عرض مشاركة واحدة
قديم 19/10/2009   #18
شب و شيخ الشباب قرصان الأدرياتيك
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ قرصان الأدرياتيك
قرصان الأدرياتيك is offline
 
نورنا ب:
Jan 2008
مشاركات:
1,446

افتراضي


الحديثُ الثّاني

وضعتُ الكتابَ جانباً وأخذتُ رشفةً طويلة من فنجان القهوة الممزوجة بقليلٍ من الحليب، ونظرتُ إلى السّاعة للمرّة الثّالثة وقلتُ في نفسي: لقد تأخّر كثيراً، ماذا حدث... أو ماذا يُمكن أن يحدثَ معه؟! هو لا يعرفُ أحداً في هذا البلد، فما الذي أعاقَه يا ترى؟! وازداد اضطرابي وقلقي، وخاصّة بعدَ محاولتي الاتّصالَ بهِ دون جدوى. وفي الحقيقة لم يكن بإمكاني فعلُ أيِّ شيء... إن أنا ذهبتُ إليه في منزله، فماذا يحدث لو وصلَ المقهى في تلك اللحظة ولم يجدْني؟! أشعلتُ سيجارتي ورحتُ أفكّر في ما عساي أفعل!

كنتُ في الحقيقة جالساً في مقهى جامعة الكسليك منتظراً صديقي محمّد الذي أخبرني قبلَ ساعتين أنّه خرجَ لتوّه من البيت قاصداً الجامعة للبحثِ في مكتبتِها عن كتابٍ يهمّه فصلٌ فيه، واتّفقنا على اللقاء أوّلاً في المقهى قبلَ أن يذهبَ كلٌّ منّا إلى عملِه... ولم يكن يلزمه لذلك سوى نصفِ ساعة راجلاً، وأربعين دقيقة إن أبطأ في السّير.

كانَ صديقي المصريُّ الأسمرُ قد استأجرَ غرفةً في منزلِ أرملةٍ يقعُ في أحد أحياء بلدة جونيه، ولم يكن يرغبُ في البقاءِ كثيراً في هذا المكان، فقد أخبرني أنّه في الشّهرِ القادم عازمٌ على السّكنِ في بيروت العاصمة، لأنّه اعتاد العيشَ على صخبِ المدنِ الكبرى!

وبينما أفكّرُ في هذا وذاك، قرّرتُ الذّهابَ إليه، فإن لم أجدْه أعودُ إلى هذا المقهى، وإن لم يكن فيه أنتظرُ ساعةً أخرى أتّصلُ بعدَها بالشّرطة... رفعتُ الكتابَ وأطفأتُ ما تبقّى من السّيجارة في المِنفضة، وأبعدتُ الكرسيَّ هامّاً بالنّهوض فلمحتُه من خلفِ زجاج الباب يُحادثُ فتاةً بيضاء كالثّلج فاتنةً كالرّبيع، فجلستُ أبتلعُ غضبي وأكتمُ غيظي الذي سبقني إلى وجهي... مرّت دقيقة دخلَ من بعدِها محمّد باسماً مسلِّماً وقد أشرقَ وجهُه والتمعتْ في عيناه ومضةٌ أدركتُ للحال أنّها تُخفي وراءَها قِصَّة.
- أهلاً... كنتُ أكفرُ بكَ قبلَ قليل، وأكفرُ بنفسي لأنّي قبلتُ بهذا الموعد و...
- مهلاً مهلاً... ما بكَ، وعلامَ احمرارُك؟!
- يا لبراءتكِ... حسبتُك لفرطِها فتاةً من وراء زجاجِ ذلك الباب (قلتُها ساخراً راسماً على ثغري ابتسامةً ماكرة)
نظرَ إلى البابِ ثمَّ إليَّ وسحبَ كرسيّاً وجلسَ دونَ أن يفوه بكلمة، ولربّما ما كانَ يعرفُ ماذا يقول... فبادرتُه:
- كنتُ ساذجاً حينَ وثقتُ بكلامِك وصدّقتُك بأنّك لا تعرفُ أحداً في هذه البلاد!
- صدّقتَ أم لم تصدّق هذا شأنُك لا شأني!
- لكنَّ ما رأيتُه هناكَ خلفَ الباب يكذّبُ قولَك
- أنتَ لا تعرفُ شيئاً... ولا تجيد إلا الإرشاد والمواعظ (قالها محتدّاً، فالتفتت إلينا رؤوسُ الروّاد)
- أنا أولى منكَ بالغضبِ والانزعاج، انتظرتُك لأكثرِ من ساعة ونصف، وبدلاً من اعتذارك، تنتهرني وتغضبُ لأنّي طلبتُ منكَ تفسيراً
- أنت لم تطلبْ شيئاً، أنتَ صرختَ في وجهي، وسخرتَ منّي و...
- رويدك رويدك، إن كنتُ أمازحُك بقولي، فهل يعني هذا بنظرِكَ أنّي صرختُ وسخرتُ...
- لم أعدْ أحتمل (ووقفَ محمّدٌ يريدُ الذّهابَ)
أمسكتُه من معصمِه الأيسر وقلتُ:
- اهدأ، ما هكذا تُوردُ الإبلُ... لنخلع عنّا العتابَ والغضب... اجلسْ أرجوك، صرنا فرجة الطلاب!
ووضعتُ كفّي الأخرى على كتفِه اليُمنى وابتسمتُ قائلاً:
- ألا يستحقُّ انتظاري جلوسَك؟

