عرض مشاركة واحدة
قديم 14/01/2008   #61
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


وانطلاقا من وجهة النظر هذه فإن تظليل أجزاء معينا من الديكور لا يبدو بعد كل شيء إلا معالجة روائية للون من الاحتجاج الاجتماعي كان قد طرح في مواقف أخري دون ظلال (16)، وهو يتحول في اللص والكلاب إلي تمرد هائج لنزعة إنسانية كاملة وشبه متصلبة تتخذ المخاتلة والتعزيز موضوعا لهذا وتبحث عن زبدة المشاعر البشرية خارج الإطار الذي حطمته (17).

وعندما تصل العلاقة بين إنتاج نجيب محفوظ «ووسطه الروائي» إلي درجة الوهن الجذري فإن ذلك الإنتاج يظل يحمل قدرا هائلا من الموضوعية علي الأقل في مواجهة كاتبه، ونستطيع من هنا أن نتصور السبب العميق وراء التدقيق والاستقصاء المتتابع الذي أشرنا إليه، وتسهم الشخصيات ذاتها في تحقيق عدالة المؤلف في مواجهة رسم البيئة المادية المحيطة به، وتدرك الشخصيات ذاتها أن مغزاها الحقيقي لا ينبع من انتمائها إلي إطار الجمال الشكلي، وإنما في إطار القيمة المعنوية، وهي بهذا تستطيع الإسهام في خلق نموذج الشخصية الإنسانية، وهنالك من هذه القيم مثلا الشجاعة في مواجهة الحياة اليومية والتقوي، وهذه القضية الرئيسية قضية العودة إلي المنابع ـ وإلي إعطاء التأثير الداخلي للضمير قيما أساسية ـتختفي وراء المظاهر المتواضعة ـ هذه القضية عولجت كذلك هنا بمنهج روائي خالص.

ففي المقام الأول، وعلي عكس بعض القصاصين الذين يكتفون بطرح أفكارهم في قوالب واضحة (19) يبث نجيب محفوظ قضاياه علي امتداد أعماله محولا إياها إلي عناصر روائية خالصة في قالب أخلاقي إقليمي، ولكنه ليس تحت شكل قانون العقد الصريح المعلن، وإنما في شكل قانون العرف الغريزي الحاسم.

ومن ناحية ثانية، فإن أبطال الموقف الروائي الذين توزعهم أعمالهم أو وظائفهم أو مدارسهم أو أنشطتهم في أرجاء القاهرة «الخارجية» يعودون دائما إلي قلب الوسط الذي يعيشون فيه لكي يتلقوا هناك قدرهم الحقيقي، ومن هذه الزاوية تكتسب الثلاثية روعتها(20)، وهنا السياق التاريخي سواء كان مصريا أو أجنبيا أهم أدواره في إنتاج نجيب محفوظ، لكن هذه الأحداث باستثناء أمثلة قليلة (21) سجل من منظور العالم المصغر للحي أو العائلة هنا حي لا يصل ضجيج المدينة الخارجي إلي ممحصا ومصفي حقيقة إلي درجة الخلاصة، وإذن فإن الفارق الهائل الذي يفصل منذ البداية بين نشاطات هتلر وبين الانشغال اليومي لدي طبقة العمال والبورجوازية الصغيرة في القاهرة، يأخذ هنا تنوعا بارزا، فحول هذه المشاكل الصغيرة الرئيسية، قضايا البؤس والسعادة والتقدم تتم من خلال حس البسطاء المواجهة الحقيقية لكل الشعارات السياسية، واكتساب المكانة الاجتماعية، ولسوف يتم تحت هذه الزاوية بصفة رئيسية المواجهة الخفية ومن ثم المواجهة العميقة بين التقاليد والحداثة، حيث تعترف التقاليد أمام الحداثة بقصور وسائلها، لتحقيق السعادة وتعترف الحداثة (22) بقصور وسائلها لبلوغ السعادة والتعقل.

إن أبطال نجيب محفوظ لا يقنعون مع ذلك بالتهوين من التقاليد الأساسية في وسطهم، إنهم يهدمون ذلك الوسط صراحة بما يقدمونه من أفعال مناقضة لتلك القيم.

