الموضوع: أنطون تشيكوف#3
عرض مشاركة واحدة
قديم 11/02/2009   #3
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


زيت البرافين

كان بيوتر بتروفيش أرملاً منفرداً , ولكي يؤنس من وحشته ويخف من عناء وحدته أسكن معه أخت زوجته البكر العانس (كان كل منهما يعيش على نفقته) ولبثا على هذا الحال ردحاً من الزمان.

وفي ذات ليلة دعى صاحبنا بيوتر إلى حفلة نفاس (سبوع) وكان رجلاً تقياً صالحاً ورعاً لا يذوق الخمر , ولكنه مجاراة للإخوان في تلك الليلة وسروراً بسلامة النفساء وصحة المولود شرب كأسين من الراح , ولا حبذا الراح إنها تغرى الشارب بالاستزادة ــ كماء البحر لا ينقع غليلاً كلما ازددت عطشاً.

لذلك لما انكفأ إلى بيته جوف الليل أحس ظمأ شديداً في أحشائه ويبساً في حلقه, وحذراً من إيقاظ أليفته وعشيرته أو إزعاجها خلع نعليه لما ولج باب المنزل وصعد السلم حافياً على مشطى قدميه كاللص حتى بلغ فراشه , ثم أراد النوم فأباه عليه ظمؤه وغلته.

فقال في نفسه :
- إن داشنكا (أخت زوجته) على ما أظن تخبئ في ركن الأيمن من خزانتها زجاجة من فودكا , فلو عمدت إلى هذه الزجاجة فأخذت منها قدحاً لم تفطن إلى ذلك ولم تشعر.


وبعد قليل من التردد تغلب على مخاوفه وعمد إلى الخزانة ففتحها بمنتهى الحذر , وتلمس الزجاجة في الركن الأيمن فأفرغ منها قدحاً ثم أعادها إلى مكانها (وصلب على صدره) والتهم القدح , وعلى إثر ذلك ثار في جوفه شيء كالمعجزة فأحس أن قوة خفية قذفت به من جانب الخزانة - كأنه بمبة - فصدمت به جدار الغرفة , واستطارت أمام عينيه لمحات برق خاطفة وانقطعت أنفاسه , وخيل إليه كأنما قد ألقى به في مستنقع مفعم من علق , وأنه بدلاً من الفودكا قد شرب (ديناميتاً) ينسف جسده والدار والحي برمته , وكأن رأسه وذراعيه ورجليه كلها يمزق ويطير في الهواء إلى جهنم !

ولبث طريحاً على الأرض الغرفة ثلاث دقائق لا حراك به ولاحس ولانفس , ثم نهض وساءل نفسه :
- أين أنا ؟
وكان أول ما أحس به لما عاد إلى صوابه رائحة شديدة من زيت الوقود المسمى (البارفين)
فقال في نفسه وملكه الرعب والجزع :
- يا الله ويا لقديسه وأولياه ! لقد شربت من البارفين بدل الفودكا.
ولما تبين له أنه قد سم نفسه عرته قشعريرة ما لبثت أن استحالت إلى حمى , واستدل على أن ما شربه سم بأشياء أخرى خلاف رائحة البارافين المستفيضة في
أرجاء الغرفة , كالهيب الذي كان يلذع لسانه وشفتيه , والبارقات المستطيرة أمامه والدقات الرنانة في رأسه والمغص المتسلط على أمعائه.


وكذلك لما أحس قرب يومه ودنو أجله , وانقطعت من الدنيا آماله وتمثل له شبح الموت لا ريب فيه ولا مناص منه – أراد أن يودع أقرب الناس إليه وأعزهم عليه – فعمد إلى مضجع العذراء داشنكا.

