عرض مشاركة واحدة
قديم 24/09/2008   #13
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


شيخوخة لويس بونويل الشابة

السيرة الذاتية الرائعة التي كتبها لويس بونويل تبدأ بفصل باهرعن الملكة الانسانية التي تتحكم بنا و تقلقنا اكثر من سواها : الذاكرة . ويروي "دون لويس " ان امه قد فقدت هذه الملكة تماما في السنوات العشر الاخيرة من حياتها وانها كانت تقرأ المجلة ذاتها مرات كثيرة بالمتعة الاولى ذاتها ,لأنها كانت تبدو لها جديدة في كل مرة ويقول : "وصل بها الامرالى عدم التعرف على ابنائها , وعدم معرفة من نحن , ومن تكون هي نفسها . وكنت ادخل عليها فاقبلها واجلس بعض الوقت الى جانبها,ثم اخرج واعود للدخول ". فكانت تستقبله بالابتسامة ذاتها وتدعوه للجلوس وكانها تراه لاول مرة ودون ان تتذكر ما هواسمه.
ما لم يقله دون لويس , ربما ما لا يعلمه احد علم اليقين, هوإذا كانت امه واعية لمحنتها . قد لا تكون كذلك . وربما كانت حياتها تبدا في كل لحظة وتنتهي في الحظة التالية في ومضة وعي ودون ألم لاختفاء ذكرياتها... ليس ذكريات السيئة وحسب, وإنما ذكرياتها الطيبة أيضاً , وهذه الأخيرة هي الأسوأ في نهاية الامر , لأنها تشكل نواة الحنين . ومع ذلك لم تكن هذه الاحجية هي اكثر ما فتنني في ذلك الكتاب الرائع , وانما القوة التي تدفعني فيها الى التفكير , للمرة الاولى , بشيء يبقى على الدوام بعيدا عن اهتماماتنا : وأعني يقين الشيخوخة . لقد قرأت في حينه . وبتقدير كبير , كتاب سيمون دو بوفوار حول الموضوع - وربما كان الكتاب الأكثر دقة وتوثيقاً بين كتبها - لكنه لم يثر بي , في أي صفحة من صفحاته , مثل ذلك الاحساس بالكارثة البيولوجية التي يتحدث عنها لويس بونويل. ففي الستين من عمره - كما يقول - لم يعد يتذكر أسماء الأشخاص بالسهولة التي كان يتذكرها بها في السابق . ثم بدأ ينسى بعد ذلك المكان الذي ترك فيه ولاعته , وأين وضع المفاتيح , وكيف كان اللحن الذي سمعه في مساء يوم ماطر في بياريتز واصبح ذلك يقلقه في الثانية والثمانين , لأنه رأى فيه بداية تحول سينتهي به الى ليمبوس (*) النسيان الذي عاشت فيه امه سنواتها الأخيرة ويقول : " لا بد من البدء بفقدان الذاكرة لكي ننتبه الى أن هذه الذاكرة هي التي تكوّن حياتنا " . ولحسن الحظ , فإن كتاب لويس بونويل يثبت أن مأساته لم تكن في فقدان الذاكرة , وإنما من الخوف من فقدانها .
انه في الحقيقة كتاب الذكريات , وامتلاك القدرة على اعادة بناء الذكريات بمثل تلك الطريقة المعاشة لهو ماثرة ترفض مباشرة أي تهديد بفقدان الذاكرة الشيخوخي . ولقد قلت منذ وقت قريب لأحد أصدقائي انني استعد لكتابة مذاكراتي , فرد علي بالقول انني لم ابلغ السن المناسبة لذلك . فقلت له : "أريد ان ابدأ وأنا ما أزال اتذكر كل شيء . لأن معظم المؤلفات تكتب حين لا يتذكر مؤلفوها شيئاً" لكن هذا الكلام لاينطبق على لويس بونويل . فدقة ذكرياته عن اسلوب حياة القرون الوسطى في "كالاندا" وعن المدينة الجامعية في مدريد - التي كان لها اثر كبير في جيله - وعن المرحلة السوريالية , وبشكل عام عن لحظات بارزة كثيرة في هذا القرن , تؤكد انه كان دوماً في ذلك الشيخ الذي لا يهرم بذرة من الشباب لا تنطفىء أبداً . صحيح انه فقد حاسة السمع مما حرمه متعة الموسيقى التي لاتضاهى . وأنه كان عليه أن يقرأ بمشقة مستخدماً عدسة مكبرة وشعاع نور خاص لأن بصره كان يضمحل , وكان يقول كذلك انه فقد الرغبة الجنسية . وقد انجز فيلمه الاخير : (هذا الشي الغامض في الشهوة) , منذ عشر سنوات , وقدر هو نفسه انه سيكون الفلم الاخير . مما يعني أنه كان مريضاً حقاً , وضجراً لتوقفه عن العمل , إضافة الى احساسه بان اصدقاءه قد هجروه . وتفكيره بالموت بشكل متزايد وأكثر حدة. لكن رجلاً كان قادرا على تحليل حياته بالطريقة التي فعلها بمذكراته , وترك شهادة مثل شهادته عن عالمه وعصره , لا يمكن له أن يكون ذلك الشيخ العاجز الذي ظن نفسه انه صار اليه .
ان المرء ليشعر بالسلوى حين يفكر بأن الشيخوخة ليست سوى حالة معنوية . وعندما نرى مرور شيخ مثقل بروحه نميل الى الاعتقاد بانها محن تصيب الأخرين فقط ونفكر - وعسى أن يكون ذلك صحيحاً - أن ارادتنا غيرقادرة على منع الموت , ولكنها قادرة على سد الطريق امام الشيخوخة . لقد التقيت منذ سنوات في قاعة انتظار احد مطارات كولومبيا بزميل دراسة في مثل عمري , وكان يبدو اكبرمن سنه الحقيقي بمرتين . وكانت نظرة متفحصة سريعة كافية لاكتشاف ان شيخوخته المبكرة ليست واقعاً بيولوجياً بقدر ماهي مجرد اهمال من جانبه . ولم استطع يومها كبح نفسي , وقلت له اضافة الى أشياء اخرى كثيرة , ان سوء حالته ليس من الرب , وانما منه هو نفسه . وان لي الحق بتأنيبه لان اهماله لا يجعله يشيخ وحده . وانما يجعل جيلنا كله يشيخ . ومنذ زمن قريب , طلبت من صديق ان ياتي الى مكسيكو . فرد علي في الحال : "لن اذهب الى هناك أبداً , لاني لم اذهب الى مكسيكو منذ عشرين سنة , ولا اريد ان ارى شيخوختي في وجوه أصدقائي" . فأدركت فوراً أنه يتبع القاعدة نفسها التي اتبعها : عدم تسهيل أي سبيل امام الشيخوخة ووالدي الذي توفي عن اثنتين وثمانين سنة , كان يتمتع بحيوية ومظهر استثنائيين وكنا نحن اولاده , نعلم ان سره ضد الشيخوخة كان شديد البساطة : لم يفكر بها .
ثمة استثناءات بالطبع استثناءات جيدة وسيئة , والافضل في مثل هذه القضية عدم التفكيرالا بالاستثناءات الجيدة . لقد كتب الكاتب الكوبي ميغيل بارنيت سيرة حياة عبد قديم . وأثناء المقابلة تمكن بارنيت من التأكد فعلاً أن عمر ذلك العبد الشيخ هو المئة واربع سنوات التي يدعيها , وكانت ذاكرته على خيرما يرام حتى لتبدو وكأنها ارشيف حي لتاريخ بلاده . من جهة اخرى فإن الدكتور غريف ي . بيرد - الذي تستشهد به سيمون دي بوفوار - قد اجرى , دراسة على اربعمئة شخص تتجاوز اعمارهم المئة سنة , وكانت نتائجه مواسية , فالدراسة تنتهي الى القول : "ولدى معظمهم مشاريع محددة للمستقبل , وهم يهتمون بالقضايا العامة , ويبدون حماساً شبابياً ويتمتعون بشهية متينة ومزاج شديد المرح , ومقاومة استثنائية . انهم متفائلون ولا يبدون خوفا من الموت " . أما فيما يتعلق بالنشاط الجنسي للمسنين , فهناك يقين في هذا المجال , بأن فترة مراهقة ثانية تبدا منذ سن التسعين . ويبدو ان الشرط الوحيد في هذا الشأن هو ان يكون الشخص المعني قد امضى حياته السابقة كلها نشيطاً . فلا شيء يسبب البرود مثل التواني وعدم المبالاة . ولدي صديق عمره /85/ سنة , اتهمه احدهم بانه عجوز ذو نفس خضراء لانه يحب الفتيات ذوات الاربعة عشرعاماً . وقد كان رده ساحقاً : الفتيان الذين في الرابعة عشرة يحبونهن كذلك , وليس هناك من يقول عنهم انهم شيوخ ذوو نفوس خضراء .

