عرض مشاركة واحدة
قديم 12/08/2008   #20
شب و شيخ الشباب nabaga
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ nabaga
nabaga is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
مشاركات:
9

افتراضي


وفي الرواية فوق ذلك كله امتزاج خصب أصيل بين فضائل الرواية التقليدية مثل التصوير الدقيق العميق للشخصيات وخلق الحكاية الممتعة التي تشد الأنفاس حتى النهاية ، وفضائل الرواية الحديثة التي تعتمد على تصوير الأحلام والعالم الداخلي للإنسان . لقد استخدم الطيب صالح في روايته جميع الأساليب المناسبة في مزيج فني سليم خصب وأصيل . ولذلك جاءت روايته في النهاية رواية عصرية من ناحية ، ولكنها من ناحية ثانية تفوح بالأصالة والارتباط بالتراث الروائي العربي والعالمي معاً . انها بعبارات اخرى "رواية عربية متطورة " تمثل خطوة جديدة في أدبنا الروائي ، بل وتفتح في تاريخ الرواية العربية صفحة جديدة مشرقة ... انها علامة من علامات الطريق في أدبنا العربي المعاصر .

وقد تصطدم هذه الرواية في النهاية ببعض البيئات الأدبية المحافظة ، وذلك بسبب بعض الفقرات التي تتحدث عن الجنس ، ورغم ان الرواية تحتفظ بجانب كبير من قيمتها أو استغنت عن هذه الفقرات ، إلا أنها بالتأكيد سوف تفقد شيئاً جوهرياً .. سوف تفقد ما فيها من صدق وحرارة ، وسوف تفقد ما فيها من طعم لاذع لاسع مرّ . إن هذه الرواية رغم صراحتها وجرأتها قد عالجت الجنس كجزء أساسي من بناء الرواية ونبضها الفني والإنساني ، وهذا ما يعطي لهذه الرواية الفذة كل الحق في أن تبقى نصاً كاملاً لا يتصرف فيه أحد حتى ولا كاتبه نفسه .
إن رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " تعتبر من انضج نماذج الرواية العربية ، بل الرواية العالمية أيضاً في معالجتها لموضوع الجنس . إنها تواجه هذا الموضوع بجرأة فنية " بدائية " ولكنها شديدة الصدق والاصالة ، فالرواية رغم جرأتها لا تستسلم أبداً لموضوع الجنس . إن الجنس في هذه الرواية عنصر من عناصرها ، يخدم العمل الفني ، وتظهر المواقف الجنسية طبيعية في موضعهـا من الرواية وفي تعبيرها عن ضرورة فنية وموضوعية ، ومن واجـب حياتنا الأدبية أن تقابل هذا الموقف بجرأة وشجاعة ، ولا يجوز أن نخفي رؤوسنا في الرمال .. فنجعل حراماً على أدبائنا ما ليس حراماً على غيرهم ونمنعهم من أن يقتربوا من موضوع الجنس إذا دعاهم إلى ذلك فنهم وفكرهم وصدقهم مع الفن والحياة ، والواجب – هنا أن تتحقق حريتنا الفكرية والفنية بمواجهة الحقيقة لا بالهروب منها ، ولو استطاعت حياتنا الفنية أن تهضم الفقرات الجنسية من رواية الطيب صالح بدون مضض أو امتعاض ، فإنها بذلك تكون قد خطت مائة سنة أدبية إلى الأمام .... وإني لأتمنى أن يحدث هذا تماماً .

بقيت ملاحظة مؤسفة هي أن هذه الرواية العظيمة لم تنشر إلا في عدد واحد سابق من مجلة " حوار" التي كانت تصدر في بيروت ، ثم عصفت بها رياح الفكر الوطني الحر حيث كانت هذه المجلة تمثل منظمة حرية الثقافة العالمية ، التي تستمد التمويل والتوجيه من المخابرات الأمريكية . ولست اشك في أن الطيب صالح لا علاقة له بالمنظمة العالمية لحرية الثقافة ، فهو – كما تقول روايته في كل حرف منها – عبقرية عربية تنبض بوطنية صحيحة غير مريضة ولا ملتوية ، واذا كان من المؤسف أن هذه الرواية لم تنشر إلا في مجلة حوار ، فإنني اتمنى ان تنشرها دار نشر عربية في القاهرة أو بيروت بنصها الكامل (*) في أقرب وقت وتقدمها إلى القراء العرب في كل مكان لكي يلمسوا بعقولهم وعواطفهم ميلاد عبقرية جديدة في سماء الرواية العربية ن ولكي يشهدوا هذه الصفحة الجديدة المشرقة التي يفتحها في تاريخ الأدب العربي هذا الشاب الإفريقي الذي شرب من ماء النيل ، ولم ينس لونه ولا طعمه عندما سافر إلى لندن وشرب من مياه " التايمز " الانكليزي ، بل بقى إفريقيا وعربياً وإنساناً وقياً لجدوره الأصيلة . "

(*) صدرت الرواية عن دار العودة فيما بعد وصدرت ايضا جميع اعمال الطيب عن نفس الدار.

------------------------

* بقلم رجاء النقاش

* نقلا عن كتاب : الطيب صالح : عبقري ارواية العربية
درا العودة بيروت - الطبعة الثالثة 1981
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03811 seconds with 11 queries