والتسلل الشعري أو الهروب العنيف نحو وسط آخر أكثر نظافة وبريقا هو النتيجة الطبيعية لذلك الرفض، ووسائل الهروب التي يتبعها نجيب محفوظ هي وسائل نسقية فالتاكسي أو الترام وأحيانا قليلة القطار (23)، يحمل الأحلام نحو المدينة الكبيرة أو مدينة أخري في عمق مصر والدافع للإنسان والهرب ليس مع ذلك كامنا في الوسائل المادية التي تحرم أحد الأحياء من لون الحياة المحيطة به، ولكنه دافع كامن لدي الشخصيات ذاتها، معبأ بقيم رمزية نحو الأماكن أو الأوساط التي لا يعيش فيها المرء حياته العامة، ويتوقع أن يجد فيها ما يحلم به: الحب والمجد والغني. إن شرفات المنازل القديمة في القاهرة التي يمكن من خلالها أن يستوعب في نظرة واحدة السماء والجمال معا.. هذه الشرفات تغدو ممرات بسيطة عابرة، كعبور لحظة الشفق العظيمة التي توزع الظلال هنا علي «الوسط الروائي» بطريقة زخرفية كما قلنا(24)، ويتمثل الهروب في شبرا في الانسلال إلي منزل مجاور يبحث فيه عن تجديد الهواء في واحدة من تلك الفيللات الفخمة لأحد «البكوات» وفي الحديقة المحيطة تتسابق الفتيات علي الدراجات ناسيات في غمرة اللعب أنهن يمكن أن يكن موضع مراقبة (25).

إن الشخصيات الروائية تتحدد إذن هنا - علي الرغم من ظواهر الأشياء - تبعا لمسافتها بالقياس إلي الوسط الروائي (26) وعلاقتها بهذا الوسط ليست علاقة سهلة ولا نمطية يمكن الحكم عليها بالتبعية أو الصراع، وإنما هي علاقة تشبه علاقة القاضي بموضوع الدعوي لا يتكاملان ولا يتعارضان تبعا للحالة، بمقتضي موقف أملوه هم علي أنفسهم بعيدا عن كل تأثير، وبهذا المعني فإن تأثير الوسط البائس الذي يحد من الرغبة في الهيمنة لدي أصغر الإخوة الثلاثة في بداية ونهاية (27) يجيء التعبير عنه دائما في لغة المونولوج حيث تتعادل «مع» و«ضد» وهذا المنهج الذي يجعل من الحوار الذهني جزءا من العرض الروائي دون أن يخل ذلك علي الإطلاق بإيقاع الحركة داخل العمل الروائي هو منهج يؤكد المحتوي الخلقي ويوسع من مجال انتشاره.

وفضلا عن ذلك، فإن الأبطال ليسوا تابعين لشخصية المؤلف، فأسلوب الترجمة الذاتية الذي يخلع كثيرا من مذاقه علي إنتاج توفيق الحكيم أو يحيي حقي لا يوجد في روايات نجيب محفوظ، ولاشك أنه من المعلوم أن طبوغرافية الثلاثية ومشاعر أبطالها الشبان تعكس ذكريات الطفولة والشباب عند نجيب محفوظ لكن النظرة الفاحصة والقول المنصف يعيد إلي هؤلاء الأبطال البعد الحقيقي الشعبي والملحمي لأن الشخصيات المركزية للثلاثية هي من بعض الزوايا شخصيات أبطال ملحمة أكثر من كونها شخصيات أبطال رواية، فهنالك الشعور القدري بأنهم جسدوا أمة وتلك سمة شهيرة لأبطال الملحمة وتلك القابلية لاستيعاب الأحداث، مناقشتها دائما، وفعلها أحيانا، والمعاناة منها قليلا، وهذه الحركة والسلوك المنبعث من حجرة واحدة، المتوج في النهاية بالشعور بالانفرادية ـ هو حدث ذو مغزي حتي بالنسبة لأعضاء جماعة شديدة الاتحاد يأخذون قراراتهم كل علي حدة ـ كل هذه السمات تربط الثلاثية بالعائلة الكبيرة للشخصيات الملحمية أكثر مما تربط بعائلة الأبطال القلقين في الرواية.