المشكلة هي ان المجتمع الذي يتكلف التقدير والاحترام , يجعل منا شيوخا بالقوة , ويقول مثل فلاحي : "بالهندية الاكبر سناً تجرب السهام " . ومنذ بعض الوقت عندما اقترحت على منتج سينمائي نقل (ليس لمدى الكولونيل من يكاتبه) الى السينما رد عليّ مباشرة : "الشيوخ لا يبيعون انفسهم" . وفي فرنسا - حيث كانت نسبة المسنين عام 1970هي أعلى نسبة في العالم - تم التوصل الى اقرار التقاعد في سن الستين . انها فضيحة . وأفضل دليل على عدم عدالة هذا القرار هو انه لا توجد كائنات اشد عدوانية في هذا العالم من المسنين الفرنسيين ؛ فهم ينازعون الشباب على السيارات التكسي بضربهم بالمظلات , ويخرقون صفوف انتظار الدور مستخدمين مرافقهم , وهم مستعدون لاقتراف وقاحة مدمرة في أي شجار في الشارع . ولقد كنت أتساءل على الدوام اذا ما كان هؤلاء الشيوخ يعلمون أنهم شيوخ . لست ادري . لكنني اعرف ان رجلا في الستين من عمره , يشعر انه ما زال في اوج الحياة , اعطى في الاسبوع الماضي لطفل في الخامسة من عمره ورقة نقدية من فئة الخمسين بيزو . فهرع الطفل سعيداً ليري أباه الورقة النقدية , ويقول له : "لقد اعطاني اياها ذاك العجوز الذي هناك" . والعجوز الذي كان هناك...هو أنا طبعاً .
_________________________________________________
(*) هو المكان اوالمرحلة الانتقالية التي تبدا بعد الموت حيث يستقر فيها من لم يرتكب, خطيئة مميتة, يستحق عليها عقاب الجحيم , قبل انتقاله الى نعيم الله .حسب ايمان الكنيسة الكاثوليكية
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04778 seconds with 11 queries