فجلسَ وقد احمرَّ وجهُه وعكستْ سحنتُه غضبَ أبي الهول، وفي الحقيقة كنتُ أنا أيضاً مُشتعلاً، لكنّي فضّلتُ كتمانَ ذلك في نفسي على إفسادِ اللقاء. جلسنا قليلاً صامتَين، يُفكّرُ كلٌّ منّا في ما يقول، فبدّدتُ الصّمتَ قائلاً:
- ماذا تشرب؟ سأحضرُ لي مزيداً من القهوة، وسأطلبُها هذه المرّة مضاعفةً لتستطيع أعصابي الصّمودَ أمامَك
- أحضر لي أنا أيضاً قهوة مضاعفة لأحتملَ ما بلاني اللهُ بهِ في هذا البلد (قالَها ورفعَ يدَه مُشيراً إليَّ)
وضعتُ القهوةَ أمامَه وأزحتُ كتابيَ مفسحاً المكانَ لعلبة التّبغِ والمِنفضة. رشفَ من فنجانِه رشفةً ثُمَّ قالَ:
- أنتَ تريدُ تبريراً لكلِّ شيء في لحظةٍ واحدة، وأنا من طبعي أن أقولَ ما أُسأل عنهُ شيئاً فشيئاً... اسمع إذن حكايتي: بعدَ أن أقفلتُ الهاتفَ عقبَ مكالمتي إيّاكَ، تعثّرتْ فتاةٌ أمامي وكانت تحملُ في يدها كيساً من التفّاح، وكي لا تقع على وجهِها تركتِ الكيسَ من يدها واستندتْ بها على الأرض، فتناثرتْ حبّاتُ التفاحِ في كلِّ مكانٍ، ودونَ تفكيرٍ منّي هُرعتُ إليها أسألها إن كانت تأذّت، ثُمَّ أعنتها على لملمة ما تناثرَ من التفّاحِ
- واللهِ وأقسمُ بالأهرام أنّك أنت من نصبتَ لها فخَّ العثار (قاطعتُه)
- لا تسخر... أنا جادٌّ في ما أقول... المهمُّ في الأمر أنّنا تعارفنا، ثُمَّ ذهبتُ أوصلُها إلى البيت القريب، وأصرّت هي أيضاً على مرافقتي إلى الجامعة. هذا كل ما في الأمر.
- آه... ! هذا فقط وفي ساعة ونصف؟!
- نعم، لم نأتِ توّاً إلى هنا، بل دعوتُها إلى مقهى قريبٍ لنشربَ شيئاً معاً ونواصلَ أحاديثَنا
- وأنا هنا أنتظرُ وأعصابي اهترأت لغيابِك دون عذر، وأنتَ تنعمُ بأحاديثِك ولا تكلّف نفسَك الإجابة على رنين الهاتف!
- لم يكن بإمكاني أن أفعلَ شيئاً آخر...
- ثُمَّ وما هي تلك الأحاديث الهامّة التي دارتْ بينكما وأنتما لا تعرفان بعضكما بعضاً إلا منذ قليل؟
- لا شيء، كنتُ أحدّثها عن نفسيَ وعن مصر
- عن نفسِك؟ وماذا قلت؟
- هل هذا استجواب؟!
- لا، لا... لكنّي غيران منكَ الآن وأودُّ أن... (تراجعتُ عن إكمالِ الكلمة، وهمتُ في سيجارتي أبتلعُ من دخانها ما لذَّ وطاب)
- تودُّ أن... ماذا؟!
- لا شيء كنتُ أريدُ أمراً لم أعدْ أريدُه الآن
