عرض مشاركة واحدة
قديم 14/09/2008   #10
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


ساعات غراهام غرين العشرين في هافانا

توقف غراهام غرين في هافانا لمدة عشرين ساعة , فقدم مرسلو الصحافة الاجنبية جميع أنواع التأويلات للحدث . وكان لا بد من ذلك : فقد وصل على متن طائرة خاصة , قدمتها له الحكومة النيكاراغوية , وكان يرافقه خوسيه دي خيسوس مارتينث , وهو شاعر وأستاذ رياضيات بَنَمي , كان واحداً من أقرب المقربين الى الجنرال عمر توريخوس . وقد استقبلهما في المطار موظفون من المراسم , وجرى ذلك وسط تكتم شديد , بحيث لم يعلم أي صحفي بأمر الزيارة الا بعد أن انتهت . وقد نقل كلاهما الى البيت مخصص لكبار الضيوف , وخصوصاً لرؤساء البلدان الصديقة : ووضعت تحت تصرفهما سيارة مرسيدس بنز سوداء مهيبة , من تلك التي استخدمت في الاجتماع السادس لقمة بلدان عدم الانحياز , قبل تسع سنوات . والحقيقة انهما لم يستخدما السيارة , لأنهما لم يخرجا من البيت الذي زارهما فيه بعض الاصدقاء الكوبيين القدماء ممن علموا بخبر الزيارة , لأن الكاتب نفسه أخبرهم بذلك . أما الرسام رينيه بورتوكاريرو , الذي تربطه بغراهام غرين صداقة ترجع الى الزمن الذي جاء فيه الكاتب الى هافانا لدراسة أجواء روايته (رجلنا في هافانا) , فقد تلقى الخبر متأخراً , وحين جاء لزيارة الكاتب , كان هذا قد غادر عائداً من حيث اتى . لم يكد يأكل سوى مرة واحدة خلال تلك الساعات العشرين , ملتقطاً لقمة من كل طبق , مثل عصفور مبلل , لكنه تناول وهو على المائدة زجاجة كاملة من نبيذ اسباني أحمر جيد , واستهلك خلال اقامته الخاطفة في البيت سبع زجاجات من الويسكي .

وعندما مضى , تركنا مخلفاً في ذهننا انطباعاً غريباً بأنه هو نفسه لا يعرف سبب مجيئه , مثلما قد يحدث فقط لأحد شخصيات رواياته المعذبة من تردد الرب .

ذهبت اليه في بيته بعد ساعتين من وصوله , لأنه اتصل بي فور علمه بأني موجود في المدينة , وقد سعدت بذلك سعادة كبيرة , ليس للتقدير القديم والكبير الذي اكنه له ككاتب , وكإنسان وحسب , وانما لأن سنوات طويلة قد انقضت منذ التقينا أخر مرة . كان ذلك اللقاء الأخير – كما يتذكره هو نفسه – حين سافرنا معاً الى واشنطن , ضمن الوفد البنمي للتوقيع على اتفاقيات القنال . وقد ذهبت بعض الصحف يومها الى القول ان دعوتنا كانت مناورة من توريخوس لتزيين وفده بإسمي كاتبين مشهورين لا علاقة لهما بتلك المهمة .

