عرض مشاركة واحدة
قديم 10/09/2008   #9
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


أشباح الدروب

كان شابان وشابتان يسافرون معاً في سيارة رينو /5/, وقد توقفوا في الطريق لالتقاط امرأة ترتدي ملابس بيضاء , كانت قد استوقفتهم عند تقاطع طريق , بعيد منتصف الليل . كان الجو صافياً , وكان الشبان الأربعة – كما تم التأكد حتى الثمالة فيما بعد – يتمتعون بكامل قواهم العقلية .رافقتهم السيدة في الرحلة لعدة كيلو مترات وهي تجلس صامتة في وسط المقعد الخلفي , إلى ما قبل جسر "كاتري كامو" بقليل , حينئذ أشارت إلى الأمام بإصبع مرتعشة وصرخت (حذار , هذا منعطف خطر) واختفت في الحال .

حدث ذلك على الطريق العام , بين باريس و مونبليه . ومفوض شرطة هذه المدينة الأخيرة الذي أيقظه الشبان الأربعة ليرووا له الحادث , وصل به الأمر إلى القبول بأن ما قالوه ليس مزاحاً ولا هذياناً , لكنه حفظ القضية , لأنه لم يعرف ما عليه أن يفعل بها . وقد تناولت الحادث في الايام التالية جميع صحف فرنسا . وهرع عدد من علماء النفس , وأطباء العيون , ومحررو الريبورتاجات الماورائية الى مكان الرؤيا ليدرسوا ظروف وقوعها , زانهلكوا باستجواباتهم العقلانية الشبان الاربعة الذين اختارتهم السيدة ذات الملابس البيضاء . لكن النسيان طوى الامر برمته بعد عدة أيام , ولاذ العلماء والصحافة بتحليل واقع اكثر بساطة : ووافق اكثرهم تفهماً على أن الرؤيا قد تكون صحيحة , ولكن حتى هؤلاء فضلوا نسيانها امام استحالة تفسيرها .

أما أنا – وأنا مادي راسخ – فلا يراودني أي شك في ان ذلك الحادث , ما هو الا فصل آخر , ومن أجمل الفصول , في تاريخ تجسيد الشعر الغني . والعيب الوحيد الذي وجدته في القصة هو حدوثها ليلاً , بل وعند منتصف الليل , مثلما يحدث في أسوأ أفلام الرعب وبإستثناء ذلك , لا وجود لعنصر واحد فيها لا يتفق مع ميتافيزيقية الدروب , تلك التي شعرنا بها جميعنا قريبة منا اثناء إحدى رحلاتنا , لكننا نرفض الاستسلام امام حقيقتها التي تبعث القشعريرة في الجسم . لقد انتهينا الى القبول بأعجوبة السفن الشبحية التي تطوف جميع البحار باحثة عن هويتها الضائعة, لكننا ما زلنا نرفض منح هذا الحق لأرواح كثيرة بائسة ومحزومة , بقيت منثورة دون معنى على جوانب الدروب ففي فرنسا وحدها , سجل منذ بضع سنوات موت مئتي شخص أسبوعياً في أشد شهور الصيف جنوناً , وهكذا لا يمكن لنا أن نـفاجأ بوقوع حدث مفهوم تماماً , مثل حادث السيدة ذات الملابس البيضاء , الذي سيتكرر دون ريب حتى نهاية العصور . والعقلانيون الذين بلا قلب هم وحدهم من سيعجزون عن فهم ظروف تلك الاحداث .

لطالما فكرت و أثناء رحلاتي الطويلة على الدروب العالم الكثيرة , أننا معظم بني البشر في هذه الأزمة , لسنا إلا ناجين من الموت عند احد المنعطفات . وكل منعطف منها ما هو إلا تحد خاضع للحظ . ويكفي أن تصيب السيارة التي أمامنا أية محنة بعد المنعطف , حتى تضيع منا وإلى الأبد فرصة رواية ما حدث . لقد أصدر الانكليز , في السنوات الأولى لاختراع السيارة , قانوناً خاصاً(The Locomotive Act) يفرض بموجبه على كل سائق أن يرسل أمامه شخصاً راجلاً يحمل راية حمراء ويرن جرساً , لكي يتاح للعابرين الوقت الكافي للابتعاد من امام السيارة . وفي أحيان كثيرة , وبينما انا أضغط على دواسة البنزين لأغرق في اسرار احد المنعطفات الغامضة , كنت أتأسف في أعماق روحي لأن مرسوم الانكليز الحكيم ذاك قد الغي , وقد أحسست بذلك على نحو خاص في إحدى المرات , منذ خمسة عشر عاماً , أثناء رحلة كنت أقوم بها من برشلونة الى بيربينيان ومعي مرسيدس والطفلان , وكنت أسير بسرعة مئة كيلومتر في الساعة حين راودني فجأة إلهام لا تفسير له , يدعوني الى تخفيف السرعة قبل ان اصل المنعطف . ومثلما يحدث دوماً في مثل هذه الحالات , فقد تجاوزتنا السيارات التي كانت وراءنا . لا يمكننا نسيان تلك السيارات أبداً : شاحنة صغيرة بيضاء , وفوكس فاجن حمراء , وفيات زرقاء . بل إنني مازلت أذكر الشعر المجعد الأشقر للهولندية الأنيقة التي كانت تقود الشاحنة الصغيرة . وبعد ان تجاوزتنا تلك السيارات الثلاث في نظام كامل , اختفت عن أعيننا في المنعطف , لكننا ما لبثنا أن التقينا بها بعد لحظة , وبعد اختلطت ببعضها بعضاً , في ركام من الخردة المدخنة , مصطدمـة بشاحنة ضخمة كانت قادمة من الاتجاه المعاكس . الناجي الوحيد في ذلك الحادث كان طفلاً عمره ستة شهور , وهو ابن الزوجين الهولنديين .