- في ثانية واحدة أردتَه ثُمَّ لم تعدْ تريده؟ باللهِ عليك، وبحقِّ الصّداقة قلْ لي ماذا كنتَ تريدُ أن تقول؟!
نظرتُ إليه طويلاً مبتسماً وقلتُ:
- الصّديق عندَ الضّيق أليسَ كذلك؟ ولم أنتظر جوابَه، فأردفتُ: وكنتُ أودُّ التعرّف إليها و...
ضحكَ محمّدٌ ضحكته المدوّية وقال: يا لكَ من حسود! ستعرفُها قريباً لا تخف. قلتُ لهُ:
- وماذا تنتظرَ منها؟
- لا شيء...
- إذن لماذا تعرّفتَ إليها؟
- بالصّدفة، ثُمَّ ارتحتُ إليها
- وما دمتَ ألِفْتَها لمرّة واحدة، لماذا لا تفكّر في بناء صداقةٍ معها وخاصّة أنّك لا تعرفُ أحداً هنا؟
- لأنّي لا أؤمن بالصّداقة بين أنثى وذكر!
- ماذا؟ لم أفهمْ... كيفَ لا تؤمن بصداقةٍ كهذه، ولماذا؟
- لأنَّ الصّداقةَ يا صديقي هي قبلَ كلِّ شيءٍ صدقٌ وأمانة...
- إذن ما المشكلة؟ ألا يُمكنك أن تكونَ صادقاً وأميناً مع صديقةٍ أنثى؟!
- إن لم أكن صادقاً في كلِّ شيء وأميناً في كلِّ شيء، فقد أخللتُ بهما إطلاقاً
- إذن كن كذلك!
- قد أكونُه في كلِّ شيء ما خلا أمور الجسد، أعني حياتي الجنسيّة الحميميّة، وبهذا لا يُمكن لأنثى أن تكونَ صديقتي
- هل تخجل من الحديث عن حياتِك الجنسيّة الخفيّة أمام الأصدقاء؟!
- أنا لم أقل أصدقاء، وأنتَ بالذّات تعلمُ الكثير، لكنّي قلتُ "الصّديقة الأنثى"
- يا لك من مصريٍّ حقيقيّ... لا أعلمُ بماذا أجيبُك، لأنّك قهرتني والله، لا يُمكن بلوغ كمال الصّداقة إلا مع الأنثى، لا الذّكر!
- هذا عندَك، لا عندي...
- دعنا من هذا وذاك، هل ستذهبُ إلى المكتبة؟
- طبعاً، طبعاً... فالكتابُ مهمٌّ جداً ولا بُدَّ من الاطّلاعِ على الفصلِ الثّالثِ فيه
- إذن تذهبُ إلى المكتبة، وأذهبُ إلى بيتي بعدَ أن أضعتُ وقتي الثّمين هذا هباءً
- هباءً؟ يا لك من وغد... تريدُ إغضابي في كلِّ لحظة... هذا دأبك في كلِّ لقاء
- أُسرُّ بكَ غضبانَ والعرقُ يرشحُ من جبهتك السّمراء...
وقفَ محمّد وقالَ: لم يعد عندي الكثير من الوقت، أنا ذاهب، افعلْ ما شئت، وقلْ ما تريد...
ثُمَّ استدارَ وخطا نحوَ البابِ بخطاه الثّقيلة المعهودة، وما إن أمسكَ بدفّته يُريد الخروج، صحتُ:
- متى ألقاكَ؟! أجابَ وهو يخرج:
- يومَ البَعْث الأخير.

Mors ultima ratio
.
www.tuesillevir.blogspot.com
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07740 seconds with 11 queries