الموضوع: أسبوع وكاتب ...
عرض مشاركة واحدة
قديم 27/09/2006   #60
شب و شيخ الشباب TheLight
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ TheLight
TheLight is offline
 
نورنا ب:
May 2006
المطرح:
عند ساركوزي اللعين..
مشاركات:
3,091

افتراضي


التتمة

قد لا تصدقون ذلك ،ولكن كبرى مشاكلي في الكتابة كانت مع الورق. إذ ترسخ لدي اعتقاد بأن الأخطاء الطباعية أو الإملائية أو أخطاء النحو هي في واقع الأمر أخطاء في إبداع الكاتب. ومن ثم فإني كلما اكتشفت أحد هذه الأخطاء كنت أسارع بتمزيق الورقة كلها أشلاء وأبدأ من جديد. كانت مرسيدس تصرف ما يقرب من نصف ميزانية المنزل لشراء رزم الأوراق التي ما كانت لتستمر لأكثر من أسبوع. وربما لهذا لم أجرؤ على استخدام ورق الكربون.
مشاكل بسيطة مثل هذه ضيقت حولنا الخناق حتى لم يعد لدينا من الجهد ما نقاوم به الحل النهائي والذي كان يتمثل في رهن السيارة التي اشتريناها حديثا دون أن تخامرنا شكوك في أن يكون العلاج أشد خطورة من الداء. ذلك أننا علي الرغم من سدادنا الديون المتأخرة بقي لنا أن نسدد الفوائد الشهرية التي بدت كأنما تغلنا من عنقينا في هاوية من الجحيم. ولحسن حظنا أن صديقنا (كارلوس مدينا قد تطوع بتسديد هذه الفوائد ليس عن شهر واحد فحسب بل عن عدة شهور،واستطعنا بذلك أن ننقذ السيارة. ومنذ سنوات قليلة فقط علمنا أنه اضطر إلى رهن أحد ممتلكاته ليسدد فوائد ديوننا.
بدأ الأصدقاء المخلصون يقسمون أنفسهم إلي مجموعات لزيارتنا كل ليلة، وكانوا يأتون وقد اشتروا بالصدفة الكتب والمجلات،أو أنهم يمرون بالصدفة أيضا لدي عودتهم من السوق محملين بالمشتريات.كارمن وألبارو موتيس كانا أكثر المواظبين على زيارتنا، وأصبح علي بشكل مستمر أن أحكي لهما فصلا من الرواية الجديدة، وكنت أجهد لأبتكر لهما حكايات مما أحفظه للحالات الطارئة،لأنه كان في ظني في ذلك الوقت أن قص ما عكفت علي كتابته حقا كان ليخيف العفاريت.
كارلوس فوينتس على الرغم من خوفه من الطيران كان يقطع العالم ذهابا وإيابا، وكانت عودته دائما عيدا لنا نتناقش فيه حول أعمالنا الجديدة كما لو كنا شخصا واحدا. واعتبرت ماريا لويس أليو وزوجها خومي جارثيا ما كنت أرويه علامة علي العناية الإلهية. وعلى هذا فلم أتردد علي الإطلاق في إهداء الكتاب لهما. وشعرت حينذاك أن ردود الأفعال والحماسة التي تحيطني من الجميع بمثابة أشعة نور تضيء لي طريقي إلي الرواية الحقيقية.
