عرض مشاركة واحدة
قديم 19/09/2009   #11
شب و شيخ الشباب Nasserm
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Nasserm
Nasserm is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
نقطة زرقاء باهتة
مشاركات:
998

افتراضي




8.



تجاوزت بي نور حد التحمل، وأصبحتْ تفهم جيداً كيف يسحرني المكان، ولذلك كانت لا تتعرى إلا في زوايا تفجّر روحي في العمق، غرفة في القيمرية ...قبو في باب شرقي ...سطح دار في ساروجة..حتى وصلنا إلى حارة اليهود ..هي تريد ذلك، ولكنني لم أعرف إلى أين سآخذها...إلى بيت إخاد ؟...والكارثتان هناك ؟ إلى بيت الساحر جاك ؟! بيت قذر ولا يليق بها ولا بي ...إلى بيت الطبيب المهجور ؟...سيكون هناك كائنات مخيفة تسكن في قاع البيت ..وفوضى، وشعور غير مريح ..
ـ لماذا تريدين حارات اليهود ؟!
ـ لأجلك أنت ..
ـ لم أقل لكِ شيئاً عن ذلك ..
ـ ولكنك في دورا أوروبوس كنت مذهلاً ..
ـ يعني لم أكن مذهلاً في مرات أخرى ..
ـ لا ..كنت دائماً تسحرني ..ولكن في دورا أوروبوس ..شعرتُ أنك تحاول افتتاح عالم مجهول وجديد ...عالم من الأساطير والأفكار والتفاصيل والألغاز ...حدثتني عن علم القبال ..وعن الحروف والأرقام ..وقلت لي كيف يقرأ اليهود المستقبل، وكيف يحسبون ما كُتبَ على لوح الأيام.
ـ أنت تشعرين بذلك ؟
ـ أشعر أنك تبحث عن جرّة ...أحياناً أظن أنها مخبأة في مكان ما من أماكن يهود الشام، وأحياناً أشعر انك لا تراها وهي بالقرب منك ..ولكن..كأنها جرة قديمة تحتوي على شيء ما ...جرّة روحانية ربما ..
ـ لا تثيرني روحانية اليهود ..ولكن أهتم بعقلانيتهم ..أصلاً لا أعتبر أن اليهود روحانيون ..هم يفكرون في كل شيء ..ويقضون حياتهم في التفكير، دون أن يسترخوا لحظة واحدة .
ـ لنذهب من هنا ..لن تعثر على أي مكان هنا ، هل تشرب النبيذ ؟..أنا أعزمك ..
ـ لا ..هنا الفودكا أطيب ..
ـ فودكا فودكا ...ولكن لا تشرب كثيراً ..حتى لا تجعلني أدفع كل ما معي ..

* * *

تظهر ليندا بعد كل تلك السنوات، أعثر عليها في عيادة طبيب الأعصاب، قرب المشفى الفرنسي بالقصاع، ماذا تفعلين هنا ؟
ـ عدتْ..
ـ من أين ؟
ـ من هناك..
ـ كيف؟
ـ لم يعد لديّ ما أفعله هناك..تزوجت من مزارع ..يزرع الزيتون، ولكنه لا يحب النساء ...
ـ لا يحب النساء !!
ـ لا أعرف.. ولا أعرف لم تزوجني أصلاً، ثم إنه يكره اليهود الشرقيين، يظن أننا إرهابيون..
ولكنها تغيّرت..وكبرتْ ...وأصبحت أصابع يديها أكثر حدة من السابق، وجلدها مشدود أكثر إلى عظام سلامياتها، وجهها مليء بالقوة واليأس معاً، وكأنها كانت تقاتل في الصحراء..
تدخن بشراهة، وتسحب الدخان إلى آخر إسفنجة في رئتيها، لم يفاجئها أنني ظهرت أمامها في الثانية بعد الظهر، وكأنها كانت تعرف أنها ستلتقيني.. ولكنها لم تكن فرحة، كانت مستسلمة لكل شيء.. توسّعت عيناها، صارت تشبه أنجلينا جولي أكثر... وشعرها الذهبي المشقّر بالصبغة، يحوّلها إلى كوماندوس بلباس سكرتيرة.