لقد عدت للمرور من ذلك المكان مرات كثيرة , وفي كل مرة كنت أعود للتفكير في تلك المرأة الجميلة . التي تحولت الى كومة من اللحم الوردي في عرض الطريق . لقد كانت هارية تماماً بفعل الصدمة , وقد منح الموت رأسها الجميل الذي يشبه رأس امبراطور روماني , مسحة من وقار . وليس مستغرباً ان يلتقي بها أحد المسافرين يوماً في مكان محنتها , حية وتامة, تشير له أن يتوقف مثلما أشارت سيدة مونبليه ذات الثياب البيضاء , ليخرجها أحد من سباتها للحظة , ويمنحها الفرصة لتحذره بالصرخة التي لم يطلقها أحد لتحذيرها : (حذار , هذا المنعطف خطير) .

ليست حكايات الدروب السرية اكثر شعبية من حكايات البحر , لأنه ليس هناك من هم اكثر شروداً من السائقين الهواة . اما المحترفون - الذين هم أشبه بالبغالين القدماء – فهم مصدر لا ينضب للحكايات العجيبة . ففي استراحات الطرق العامة , مثلما كان الامر في محلات استبدال أحذية البهائم القديمة , لا ينقطع السائقون المجربون , الذين يبدون انهم لا يؤمنون بشيء , عن رواية الاحداث الماورائية لمهنتهم . وخصوصاً ما يحدث منها في عز النهار , بل وفي الدروب المطروقة أكثر من سواها . في صيف عام 1974 , وفيما انا مسافر مع الشاعر الفارو موتيس وزوجته على الطريق ذاته الذي ظهرت عليه السيدة ذات الملابس البيضاء , رأينا سيارة صغيرة تخرج من رتل السيارات الطويل المتوقف بسبب الازدحام , وتتقدم نحونا من الاتجاه المعاكس بسرعة جنونية . تمكنت من تفاديها بصعوبة شديدة , لكن سيارتنا طارت في الفضاء وهوت في قاع الحفرة التي الى جانب الطريق . وقد تمكن عدة شهود من تثبيت صورة السيارة الهاربة في مخيلتهم : كانت سيارة بيضاء اللون , من طراز سكودا , وقد سجل رقم لوحتها ثلاثة شهود مختلفين . قدمنا الشكوى المناسبة في مفوضية الشرطة الس أن بروفانس , وبعد بضعة شهور ثبت للشرطة الفرنسية دون مجال للشك , ان السيارة السكودا البيضاء , ذات اللوحة المذكورة , موجودة بالفعل . ولكن ثبت لهم كذلك انها ساعة وقوع الحادث في أقصى فرنسا من الجهة الاخرى , محفوظة في المرآب , بينما كان صاحبها وسائقها الوحيد يحتضر في مستشفى قريب .


من هذه التجربة , وغيرها كثير , تعلمت ان احترم الطرق العامة احتراماً أقرب الى الخشوع . ومع ذلك , فإن اكثر الحوادث التي أذكرها إثارة للقلق هو ما حدث لي منذ سنوات طويلة , في مركز مدينة مكسيكو . كنت قد انتظرت سيارة أجرة لمدة نصف ساعة تقريباً , عند الساعة الثانية بعد الظهر , وكنت على وشك التخلي عن الانتظار عندما رأيت سيارة تقترب , وقد بدت لي للوهلة الاولى فارغة الا من سائقها , والعلامة التي تشير الى ذلك كانت مرفوعة ايضاً . ولكنها ما ان اقتربت بعض الشيء حتى رأيت , دون أي ريب , ان ثمة شخصاً يجلس الى جوار السائق . وعندما توقفت السيارة , دون ان أشير اليها , انتبهت الى خطأي : لم يكن يوجد اي راكب الى جانب السائق . واثناء الطريق , رويت له عن ذلك الخداع البصري , فأصغى إلي بكل تلقائية , ثم قال لي : " هذا يحدث على الدوام . في بعض الأحيان أقضي النهار كله في اللف والدوران , دون أن يوقفني أحد , لأن الجميع تقريباً يرون راكباً وهمياً في المقعد الذي إلى جانبي " . وحين رويت هذه القصة لدون لويس بونويل , بدت له طبيعية جداً مثلما بدت للسائق , وقال لي أنها بداية موفقة لفيلم سينمائي" .


  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05709 seconds with 11 queries