لم تعد مرسيدس تحدثني عن القروض ومشاكلها حتى مارس من عام 1966 أي بعد عام من بداية كتابة الرواية وذلك بعد أن أصبح متأخرا علينا ثلاثة أشهر من الإيجار. كانت تتحدث مع المالك في الهاتف كما اعتادت دائما لتحاول تهدئته ليصبر علينا في الدفع .وفجأة وضعت يدها على سماعة الهاتف لتسألني عن الوقت المتبقي للانتهاء من ذلك الكتاب. وبالنظر إلى القدر الذي أنجزته في عام من الكتابة حسبت أنه يتبقى لي حوالي ستة شهور وعندئذ قالت مرسيدس للمالك الصبور في ثقة ودون أية رجفة في صوتها:
_ نستطيع أن نسدد لك كل شيء خلال ستة أشهر.
_ اعذريني سيدتي_ قال المالك في دهشة_ ولكن ألا ترين أن المبلغ سيكون ضخما حينذاك؟!
_ نعم أنا أدرك ذلك_ قالت مرسيدس_ ولكن في ذلك الوقت ستكون جميع مشاكلنا قد حلت. فلتهدأ إذا.
كان الرجل واحدا من أكثر من عرفت ذوقا وصبرا ولذلك فقد قال بصوت مرتعش:
_ حسنا سيدتي.. تكفيني كلمة منك. ثم قام بحساباته وقال
_ سأنتظر المبلغ في السابع من سبتمبر القادم.
وقد أخطأ الرجل. ففي الرابع من سبتمبر ومع أول شيك أتلقاه بشكل غير منتظر إطلاقا عن الحقوق الأدبية للطبعة الأولي دفعنا له.
والواقع أن الشهور الستة الأخيرة كانت شاقة للغاية. وأخذ الأصدقاء المقربون المطلعون على الأحوال يزيدون من زياراتهم لنا محملين على الدوام بكل ما يساعد على مواصلة الحياة.
وهناك أصدقاء آخرون مثل لويس ألكرويثا وزوجته الأسترالية جانيت ريسنفيلد اللذين لم يكونا من معتادي الحضور إلينا، ولكنهما كانا يقيمان في منزلهما حفلات تاريخية مع الكثير من الأصدقاء ومجموعات من الفتيات يفوق جمالهن ممثلات السينما. وفي كثير من المرات كانت هذه الحفلات تتخذ ذريعة لرؤيتنا. كان لويس هو الإسباني الوحيد الذي يقدر_ خارج إسبانيا علي صنع الجعة التي تماثل ما تشتهر به فالينسا. أما هي فقد كانت قادرة علي حملنا في الهواء برقصها الكلاسيكي الرائع. أما آل جارثيا ريرا العاشقون للسينما فقد كانوا يدعونا إلى منزلهم أيام الآحاد حيث يشبعاننا بقدر من السعادة يساعدنا على مواجهة الأسبوع المقبل في ذلك الوقت كنت قد تقدمت في الرواية للحد الذي سمح لي برفاهية الاستمرار في غزل الحكايات التي كنت أبتكرها في جلسات الأصدقاء. وكنت أندهش من السرعة التي تنتقل بها هذه القصص بين الأفواه بل ومن التفاصيل التي تضاف إليها في تلك الأثناء.

