا جدوى فيها.. تصبح ليلة من ليالي النحس .

واشتد الجذب فأرخى الحبل .. أرخى وهو يحس يرجفان قلبه وظـل يطامن حتى وجـد نفسه يقترب من شط القناة الشرقي ويسير بحذائه في هوادة ولين ، حابسا ما أمكن صوت المجاديف .

كان يعرف أن المعركة في هذا الساحل وأن القتال يدور على أشده هناك .. وأخـذ يسمع بوضوح صوت القنـابل التي تلقيها الطائرات وصوت المدافع .
كان شعبان يعيش في قلب المعركة بكل حسه ووجدانه . لم تكن بعيدة عنه أبدا فقد بدأت يوم الاثنين.. واليوم هو الأربعاء ثالث أيام المعركة ، والقتال يدور في عنف وكان يتبعها بحواسه وإذا سمع نبأ سيئا ثار وعض على نواجذه ولم تمنعه الحرب عن السعي وراء معاشه ولكنه كان يخرج في الليل مسلحا ببندقية سريعة الطلقات يتقى بها الشر أينما كان ..

وفى اللحظة التي أحس فيها بغريزته كصياد أن الشبكة صادت شيئا ضخما لم يحدث له في حياته.. انتابته نشوة عارمة .. وكان لا يود أن يفلت منه هذا الصيد أبدا.. فلما جذبته شرقا طاوعها واتجه بالزورق إلى الشاطئ الشرقي .. كان لا يريد أن يضيع منه الصيد بعد هذه المشقة.

وأخذ يسحب الشبكة بيد الصياد الماهر .. وقد خيم السكون فجأة وخيل إليه أن الحرب قد توقفت.
خيم سكون ذهل له.. وخيل إليه في قلب الظلام أن المدينة ستتلألأ في هذه الليلة كما كانت قبل الأيام الثلاثة .. ستتلألأ كما كانت من قبل وتزهو وترقص قناديلها كلما مايلتها الريح ..

***

وعندما اقتربت الشبكة من القارب ورأى بعينيه السمكة الكبيرة التي اصطادها شعر بفرحة .. إنها ليلة من ليالي الخير .

وأخذ وهو نشوان يخـرج السمكة من الشبكة ويضـعها في بطن القارب.. إنها ضخمة بشكل مهول، ومن أكبر الأسماك التي اصطادها في حياته كصياد.

***

وفجأة سمع أزيزا عنيفا وحلقت طائرة فوق رأسه .. فاضطرب أولا ولكنه تماسك وحدق في الظلام فبصر بأجسام طويلة تسقط من الطائرة في مجرى القناة.

