عرض مشاركة واحدة
قديم 12/08/2008   #19
شب و شيخ الشباب nabaga
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ nabaga
nabaga is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
مشاركات:
9

افتراضي


ولعل مصطفى سعيد أراد أن يبعث ويعود إلى الحياة بعد امتزاجه بالنهر ... ليكون نوراً جديداً ينتشر في الرض الإفريقية ويبدد الظلام ويهدي السائرين الحائرين إلى الطريق ..
وأخيراً ماذا نجد في هذه الرواية من القيم الفنية ؟ .. نجد فيها كل شئ يحتاج إليه الفن العظيم . فعباراتها الجميلة ، تعتمد على لغة عربية في غاية الصفاء والاناقة والشاعرية . انها لغة ناصعة مصقولة مغسولة في نهر من الفن المقدس . لغة غنية بالأضواء والظلال ، مليئة بالشحنات العاطفية ، بعيدة عن التبذير والثرثرة . وموقف الطيب صالح من الحوار في هذه الرواية هو موقف نجيب محفوظ . انه يستعين بروح اللهجة العامية ويحافظ على الصياغة الفصيحة البسيطة ، لذلك تشعر وانت تقرأ الرواية بالروح الشعبية الصيلة ، دون أن تضيع في غابات لهجة محلية صعبة معقدة .

ففي حديث على لسان محجوب أحد شخصيات الرواية يقول " الراوي " عندما حزن حزناً عميقاً لانتحار حسنة بنت محمود :

" يا للعجب ، يا بني آدم اصح لنفسك ، عد لصوابك ، أصبحت عاشقاً آخر الزمن . جننت مثل ود الريس . المدارس والتعليم رهفت قلبك ، تبكي كالنساء ، أما والله عجايب . حب ومرض وبكاء ، إنها لم تكن تساوي مليماً ، لولا الحياء ما كانت تستاهل الدفن ، كنا نرميها في البحر ، ونترك جثتها للصقور " .

وهذا نموذج للحوار الفصيح الذي يحمل الكثير من الروح الشعبية ، بل وحتى من الصياغات الشعبية بعد قليل من الصقل والتعديل . وفي هذه الرواية قدرة خارقة على الوصف ، فالقرية الإفريقية مرسومة في هذه الرواية بريشة عبقرية ، انك تحس بها لوحة حية نادرة بكل ما فيها من بشر وحيوانات ونباتات وليال مقمرة وليال مظلمة ، إن هذا كله يتحرك ويصرخ من فرط حيويته وحراراته .

وفي الرواية شاعر كبير ، أدواته الفنية في منتهى الطاعة لرؤاه الفنية الفياضة .

ولنقف أمام بعض النماذج والمقاطع المختلفة من هذه الرواية ، فسوف ترى فيها قدرة الكاتب والفنان على الوصف ، وسوف نلمس بين السطور شاعرية أصيلة نادرة وصياغة فنية الأسلوب العربي ... لا شك أنها صياغة منفردة بشخصيتها الخاصة ... وهي صياغة قادرة على أن تمنح صاحبها مكاناً بارزاً بين كبار اصحاب الأساليب العربية اللامعين .

يقول الطيب في وصفه للصحراء :

" هذه الارض لا تنبت إلا الأنبياء . هذا القحط لا تداويه إلا السماء . هذه أرض اليأس والشعر " .

ويقول الطيب عن الصحراء ايضاً :

" تحت هذه السماء الرحيمة الجميلة أحس اننا جميعاً إخوة . الذي يسكر والذي يصلي والذي يسرق والذي يزني والذي يقاتل والذي يقتل . الينبوع نفسه . ولا أحد يعلم ماذا يدور في خلد الاله . لعله لا يبالي . لعله ليس غاضباً . في ليلة مثل هذه تحس أنك تستطيع أن ترقى إلى السماء على سلّم من الحبال . هذه أرض الشعر والممكن وابنتي اسمها آمال . سنهدم وسنبني وسنخضع الشمس ذاتها لإرادتنا وسنهزم الفقر بأي وسيلة . السواق الذي كان صامتاً طوال اليوم قد ارتفعت عقيرته بالغناء ، صوت عذب سلسبيل لا تحسب انه صوتـه .. يغني لسيارته كما كان الشعراء في الزمن القديم يغنون لجمالهم " .

وعندما كان مصطفى سعيد بطل الرواية يحاكم في لندن وقف يقول ، وما أروع ما يقوله الفنان على لسان بطله :

" إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة ، وقعقعة سنابك خيل " أللنبي" وهي تطأ أرض القدس . البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز ، وسكك الحديد انشئت أصلاً لنقل الجنود ، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم . انهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الاوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل ، جرثومة مرض فتاك اصابهم اكثر من ألف عام : نعم يا سادتي انني جئتكـم غازياً في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ . أنا لست عطيـلاً . عطيل كان أكذوبة " .

وعلى لسان محجوب أحد شخصيات الرواية يقول عن البطل مصطفى سعيد :

" تريد أن تعرف حقيقة مصطفى سعيد ؟ مصطفى سعيد هو في الحقيقة نبي الله الخضر يظهر فجأة ويغيب فجأة . والكنوز التي في هذه الغرفة هي كنوز الملك سليمان حملها الجان إلى هنا . وأنت عندك مفتاح . افتح يا سمسم ودعنا نفرق الذهب والجواهر على الناس " .

والنموذج الأخير الذي أود أن أقدمه هنا هو وصف الراوي لجده العجوز الذي يقترب من المائة :

" يا للغرابة .. يا للسخرية . الإنسان لمجرد أنه خلق عند خـط الاستواء ، بعض المجانين يعتبرونه عبداً وبعضهم يعتبرونه إلهاً . أين الاعتدال ؟ أين الاستواء ؟ .. وجدي بصوته النحيل وضحكته الخبيثة حين يكون على سجيته أين وضعه في هذا البساط الأحمدي ؟ هل هو حقيقة كما أزعم أنا وكما يبدو هو ؟ هل هو فوق هذه الفوضى ؟ لا أدري . ولكنه بقي على أي حال رغـم الأوبئة وفساد الحكام وقسوة الطبيعة ، وأنا موقن أن الموت حين يبرز له سيبتسم في وجه الموت " .

هذه النماذج كلها تكشف لنا ما في حوار الطيب صالح وأسلوبه وتصويره للشخصيات والمواقف من عذوبة وخصوبة وغنى فني وفكري عظيم .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03818 seconds with 11 queries