في نهاية شهر أغسطس ومن يوم لآخر بدا لي أنني أوشك على اللحظات الأخيرة من الرواية ، ولأني لم أستخدم ورق الكربون فلم تكن لدي نسخ أخرى من هذا الجزء بشكل جعل النسخة الأصلية تتكون فقط من ألفي ورقة من القطع الصغير. وكان هذا بمثابة وليمة رائعة لاسبيرانثا ارياثا أو بيرا التي لاتنسي. كانت بيرا ملجأ للشعراء والسينمائيين. فقد اعتادت في أوقات فراغها أن تنسخ بشكل واضح للغاية بعضا من أكبر أعمال الكثير من الكتاب المكسيكيين ومنها 'المنطقة الأكثر وضوحا' لكارلوس فوينتس 'وبدرو بارامو' لخوان رولفو والعديد من سيناريوهات الأفلام. وعندما طلبت منها أن تنسخ لي الرواية في شكلها الأخير كانت المسودة مرقعة تقريبا ومشوهة بالإصلاحات، مرة بالحبر الأسود وأخرى بالأحمر لتجنب الخلط. غير أن هذا لم يكن بالأمر الصعب على امرأة متمرسة مثل بيرا التي لم تقبل المسودة بدافع الفضول لقراءتها فحسب، بل وافقت علي أن أدفع لها ما أستطيعه علي أن يؤجل الباقي حتى أحصل علي حقوق المؤلف.
كانت بيرا تنسخ فصلا كاملا في الأسبوع بينما أقوم أنا بإصلاح الفصل التالي بأحبار من ألوان مختلفة لتحاشي التشويش. ولم يكن هدفي من تلك الإصلاحات اختصار الرواية أو جعلها أقصر، ولكني فقط كنت أرغب في أن أصل بها إلى أقصي درجات الكثافة حتى أنه لم يتبق منها في النهاية سوى نصف الأصل.
بعد صدور الرواية بسنوات اعترفت لي بيرا بأنها عندما كانت تحمل الفصل الثالث من الرواية إلى المنزل انزلقت قدمها عند النزول من الحافلة بفعل بركة من ماء المطر وقالت لي إن الأوراق راحت تطفو علي صفحة البركة الموحلة. وقامت هي_ بمساعدة من الركاب الآخرين_ بجمع الأوراق بعد أن أصبحت مبتلة تماما ومهترئة وأخذتها إلي المنزل وقامت بتجفيفها بقطعة قماش، ومن أكثر المواقف التي مرت بي مع بيرا طرافة هو ما حدث في أحد أيام السبت عندما لم أكن قد انتهيت من تصحيح الذي كانت ستتسلمه مني فاتصلت بها وقلت لها إني سأحضره لها يوم الاثنين. وبعد حديث طويل تجرأت وسألتني عما إذا كان أورليانو بونديا سينام في النهاية مع ريمديوس موسكوت. وعندما أخبرتها بأن هذا سوف يحدث أطلقت زفرة ارتياح وقالت:
_ حمدا لله.. إذا لم تكن أجبتني ما كنت لأنام حتى يوم الاثنين.
في ذلك الوقت وصلني خطاب غير متوقع من باكو بروا _الذي لم أكن قد سمعت به من قبل_ يطلب مني فيه حقوق نشر جميع أعمالي لدار النشر سود أمريكانا التي يرأس القسم الأدبي بها،وأخبرني أنه يعرف أعمالي جيدا لأنه قرأ الطبعات الأولى منها. في الواقع كاد قلبي يتمزق ذلك أن كل هذه الأعمال كانت موزعة بين دور نشر مختلفة ومرتبطة بعقود طويلة المدى ولم يكن من السهل علي الإطلاق التحرر منها. كان عزائي الوحيد فكرة طرأت لي فكتبت أخبره أني علي وشك الانتهاء من رواية طويلة جدا لست ملتزما بها تجاه أية جهة ، وأني أستطيع أن أرسل له النسخة الأولى منها في غضون أيام.
وافق باكو على الاقتراح في برقية أرسلها لي،كما أرسل لي في البريد شيكا بخمسمائة دولار كمقدم كانت تكفي بالكاد لدفع الإيجار المتأخر علينا والذي لم نكن نعرف كيف سنسدده بعد أن أخطأت في حساب الوقت الذي سأنتهي فيه من كتابة القصة. وعلي أية حال فقد كانت النسخ الثلاث الواضحة التي نسختها بيرا بورق الكربون جاهزة في أسبوعين أو ثلاثة. كان ألبارو موتيس هو أول قارئ للنسخة النهائية قبل إرسالها. لقد اختفي لمدة يومين وفي الثالث حادثني هاتفيا وهو يتفجر بذلك الغضب المحبب عندما اكتشف أن روايتي لا علاقة لها في الواقع بما كنت أرويه لأرفه عن الأصدقاء -والذي كان بدوره يقصه علي أصدقائه- وصاح بي قائلا:
_ لقد جعلتني أبدو مثل الخرقة البالية.. إن روايتك لا تمت بصلة لتلك التي كنت تحكيها لنا . ثم انفجر في الضحك وأضاف
_ ولكن الجيد في الأمر أنها أفضل بكثير.