ودوت المدافع المضادة وتكهرب الجو . واستمر القصف مدة .. ثم سكن ..
وظل الصياد يتحرك في المياه الهادئة وهو قريب من الساحل، وسمع فجأة اشتباكا على الأرض قريبا منه وطلقات رصاص.
فلما اقترب بالقارب من الموقع والظلام يخيم على البحر واليـابسة.. بصر بجندي مصري من جنود السواحل مشتبك مع دورية إسرائيلية في قتال رهيب. ومع أنهم أكثر منه عددا ولكنه ظل صامدا وقتل منهم واحدا وجرح آخر .. وكان منبطحا وراء كثيب من الرمل .. والرصاص يتطاير حوله .
ودفع الصياد الزورق إلى الشاطئ ونزل منه سريعا واقترب من الموقع زاحفا ببندقيته حتى كمن بجانب الجندي المصري وأخذ يشد أزره على القتال والصمود وكان الجندي قد جرح جرحا بليغا في هذه اللحظة ولكنه ظل مع ذلك يطلق النار ثم سكتت بندقيته .
وظل الصياد يقاتل وحده حتى سكتت كل بنادق العدو . وخيم السكون وظل فى مكمنه قابعا بجوار رفيقه مدة ثم رأى أن يغير المكان .. فنهض وتلفت حواليه ليتخير الموقع الذي سينتقل إليه . وهنا سمع انفجارا رهيبا في البحر وطار زورقه وتمزقت شباكه ولم يحزن كثيرا .
وتقدم حتى اقترب من جندي السواحل الجريح .. كان لا يزال ينـزف دمه .. وغسل جراحه وحمله على ظهره وسار به في الليل محاذرا متوقعـا في كل خطوة أن يقـع في أيدي الأعـداء الذين انتشروا في الصحراء ، وكان الرصاص يتطاير حواليه وخلفه .
سكن الليل بعد القذف واللهب المنبعث من الأرض والسماء .. سكن الليل .. سكون الموت .. وكلما سار الصياد بالجندي خطوات طلب منه هذا أن يضعه على الأرض ويمضى لسبيله وإلا سيقع الاثنان في أيدي الأعداء.. ولكن الصياد كان يرفض بإصرار ويتصبب عرقا . وهو يسير باذلا من الجهد فوق كل طاقات البشر.
كان ينظر إلى الشاطئ الغربي والليل قارب على منتصفه والظلام يخيم ولا مغيث..
قد تمر عليهما دوريات الأعداء وتمزقهما بالرصاص ..
وظل يسير وهو يحمل الجريح والريح تصفر في الصحراء ..
كان شعبان يحس بثقل الجسم على عاتقه وبتعبه الشديد وانقطاع أنفاسه ولكنه كان لا يريد أن يضع الجريح على الأرض أو أن يستريح خشـــية أن يعـطل ذلك إسـعافه وإنقــاذ حياته.. ولأول مرة يعرف قيمة النفس البشرية والحرص على بقائها وبذل كل سبيل لإحيائها.
لكم خرج في الليل يصطاد الحيتان، ولكم قاسى في الليالي الحالكة، ولكم خاطر بحياته ليأتي بطعام أولاده.. ولكم شعر بالفرحة بعد الجهد والعرق ..
ولكنه لم يحس بمثل السعادة التي يحس بها الآن.. وهو يحمل جنديا جريحا .. قاتل ببسالة ..
ولم يكن وهو يحمله يفكر في تعبه قدر تفكيره في إنقاذ روحه.
ولأول مرة في حياته يحس بأنه وحدة واحدة في عالم كبير .. وأنه جزء من كل.. وأن التعاون عضد الحياة..

***

وطال السير في الليل والظلام .. وبلغ المرحلة التي أحس بعدها الصياد بأنه لا يستطيع أن يتقدم خطوة أخرى.. وأنه آن له أن يلقى بالحمل على الرمال..

ويتخفف هو من ملابسه .. وقد يجد شيئا يستعين به على أن يعبر القناة إلى بور توفيق، أما أن يربط حياته بهذا المخلوق الميت.. فذلك فناء وسيموتان معا .. أي سلسلة ربطتـه به، لابد من فكها.
وتمهل جدا .. وفى ظل كومة من الرمال وسد الجريح بعناية كما يوسد الموتى تماما ، وجعل وجهه للقبلة وقرأ الفاتحة في صوت خافت .. ثم القي عليه نظرة أخيرة وانطلق في الرمال .
وكان الظلام يلف كل شيء في شملته.. والريح تسفي الرمال ومياه قناة السويس ساكنة على شماله .. وغياهب الظلام تزداد كثافة .
وسمع طلقات النار مرة أخرى
ولكنه كان مطمئنا بأنه سينجو وسيعود إلى بيته كما خرج منه.. ولكن كيف يعود .. ويترك رجلا من وطنه ينزف دما .. ولا تزال فيه الروح .. كيف يتركه هناك وحده .. أحس بأن قدميه تغو صان في الرمال ومسح عرقه..
ورجع إلى الجريح فحمله مرة أخرى وسار به قرب الشاطئ .


***
وفى وضح الفجر.. رآه صياد آخر عن بعد ولوح له شعبان بيده فحول الصياد الزورق إليهما والتقطهما.. وظل شعبان يحكى ما جرى له للصياد الآخر ويحكى .

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05779 seconds with 11 queries