عرض مشاركة واحدة
قديم 11/01/2008   #50
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


التنشة الاجتماعية لجعفر الراوي:
حين نمضي مع المبدع متابعين شخصية جعفر الراوي سنلاحظ أنه بإيجازه المعجز يقدم إلينا شخصيته منذ البداية، وبأجلي وضوح، فلا نعثر علي كلمة زائدة، ولا نجد تعبيرًا يحتاج إلي مزيد من التفصيل أو الإضافة، وهذا هو جوهر الأصالة، ومحور إعجاز الإيجاز.
وإذا ما كانت الأصالة بالمعني السيكولوجي هي: الجدة والطرافة وعدم التكرار والملاءمة لمقتضي السياق، فإن شخصية جعفر الراوي شخصية أصيلة لا نجدها مكررة بذات الخصائص عند المبدع، إذا تتبعنا أعماله السابقة، كذلك فإن معالم هذه الشخصية وتفصيلاتها، كما وردت في سياق العمل، هي معالم وتفصيلات أصيلة وغير مكررة، وملائمة للسياق وللاتجاه الأساسي للشخصية.
ومع تقدم العمل يزيد نجيب محفوظ الشخصية أصالة وتفردًا، وها هو ذا، مثلاً، حين يتحدث عن أمه يتناولها من الجانب الثري الذي أخصب رؤاه وخبراته منذ الصغر يقول بعد أن يصف موت أبيه وبقاءه وحيدًا مع أمه بلا مورد رزق، طريدين من رحمة جده الثري ـ يقول:
ـ أحيانًا أحاول أن أتذكر صورة أمي، فلا أعثر علي شيء ذي بال، يدها فقط التي بقيت معي، أحس حتي الساعة بها وضغطها وشدها وانسيابها، وهي تمضي بي من مكان إلي مكان خلال طرقات مسقوفة ومكشوفة، وتيارات من النساء والرجال والحمير والعربات أمام الدكاكين، وفي الأضرحة والتكايا، وعند مجالس المجاذيب وقراء الغيب وباعة الحلوي واللعب، تقودني من جلبابي، وعلي رأسي طاقية مزركشة تتدلي من مقدمتها تعويذة كالحلية، وكانت أحاديثها متنوعة ذات صبغة شعرية، تختلط بها الكائنات جميعًا كلا بلغته الخاصة به، فهي تخاطب الله في سمائه، وتخاطب الأنبياء والملائكة.. حتي الجن والطير والجماد والموتي، وأخيرًا ذلك الحديث المتقطع بالتنهدات، الذي تناجي به الحظ الأسود.
الرحلة شاقة ومضنية، وعملية التنشة الاجتماعية المبكرة ترسم إلي مدي بعيد جزءًا جوهريًا من خصائص شخصية البطل، كما أنها سوف تكون بمثابة مقدمات تفضي حتمًا إلي نتائج سوف ننساق إليها مع سياق العمل في الأجزاء التالية:
ونجيب محفوظ يقدم لنا هذا الرسم السيكولوجي السوسيولوجي لمكونات شخصية جعفر الراوي، لأنه بعد ذلك سيضطر إلي أن يتصعلك كما تصعلكت به أمه من قبل، ولكي يكون قادرًا علي التصعلك وراغبًا فيه، غير هياب منه أو متوجس من مغبته، فلابد أن يكون قد عاش ولو علي هامشه من قبل.. هكذا بإيجاز ملائم ومفيد، وبشكل لا يخل أبدًا بسياق العمل ولا يخرج عليه.. بل نحس ونحن نقرأ، قبل أن نتقدم معه ونشعر بأهميته لما سوف يأتي من أجزاء ـ نحس أننا محتاجون إليه (هنا والآن)، من أجل معرفة المزيد من خصائص شخصية جعفر الراوي.
لنمض مع نجيب محفوظ في رواية قلب الليل، من أجل مزيد من معرفة أهم مفاهيمه الإبداعية، أعني إعجاز الإيجاز، يقدم لنا الكاتب جعفر الراوي من أكثر من زاوية، قال بكبرياء: (ص 20).
ولا تتخيل أنك تعرف من الدنيا نصف ما عرفت.. لا توجد خرافات وحقائق، ولكن توجد أنواع من الحقائق تختلف باختلاف أطوار العمر، وبنوعية الجهاز الذي ندركها به، فالأساطير حقائق مثل حقائق الطبيعة والرياضة والتاريخ، ولكل جهازه الروحي.
إننا في هذا الموضع أمام جعفر الراوي المتفلسف، الذي يتعامل مع الأشياء وفقًا لنسبيتها.. وهذا ما يتأكد في أكثر من موضع، ففي (ص 22) مثلاً يقول: إن الجن تختفي من حياة الفرد مع اختفاء عهد الأسطورة، وسرعان ما ينساه تمامًا، بل إنه ينكرها، رغم أنه يلقاها كل يوم في صور جديدة من البشر.
التكيف النفسي والقدرة علي النسيان: يصف لنا نجيب محفوظ أيضًا بإيجاز محكم حقيقة علي جانب كبير من الأهمية، من ذلك التكيف النفسي، والتوافق مع الموضوعات الجديدة في حياة الإنسان خصوصًا صغار السن، يقول: كانت الحياة الجديدة حلمًا بديعًا، نسيت الماضي كله، نسي القلب الحنون أمي الراحلة التي لم أزر لها قبرًا، حلمت بها ذات ليلة، ولما استيقظت شعرت بثقل قلبي وبكيت، ولكن القلوب الصغيرة تتعزي بسرعة.
ويزيد نجيب محفوظ الشخصية إيضاحًا من حين إلي حين، ولكن بأصالة فيها إعجاز الإيجاز ـ يقول: رتب لي جدي منذ أول يوم مدرسًا.. كنت قوي الحافظة حسن الفهم.. مارست الصلاة كما مارست الصيام، لم ينسني ذلك ديني الأول، فتراكم الجديد فوق القديم، ولم يسكت صوت أمي المتردد في أعماقي.. قال لي المدرس أثناء المناقشة الضريح مبني من المباني والوالي جثمان فقلت بإصرار بل لكل شيء حياة لا نفني أبدًا.
اللامبالاة: لم يزل المبدع يقدم لنا هذا النوع من التراكم أو التباين والثراء الذي أدي إلي إثراء الشخصية، متقدمًا معها من موقف إلي موقف، حتي ليمكن للشخصية أن تنقلب في لحظة من اللحظات إلي نقيض ما هي عليه، دون أن يكون في ذلك أي خروج علي منطق الشخصية.
نلحظ ذلك عندما يتقدم جعفر الراوي في السن ويقترب من مرحلة الرشد في بيت جده، دارسًا للدين في الأزهر، ولكنه يحب البدوية (أو الغجرية)، وهي امرأة من الشارع، كما كانت أمه، ويترك جده خارجًا علي كل منطق للاستقرار باحثًا عن الحلم في سديم الأسطورة، ويتزوج الغجرية، ويعمل سنيدًا في تخت. وتهجره الغجرية، ولكنه لا يندم ولا يأسف، ولا يرجع إلي جده ذي الثراء والاستقرار، ويستمر في العمل مغنيًا، ثم تعجب به امرأة غنية، تتزوجه وتعلمه، فيستقر ويحصل علي ليسانس الحقوق، وتفتح له مكتبًا للمحاماة، وسرعان ما يصبح مكتبه وبيته مستقرًا لندوة المثقفين.
حتمية النهاية:

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04641 seconds with 11 queries