لا اعرف إذا كنت في ذلك الوقت قد وضعت عنوانا للرواية أو متى أو أين أو كيف خطر لي ذلك العنوان كما لا يستطيع أي من الأصدقاء تحديد ذلك بالمرة. هل يستطيع أي مؤرخ خصب الخيال أن يفعل بي معروفا ويبتكر إجابة مناسبة؟!
كانت النسخة التي قرأها ألبارو موتسي هي التي أرسلت على مرتين إلى بوينوس أيرس أما الثانية فقد حملها بنفسه بعد أيام إلي نفس المكان في إحدى رحلاته وبالنسبة للثالثة فقد أخذ الأصدقاء الذين وقفوا معنا في المحنة يتداولوها فيما بينهم.
عندما تسلمنا النسخة المطبوعة الأولى من الكتب في يونيو 1967 قمت أنا ومرسيدس بتمزيق المسودة التي استعانت بها بيرا في عملية النسخ. لم يخطر في بالنا حينذاك أنها من الممكن أن تكون أعلى قيمة من جميع النسخ الأخرى بكل ما فيها من تصويبات وبالفصل الثالث غير المقروء بفعل ماء المطر وعملية الكيّ التي تعرض لها. وفي حقيقة الأمر فإن غرضي لم يكن بريئا أو أمينا، ذلك أني مزقت المسودة حتى لا يتمكن أحد من معرفة واكتشاف أسرار الصنعة. وعلى الرغم من ذلك فأعتقد أنه مازالت هناك في مكان ما من العالم نسخ أخرى مكتوبة بخط اليد وخاصة النسختان اللتان أرسلتا إلى دار سود أمريكانا. وقد فكرت دائما أن يكون باكو بروا محتفظا بهما حتى الآن غير أنه نفي ذلك تماما وبالنسبة لي فإن كلمته كالذهب.
عندما أرسلت لي دار النشر تجربة الطباعة الأولى حملتها بما فيها من تصويبات إلى احتفال في منزل آل ألكوريثا، وكان السبب الأول في ذلك هو أن ضيف الشرف في ذلك الحفل كان هو المخرج لويس بونيويل. وكان بونيويل يري أن فن التصحيح ليس المقصود منه الوصول للأفضل بقدر ما يهدف إلي الاستكشاف. رأيت مدى السعادة التي ارتسمت علي وجه ألكوريثا بفعل هذا الحوار بين ضيفيه، وعلى هذا فقد قررت علي الفور أن أهديه هذه النسخة من التجربة الطباعية. وكتبت في الإهداء جملة اعتبرتها جانيت ولويس مكررة ولكنها كانت صادقة: ((من أكثر صديق أحبكما في هذا العالم) وبجوار الإمضاء كتبت التاريخ 1967 وربما يرجع تعليق جانيت ولويس بخصوص الجملة المكررة إلى إهداء آخر كنت قد كتبته إلى ألكوريثا في كتاب سابق. ولكن بعد 28 عاما من هذه الواقعة وبعد أن حققت مائة عام من العزلة ما حققته وانطلقت إلى الآفاق وفي اجتماع شهده نفس المنزل علق أحد الحاضرين قائلا إن الإهداء الموقع على تجربة الطباعة ليساوي ثروة، فقامت جانيت وأخرجت النسخة وعرضتها على الجميع،وهنا وقف الكوريثا وراح يخبط بقبضتيه علي صدره ويصبح بصوت جهوري:
_ أفضل أن أموت عن أن أبيع تلك الهدية الثمينة التي خصني بها صديق.
وبين تصفيق الجميع أخرجت نفس القلم الذي استخدمته في المرة السابقة والذي مازلت أحتفظ به حتى الآن وكتبت تحت الإهداء الأول الذي مضي عليه 28 عاما: (تم التأكيد 1985) ووقعت مرة أخرى: جابو.
وهذه الوثيقة التي تتكون من 180 ورقة تحتوي على 1026 تصويبا بخطي هي التي ستعرض في المزاد في برشلونة دون مشاركة مني أو فائدة تعود علي من ذلك. وأعتقد أنها عملية شرعية تماما على الرغم من القلق الذي ساور البعض بسبب ضرورة الحصول علي النسختين الأخريين في بوينوس أيرس ، بما فيهما من تصويبات،والواقع أن هاتين النسختين لا تحتويان علي أية تصويبات لأنني أرسلت التصويبات إلى دار النشر في قائمة مستقلة كتبت علي الماكينة.
لقد توفي لويس ألكوريثا عام 1992 في الواحد والستين من عمره في منزله بكورناباكا وتبعته جانيت بعد ذلك بست سنوات. وأكثر ما يعلق في ذهني من هذه الذكريات هو الظلم الذي استشعرته لأن جانيت ولويس عاشا سنواتهما الأخيرة وهما يمتلكان بعض الأوراق التي تساوي آلاف الدولارات ولكنهما رفضا بيعها لأنها هدية من أكثر صديق أحبهما في العالم.

نهاية مقال ماركيز

I am quitting...
 
 
Page generated in 0.07954 seconds with 11 queries