الحقيقة انه كانت لنا نحن الاثنين علاقة بمفاوضات الاتفاقية اكثر مما تظنه الصحافة بكثير . ولكن ليس لهذا السبب ولا ذاك دعانا الجنرال توريخوس لمرافقته الى واشنطن , وانما لأنه لم يستطع مقاومة إغراء الاقدام على السخرية سخرية حميمة من صديقه الرئيس جيمي كارتر . القضية وما فيها هي ان غراهام غرين , وأنا كذلك – مثلنا مثل كتاب وفنانين أخرين كثيرين في العالم – ممنوعان من دخول الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة لأسباب لم يستطع حتى الرؤساء انفسهم ان يجدوا لها تفسيراً على الاطلاق . كان الجنرال تويخورس قد وعد بحل هذه المشكلة , فطرح القضية على عدد كبير من كبار الموظفين الامريكيين الذين كانوا يزورونه في ذلك الوقت , ثم نقلها في أخر الأمر الى الرئيس كارتر بالذات . الذي أبدى استغرابه ووعد بحل المسألة بأقصى سرعة . لكن فترة رئاسته انتهت دون ان يتمكن من تقديم أي رد . وحين كان توريخوس يشكل الوفد للذهاب الى واشنطن , خطرت له فكرة إدخالنا – انا وغراهام غرين – الى الولايات المتحدة تهريباً . كان الأمر هاجساً بالنسبة له : فقبل ذلك بزمن قصير , اقترح على غراهام غرين ان يتنكر بزي كولونيل من الحرس الوطني البنمي , ويذهب الى واشنطن في مهمة خاصة لدى الرئيس كارتر , وذلك لمداعبة هذا الأخير بإحدى مداعباته المعتادة . لكن غراهام غرين , الاكثر رصانة مما يبدو عليه في بعض كتبه , لم يشأ إعارة جسده المجيد لحادث , لو انه وقع لكان دون شك واحداً من أطرف الأحداث في مذكراته . ومع ذلك , حين عرض علينا الجنرال توريخوس حضور مراسم توقيع الاتفاقيات بهويتنا الصريحة , ولكن بجوازات سفر بنمية رسمية وكأعضاء في وفد هذا البلد , وافقنا كلانا على الامر بشيء من الفرح الطفولي . وهكذا وصلنا معاً الى قاعدة اندروس العسكرية . كنا نرتدي سرويل رعاة البقر , والقمصان وسط وفد كاريبي يرتدي أعضاؤه الملابس السوداء ويخيم عليهم الذهول من فرقعة قذائف المدفعية الترحيبية الاحدى والعشرين , ومن الموسيقى الحربية للنشيد الوطني الامريكي , والتي بدت وكأنها جزء من الدعابة . وقد همس غراهام غرين في أذني ونحن نهبط سلم الطائرة , وكان مدركاً للشحنة الأدبية التي تحملها تلك اللحظة : "رباه , ياللأشياء التي تحدث للولايات المتحدة " . ولم يستطيع كارتر نفسه الا أن يضحك مبدياً اسنانه البراقة الشبيهة بأسنان المعلنين في التلفزيون , حين حدث الجنرال توريخوس عن لعبته الماكرة .

بعد كل تلك السنوات عدت للقاء غراهام غرين المتجدد الشباب , والذي ما يزال وضوحه الذهني هو اكثر صفاته مفاجأة وثباتا , وتحدثنا كالعادة , قليلاً من الحديث في كل امر , لكن اكثر ما لفت انتباهي هو النبرة الساخرة التي كان يشير بها الى المحاكمات الأربع التي عليه مواجهتها في محاكم فرنسية مختلفة , وذلك بسبب الكتيب الاتهامي الذي نشره ضد مافيا مدينة نيس . ان من يعرفون العالم السفلي للشاطىء الأزرق الفرنسي , يدركون ان ما كشف عنه غرين لا يعلن شيئاً جديداً و ولكننا نحن اصدقاء الكاتب , كنا قلقين على حياته . اما هو , فلم يتأثر , بل واصل حملته التشهيرية , وقال : "اذا كنت سأموت بسرطان البروستات , فأنني أفضل الموت برصاصة أتلقاها في رأسي" . وقد قلت ذلك في ذلك الحين , ولست اذكر أين , ان غراهام غرين يلعب بحملته تلك لعبة الروليت الأدبي , مثلما لعب في شبابه بمسدس من طراز سميث , عيار 23 , كما روى في مذكراته . وقد تذكر هو تصريحي هذا خلال الزيارة , واتخذ منه نقطة انطلاق ليروي لنا تفاصيل محاكماته الاربع .


لا أحتاجُ لتوقيعٍ .. فالصفحةُ بيضا
وتاريخُ اليوم ليس يعاد ..

اللحظةُ عندي توقيعٌ ..
إن جسمكِ كانَ ليَّ الصفحات
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05791 seconds with 11 queries