ودخل عليها الغرفة وهي في أعماق نومها , ورفع عقيرته بالأنين ينوح بصوت متوجع تتخلله الدموع :
(( داشنكا ! داشنكا ! عزيزتي داشنكا ! ))
فتقلب في الظلام شبح وتمتم بكلمات غير مبينة ثم تنهد.
- داشنكا ! داشنكا ! أختي داشنكا !
فارتفع صوت امرأة تقول بسرعة :
- إيه ! ماذا ؟ وماذا يا بيوتر بترفتش ؟ ما أسرع ما رجعت ! وماذا سمي المولود ؟ ومن عرابه ؟ وهل كان بالحفلة موسيقى ؟
- كان عرابه أندريفينا , وعرابته ناتاليا , ولكني أموت يا داشنكا ! إني أعاني سكرة الموت يا داشنكا ! – وقد أكلنا هنالك فطيرا ومكرونة – آه يا داشنكا إني في حالة النزع ! وقد سموا المولود أوليمبيادة , إني ... إني شربت بارافينا يا داشنكا !
- ما أظن أنهم يقدمون البارافين هنالك للضيوف كبعض المرطبات يا بيوتور !
- كلا يا داشنكا , وإنما الواقع هو أني – ولا أكذبك يا داشنكا – أردت أن أحسو قدحاً مما في خزانتك من فودكا دون اسـتئذانك , فانتقم لك الله مني فصب على سوط عذابه فألقى في يدي زجاجة البارافين بدلاً من الفودكا وقد شربت منها ... فماذا أصنع ؟
فلما سمعت داشنكا أن خزانتها قد فتحت بدون إذنها ازدادت تنبهاً واستيقاظاً .. ونفضت عن أعطافها غبار الكسل وثارت من مرقدها فأشعلت شمعة , وأقبلت تهرول في قميص النوم شنيعة المنظر قبيحة الشكل عجفاء رسحاء كلها جلد وعظام حتى بلغت الخزانة.
ثم صاحت بقسوة وغلظة وهي تفتش الخزانة :
- من أذنك أن تفتحها ؟ من أباحك أن تعبث بمكوناتها وتعيث فيها فساداً ؟ وهب أن بها زجاجة من الفودكا فهل تحسب أنها قد وضعت ثمت من أجلك ؟ ما أشد وقحتك وسماجتك وما أبردك !
قال بيوتر وانتكف العرق البارد عن جبينه :
- مهلاً يا داشنكا . تالله ما شربت فودكا ولكن بارافينا.
- ومالك والبارافين ؟ أي شيء يدعوك إلى مساس البارافين ؟ وهل كان البارافين قد وضع في الخزانة لأجلك وتحت تصرفك ؟ أم تحسب أن البارافين لا يشترى بالمال وأنه يسقط من السماء كالمطر أو ينبجس في أفنية الدور كالينابيع ؟ أتدري كم ثمن البارافين اليوم ؟ وغلى أي حد ارتفعت أسعاره ؟
فولول بيوتر وناح قائلاً :
- عزيزتي داشنكا ! إنها لمسألة حياة أو موت , تذكرين الأثمان والأسعار ! , انظري إلي بعين الرفق وهبيني من لدنك رحمة !

فصاحت داشنكا بصوت مزعج وأغلقت باب الخزانة بصدمة عنيفة :
لقد شرب الخمر حتى شربت الخمر عقله ثم جاء كالمجنون يعيث في الدار ويفسد , ويدس أنفه في الخزانة غيره , ياله من وغد خسيس وجان مجرم ومعتد أثيم, ويا ويح نفسي من أولئك الأشرار والفجار , لا أزال فريسة سطواتهم , وضحية غدراتهم , وهدف سهامهم في روحاتهم وغدراتهم , لا أخلو من شرهم ساعة واحدة لا ليلاً ولا نهاراً , نغص الله عليهم عيشهم في الحياة الدنيا , وأصلاهم في الأخرة نار جهنم َ! لأغادرن هذا الدار غداً , إني فتاة عذراء ولست أسمح لك أن تقف أمامي وأنت عار من أكثر ملابسك , وكيف تجترئ على أن تنظر إلي وليس على بدني سوى قميص النوم ؟


ولجت في غلوائها تسب وتلعن , ولما كان بيوتر يعلم أنه متى ثار شغبها وهاج غضبها فليس يسكن منه الدعوات ولا الرقى ولا الابتهالات , كلا ولا إطلاق مدفع في الهواء , طوح بيده يأساً وارتدى ملابسه وأزمع الذهاب غلى بعض الأطباء , ولكنك لن تجد الطبيب إلا منذ استغنائك عنه . فبعد أن اجتاز بيوتر سبعة شوارع وطرق أبواب خمسة أطباء بلا جدوى , أسرع إلى الصيدلية وقد حسب أنه ربما أصاب المنفعة عند الصيدلي . وبعد برهة خرج إليه رجل قصير دميم مجعد الشعر أسمر البشرة في جلباب النوم قد رنق في عينيه النعاس وعلى وجهه من أمارات البأس والوقار والهيبة والعقل والحكمة ما القلب روعة ورعباً .

