عرض مشاركة واحدة
قديم 11/08/2008   #4
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


في تلك الليلة، بدا أن الزوجين قد اكتسبا فجأةً، إضافة إلى قدرتهما على الحركة، القدرة على الكلام. واستيقظ مارتيناتي على ضجة أصواتٍ ثائرة تصعد من قاعة الطعام، فذهب بثوب النوم وعلى رؤوس أصابعه، ليسترق السمع. كان صوت الملكة
تسهل معرفته، بتنويعات نغماته المزماريَّة والخادعة؛ أما صوت مارك أنطونيو، فكان غليظاً وعنيفاً. لكن الكلمات لم تكن مفهومة. ربما كانا يتحدَّثان باللغة اللاتينية، أو ربما بالإغريقية، أو ربما بلغةٍ شرقيةٍ ما.‏
بقي مارتيناتي مختبئاً خلف الباب، فترة من الزمن، يستمع إلى هذين الصوتين اللذين يتشاجران، مسحوراً، كما صرَّح بذلك لزوجته فيما بعد، بهذا الحوار في الظلام، بلغةٍ مجهولة قديمة وذات نبرات أجشَّة، استحضرت عالماً مفقوداً، بأكمله، أخيراً، وقد شعر

بالبرودة ترتفع من قدميه العاريتين عبر جسده كله، انحنى إلى الأمام وخاطر بقول: "صه!" حذرة. لكنهما تابعا نقاشهما كما لو أن الأمر لم يحصل. وعاد مارتيناتي، محبطاً، لينام، وظلَّ يسمع، طوال الليل، وهو نصف نائم، مساوماتهما في
الظلام، في قاعة الطعام المجاورة لغرفة نومه.‏
بعد تلك الليلة، ضاعف الشخصان علامات الحياة. أحياناً كانا يتكلَّمان، وأحياناً يتخذان أكثر الأوضاع غرابةٍ وأكثرها حريةً، وأحياناً أخرى، بصراحة، كانا يخرجان من بابٍ مرسومٍ على الخلفية، ويتركان اللوحة خاوية. وهذه الطريقة بالمغادرة، هي التي

كانت تزعج مارتيناتي خصوصاً. وكان يقول لنفسه، أوافق على أن يتجادلا ليلاً، وأوافق أيضاً على أن يتعانقا، ويتداعبا، الخ. أما أن يختفيا، فلا؛ كان ذلك يتخطى المألوف. فهو لم ينفق كل ذلك المال ليحصل على لوحة خالية. وكانت زوجته
ترد عليه قائلة: "إنه كان يثبت بهذه الكلمات، كعادته دائماً، أن تفكيره فظٌ ونفعي. فهذان الشخصان لم يكونا من المعدمين، الذين لا يملكون سوى غرفةٍ واحدة. كانا ملكة وقائداً رومانياً. والله وحده يعلم كم غرفةٍ يضم قصرهما! ومن
الطبيعي جداً أن يحتجبا من وقتٍ إلى آخر، متعبين، لكونهما مرسومين. وكان مارتيناتي يرد عليها بأنهما قد رسما ليوجدا في الإطار، وليس للذهاب ليتفرَّغا لأعمالهما الصغيرة، إلا أن أكبر عيب لهذين الشخصين الحيين جداً هو طبيعة علاقاتهما الصاخبة
وغير المتحفِّظة. وفي الوقت الحاضر، لم يعد ينقضي يوم أو ليلة، لا يتشاجران فيها، لسببٍ أو لآخر. وكانت نزاعاتهما المستمرة تحدث الكثير من الإزعاجات. فكانت، قبل كل شيء، تثير بين مارتيناتي وزوجته مشاجرات مماثلة، لأن زوجته كانت
تتحيَّز للمسكين مارك أنطونيو، الذي كان، تبعاً لرأيها، ضحية امرأة عديمة الحياء والذَّمة، بينما كان مارتيناتي يدافع برقَّةٍ عن الملكة الجميلة. ثم إنهما كانا بالجلجلة الحنجرية المتقطِّعة لصديقهما، يمنعان الزوجين من أن يتناولا طعامهما بسلامٍ نهاراً، تماماً،
كما يمنعانهما من النوم ليلاً. لم يعد هناك أدنى شك الآن في أن الشخصين حيَّان، وحيَّان جداً؛ لكن مارتيناتي بدأ يتمنى أن يكونا، على الأقل ليلاً وفي أثناء الوجبات، أقلَّ حياة.‏
وما زالا على هذه الحال، حتى أخذ مارتيناتي ينظر نظرةً مختلفة تماماً إلى اللوحات، التي كان يحتقرها فيما مضى، والتي جعله ابن أخيه يشتريها. صحيح أن النساء العاريات ذوات الأقدام الضخمة، والوجه الملتوي، والرجال الحول، والمشوَّهون، الذين

يسكنون تلك اللوحات، كانوا لا يتحرَّكون ولا يتكلَّمون؛ لكن الآن، بدت غير واقعيتهم مفضَّلةً أكثر بكثير من حيوية العاشقين الملكيين وباختصار كان أولئك العراة، وتلك الرسومات، يقومون بواجبهم، ألا وهو البقاء جامدين داخل الإطار. وأعلن مارتيناتي
لزوجته، أنه، بعد أن فكَّر جيداً بالموضوع، ربما كان الرسامون الحديثون على حق، بالرسم بهذه الطريقة، الخارجة عن كل مألوف، والبعيدة عن كل حقيقة. فالواقعية الحيَّة، على المدى الطويل، مثل واقعيةِ لوحةٍ قديمة، تصبح غير محتملة.‏
وبعد أن تردَّد كثيراً، حزم مارتيناتي أمره، أخيراً، في ليلةٍ، كان الصوتان يتشاجران فيها بشراسةٍ أعنفٍ من المعتاد، فذهب إلى قاعة الطعام، ورفع اللوحة، وحملها إلى السقيفة، دون أن يهتم بالحوار الدائر فيها، ووضعها أرضاً على مقعد قديم محطَّم. ثم

أعاد غلق الباب بالمفتاح، وعاد لينام من جديد.‏

ترجمة: وفاء شوكت
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03745 seconds with 11 queries