إن الأنماط الجسدية التي أصبحت عرفا شديد الشيوع في الملحمة نمط (الثنائيات المتضادة) فهناك الفتاة الجميلة والأخري غير الجميلة وذات الأنف الكبير(2 وهناك الرجال ذوو الطول الفارع والقصار، وهناك الأم النحيفة، والمسنة الممتلئة شبه القعيدة (29).

وروايات نجيب محفوظ تدور كذلك حول بعض اللوحات النمطية النادرة التي تضيف إلي خصائص الخطوط التقليدية خصائص الصفات من خلال الوصف التفصيلي (30) والمحاولة خطيرة، والاستقصاء الملحمي يهدد وينفي الطابع الروائي، لكن موهبة نجيب محفوظ تتلافي هذا النقص من خلال التمييز بين الشخصيات وتوضيح خصائصها من خلال طريق آخر ليس مستعارا من السمات ولا من الخصائص الجسدية المميزة ولكن من خلال الاهتمام بتحقيق الوحدة لهذه المظاهر المختلفة لعطاء شيء واحد اسمه «الشعب المصري» وأبطال الرواية يصبحون كذلك إلي حد ما، انعكاسا من زاوية خاصة لنمط عام يجسده بطل ملحمي وهم يستمدون أصالتهم لا من خصوصية شخصياتهم، ولكن من خصوصية مواقفهم داخل الإطار الذي يضمهم جميعا، إن الشبيبة المصرية مثلا يمثلها عبدالمنعم بقدر ما يمثلها أحمد في «السكرية» وكل منهما يقدم خصائصها الرئيسية ومن ثم صورتها النموذجية لكن الاختيار السياسي والعقائدي يضع بين الأخوين خط التفرقة، وانطلاقا منه تتباعد مواقفهما في الحياة الواقعية، ومن خلال المنحني الذي رسمه ذلك الاختلاف توجد الحقيقة الروائية المتعددة الأوجه.

هذه الشخصيات ملحمية لأنها جميعا نماذج لمجموعة إنسانية وروائية واحدة في إطار أنها لا تقدم إلا جانبا واحدا، وهذه الشخصيات إن لم يوجد فيها تلاؤم مع السمات الروائية والأبطال هنا، كل منهم يرمز إلي فئة محددة بعناية، ويؤكد البطل المتحدث باسمها ملامحها الخاصة ويربطها بالفئات الأخري من خلال النمط الكلاسيكي لحركة التآلف والتضاد فينشأ الموقف الروائي الذي يتم غالبا من خلال اللجوء إلي الخصائص النفسية الفردية، وهنا بالتأكيد تكمن أهم ملامح الأصالة في إنتاج نجيب محفوظ، فهذه الشخصيات «حية»، لكنها كذلك «نماذج» وانعكاساتها النفسية موجودة ومن خلالها يوجد الموقف الروائي لكنها كذلك تعود وبطريقة شبه آلية إلي طبيعة انعكاسات الطبقة أو الاتجاه الذي يعد كل منهم في فلكه الخاص ممثلا له.

إن أنماط الشخصية الاجتماعية هي بطبيعة الحال أكثر الشخصيات تحديدا وأقربها إلي الشخصيات الرئيسية، وهذه الشخصيات تبقي في النهاية محدودة جدا.

فهناك أولا شخصية «التاجر» وأكثر منها ورودا شخصية «الموظف» فشخصية «المومس» وأخيرا شخصية «الطالب» التي تأتي في قمة الشخصيات الرئيسية.

وهذا التدرج الذي أوردناه لا يهمنا علي مستوي الخريطة الاجتماعية فليس هذا موضوعنا كما قلنا، وإنما هو تدرج علي مستوي توزيع الأدوار في مجال الحبكة الروائية، ومن وجهة النظر هذه فإن شخصية «التاجر» إذن هي أقل الشخصيات أداء لهذه المهمة، وعلي حسب علمي، فالثلاثية وحدها هي التي قدمت من خلال شخصية الأب نموذجا لشخصية رئيسية تنتمي إلي هذا النمط، شخصية الأب مع أنها لا تقارن بها من حيث الأهمية شخصية الأم، فإنها تختصر إلي تجسيد قوة جمود تسندها التقاليد ومهمتها تبعا للظروف، إيقاف أو تعطيل مبادرات الآخرين.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05458 seconds with 11 queries