* * *

إخاد لا يتصرف بشكل طبيعي، يظن أنني لا أهتمّ بأفكاره، ولذلك فقد خمدت طاقاته التي بادرني بها عندما التقينا أول مرة، ويريد مني أن أساعده في شحنها من جديد ..
ـ افتح موضوعاً... هل ستبقى ساكتاً هكذا ؟
ـ ماذا أقول ؟
ـ قل أي شيء ...حدثني عن النساء.. عن البيرة ...عن الكتابة...عن الشعر ...عن أي شيء ..
ـ لا رغبة لديّ بالحديث ....
ـ ماذا تريد إذاً ؟
ـ لا أريد شيئاً..
ـ لماذا جئتَ إلى هنا ؟
ـ جئتُ كي أتحدّث مع زينب ...
ـ مع زينب!! عن ماذا ستحدثّها ؟...
ـ موضوع خاص...
ـ حسناً ..سأناديها ..ولكن كن هادئاً لأنها حذرة جداً مع الغرباء.
ـ مع الغرباء؟!..
ويذهب إلى الداخل.. وأبقى مع البيت الكبير ...ماذا سأقول لزينب ؟ لا كلام لدي ، ولا حتى قدرة على اختلاق حوار مجاملات ...الدقائق تمرّ..ببطء ..وبسرعة ...وهم يتحاورون بالعبرية ...أصواتهم بدأت تعلو..إنها تشتمه ..بينما لا يجيب هو ..وتشتمه مرة أخرى ولا يجيب.

* * *

بعد شهر ونصف، جاءتني سيارة ، وأخذني السائق في رحلة طويلة إلى قاسيون.. في الجبل.. حيث كان يقف، رجلٌ طويلٌ يرتدي بدلة زرقاء...ويضع نظارات شمسية من النوع الحديث جداً مثل نظارات بروس ويليس في فيلم (ابن آوى) ..
عرفتُ من يكون ...ابتسمت وأنا أقترب...فتح ذراعيه استعداداً لاستقبالي...وظلّه ينعكس على مرايا المقهى القاسيونيّ العالي الذي يطلّ على المدينة ويراها كقمر صناعي، يغلق أزرار الجاكيت بيدٍ وأصابعَ تتحرّك بثقة...ويبتسم من جديد...وهو يشعر أنني مليءٌ بالرضا الآن..لأنه فعل ما قلت له بدقة ومهارة.

* * *

ندخل إلى الغرفة السرية، حيث المحراب الذي يتجه إلى استانبول..السيوف المحترقة، والخشب الذائب كنحاسٍ يتناثر في كل مكان، الجدران تتقشّر بسبب المياه المندفعة من أنابيب الضخ لرجال الإطفاء الذين تعمّدوا تخريب كل شيء ..
بيت العابد... يحترق.. ولا طابق ينجو من النار والمياه.