وسأل بصوت ولهجة مما ليس يعهد إلا في متفلسفي الصيدليين وأجلائهم من طائفة إسرائيل :
- (ماذا تريد؟)
فقال بيوتر بصوت مبهور النفس لا يكاد ينبعث من حلقومه :
- ناشدتك الله ... سألتك بالله .. أغثني .. أعطيني شيئاً .. لقد شربت خطأ من زيت البارافين ... إني أموت !
- لا تهج أعصابك ! وأجب أسئلتي , فإن ثورانك يمنعني من فهم كلامك , تقول إنك شربت بارافينا ؟ نعم ؟
فمشى الصيدلي إلى مكتبه بكل جمود وبرود وفتح كتاباً وشرع يقرأ فيه باب المادة الطبية وبعد قراءة صفحتين هز إحدى كتفيه ثم الأخرى وكشر عن أنيابه وأطرق دقيقة ثم دخل الغرفة الملاصقة , ودقت الساعة أربعاً , ولما أشار عقربها إلى عشر دقائق بعد الأربع برز الصيدلي وفي يده كتاب آخر وانغمس ثانياً بين طياته, وقال بلهجة المتحير :
- إن كونك مريضاً لدليل على أنه قد كان من الواجب عليك أن تعمد إلى طبيب لا إلى صيدلي .
- ولكني قد عمدت إلى الأطباء فلم أستطع إيقاظهم .
- وكذلك لا تعدنا – نحن معشر الصيدليين – ضمن الأدميين , ولاتحسب أن لنا شعوراً وإحساساً , فأنت تقلق راحتنا وتنفر منا , في حين أن الكلاب البلد وسنانيرها تنال قسطها من النوم والراحة ... أنت لا تفهم شيئاً ولا تحاول أن تفهم , وفي نظرك أننا لسنا من دم ولحم ولكننا من صخر الأصم وأعصابنا من الفولاذ .
أنصت بيوتر إلى محاضرة الصيدلي ثم تنفس الصعداء وانطلق إلى منزله . وناجى نفسه قائلاً :
- وكذلك قد كتب على أن أموت , وإنا لله وإنا إليه راجعون !


وكان في حلقه لهيب وعلى لسانه مذاق البارافين في أحشائه نخسات ووخزات, وفي أذنيه دوى : بوم ... بوم ... بوم ... وفي كل لحظة كان يخيل إليه أنه جاء أجله وحان حتفه .
أسرع إلى البيت وتناول قلماً وقرطاساً فكتب ( لا يسأل أحد عن مصرعي ولا يؤخذ بمقتلي إنسان , أنا الذي جنيت على نفسي ) ثم أدى فريضة الصلاة وأصعد إلى عرش الله دعوات الاستغفار , ورقد وتغطى باللحاف ولبث يقظان حتى الصباح ينتظر ملك الموت , وجعل أثناء ذلك يتخيل قبره في بقعة خضراء يرف من حوله النور وتغرد فوقه العصافير .


وفي الصباح كان جالساً على فراشه سليماً معافى في عقله وبدنه آمناً مطمئناً أصح ما يكون وأسر وأشد ابتهاجاً .
وقال لصاحبته داشنكا وهو يبتسم :
- إن الرجل التقي الصالح الذي يؤمن بالله واليوم الأخر ليس تؤثر فيه السموم إن هو تجرعها خطأ يا أختي العزيزة , انظري إلي مثلاً , لقد أشرفت على الهلاك وقمت على حافة القبر , وعانيت سكرة الموت وألم النزع , وبعد كل هذا ترينني أمامك صحيحاً مسلماً , عدا لسعة في فمي وحرقة في حلقي , ولكني بخير والحمد لله ... ولماذا ؟ بفضل صلاحي واستقامتي .


قالت داشنكا وتنهدت وأخذت تفكر في غلاء الأسعار وتفقات العيش :
- ( كلا يا بيوتر ! إن عدم تأثير البارافين في أحشائك لا يرجع إلى صلاحك واستقامتك ولكن إلى كونه من صنف رديء مغشوش , ولم أستطع – يعلم الله – لضيق ذات يدي أن أشتري الصنف الأجود الأنقى , ولو اشتريت من ذاك لقطع أمعاءك وأوردك حتفك , وعلى فقري وفاقتي ومكابدتي الأمرين في سبيل إحرازي حاجياتي الضرورية أراك لا تتنزه ولا تتورع أن تسرق أشيائي , فياويلتي منك ومن سطواتك ! هلا تركتني وشأني ؟ هلا كففت عني من حدة بأسك وشرة بطشك ؟ هلا عففت عن زهيد أمتعتي ؟ ما أشقاني وما أبأسني وما أتعس حالي ! يا الله من أولئك الجبابرة الطغاة والشياطين المردة ! .. جزاكم في الدنيا شراً وفي الآخرة نقمة وعذاباً! .. يا عصبة السوء واللؤم ! .. )

واستمرت على هذا المنهج ...

Akhawia.net
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05997 seconds with 11 queries