* * *

كنت أحضّر لفيلم عن الحياة السرية لأهل المدينة، دمشق، الحياة التي لا يراها من ينظر إلى المدينة الآن، ويراها من زاوية أنها مدينة للتجار والمحافظين، جهّزت بعض الصفحات عن شارع البدويّ الذي كان المرجع الجنسي للمدينة.حيث تصطفّ البيوت في انحناء عجيب يميل من الجنوب إلى الشرق ليلتقي بحارة اليهود قرب ما صار يعرف فيما بعد بمدرسة ابن ميمون.
جاء إخاد وأخذني إلى بيتهم في محاولة جديدة منه لإقناع زينب بالجلوس معي ولو لدقائق ..
وعندما هبطت زينب من عليّتها، كنت قد عرفت أنني سأعثر على مادة جديدة لكتابة شيء ما عن هذا النوع من البشر... هذه ليست امرأة..وربما هي أكثر من ذلك بقليل ...دخلت في الشيخوخة ...وأصاب وجهها العنكبوت الزمني الذي يتغلغل في العروق والخلايا.
جلست وعيناها تتحرّكان بسرعة في كل اتجاه، بينما رأسها ثابت ويداها تفركان الهواء، هي أيضاً ترغب بالحديث معي.. هذا ما أدركته منذ لحظات، ولكنها تبحث عن موضوع.. وعن طرف خيطٍ تبدأ به سلاسل الكلام ...
ـ مازلتِ تريدين الذهاب إلى هناك ؟!
فاجأها السؤال ..وكأنها لم تتوقّع أن تنقطع كل تلك المسافة بثوان معدودات ...
ـ لا.
كانت جازمة، ومصرّة ..وواضحة في تلك الـ (لا).. ولكنها حزينة أيضاً، وكأنني سألتها هل مازلتِ ترغبين بالحياة ؟...
ولكنني قلت هل مازلت تريدين الذهاب إلى هناك ؟..وقالت لا ...
ومن أجل أن تخرج من ألم السؤال، نظرت إلى مدخل السرداب القديم..وإلى الحديد الذي يفصله عن البيت.. والتفتُّ إليها بسرعة ..
ـ وجدت نجيب .
صعقتْ زينب، وكأنها فوجئت بوجودها كلّه في هذه اللحظة.. وكأنها اكتشفت أن العالم يحيط بها لأول مرة منذ سنين طويلة.
كرّرتُ كلماتي ...وجدتُ نجيب ...والتقيته ..قولي لراحيل أنني عثرت على نجيب...

* * *

كان عشقاً مشتركاً بين الأختين.. واحدة تحب الفتى، والأخرى تحب الأرض التي ذهب إليها الفتى.. واحدة تفقد الفتى، والثانية تفقد الأرض التي ذهب إليها الفتى ...ولذلك فقد كانتا شخصاً واحداً... طفلتين سياميّتين..تعيشان منفصلتين.. دماغين مشتركين.. وروحين متعلّقتين بذات الفكرة.

* * *

ـ اذهبْ إلى جوبر يا إبراهيم ...عندما جاء الفرنسي لوران دارفيو ،الذي زار دمشق خلال رحلته الكبرى إلى الشرق الأدنى في العام 1660والتقى وقتها بجدي عزرا، كتب عن جوبر (تقع قرية جوبر على بُعد نصف فرسخٍ من دمشق، ولا يسكنها إلا اليهود دون أي اختلاط بقوم آخرين.
ولديهم هناك مغارة يقولون إن النبي إلياس اختبأ فيها عند هروبه من اضطهاد (إيزابل)، وهذه المغارة موجودة داخل كنيسٍ أثري ما زال قائماً هناك).. إن أحداً من اليهود لم يبق في جوبر منذ سنوات بعيدة، فكل سكانها الآن هم من المسلمين)..
قال إخاد هذه الكلمات.. وهو يحاول أن يدفعني لاكتشاف شيء جديد، ولكن ماذا أفعل بكل ذلك؟ أصبح وزنُ الوثائق أكبرَ من اهتمامي بها، ولستُ متفرغاً لكل هذا الهم.
حين تسلّلتُ قبل سنوات إلى مقبرة اليهود، ورأيت النواويس هناك وصوّرت شواهد القبور، لم يكن يخطر ببالي أن كلّ هذا سيحدث... كنت مهتماً بمعرفة مَن مِن يهود الشام قد تحوّل الآن إلى الإسلام؟.. وتتبعتُ مسارهم وتحولاتهم، لأعرف أن معظم من تحكّموا في مفاصل البلاد افتراتٍ طويلة، هم من يهود دمشق. هذه ليست نظرية مؤامرة، ولكنها وقائع، وتاريخ...حديث وقريب، ولا مشكلة في انتمائهم الدينيّ.. ولكنه ملفتٌ وغريب، ويستحق التوقف.

* * *

ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين. (جبران النبي)
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06661 seconds with 11 queries