عرض مشاركة واحدة
قديم 14/01/2008   #62
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


أما شخصية الموظف فإنها أكثر تعقيدا ووظيفته تضعه في محور المشاكل السياسية ذاتها، والتغيرات الكبيرة في نظم الدولة تجعل منه رمزا للرجل الذي تجاوزته الأحداث والاهتمامات، و«السمان والخريف» هي النمط الشهير لهذا الموقف بطلها المتنازع بين الخيانة والمودة، وبين خطيبة قديمة ذات حسب ولكنها غير وفية، وزوجة وفية ولكنها غير جميلة ومنحدرة من وسط متواضع بين القاهرة الثائرة والإسكندرية النائمة، بين التقاليد والتطور «شخصية حائرة» ضاعت في طي صفحة قلبت بالمصادفة وراحت في مجهول لا نهائي لكنها شخصية روائية ممتازة تلخص في آن واحد قلق الذات المفردة وقلق الفئة الاجتماعية التي تمثلها.

من خلال الأنماط الثلاثة للبغايا، تبدو لنا بعض الفروق الدقيقة، فإذا كانت الفتاة ذات القلب الكبير تبدو لنا نمطية إلي حد ما في «السمان والخريف» أو «اللص» فإن تصوير بداية احتراف البغاء يحمل مزيدا من السمات الدقيقة، فقد تكون لحظة السقوط نتيجة للحظة ضعف معنوية بسيطة كما هو الشأن مع حميدة في «زقاق المدق»، لكن البغاء في معظم الأحايين يبدو صورة حادة ومؤلمة، للبغاء الاجتماعي القاسي وشخصية «نفيسة» في «بداية ونهاية» هي بالتأكيد أقوي بطلات نجيب محفوظ صلابة وعزما فهي تندفع مقهورة بتعاسة المرأة بالسلاح الوحيد الذي يسمح لها بأن تبقي بالحياة السرية، وعلي وجه التحديد عندما ينكشف ذلك السلاح فإن المجتمع ممثلا في صوت أخيها، سوف يلحق بها الموت وعلي وجه التحديد أيضا وبطريقة غير مباشرة فإنها عندما تخلد إلي صمتها مع الموت، سوف تنتصر في النهاية وتستطيع أن تصدر إدانتها علي ذلك المجتمع الرجالي المتحكم متمثلة في انتحار أخيها، ومع ذلك فإن شخصية نفيسة تظل حالة محصورة. وتبقي الشخصية المفضلة عند نجيب محفوظ، وهي شخصية الطالب (31)، وربما كانت ملامحها محدودة، تتمثل في الشباب والتمرد والحزن، وهي عناصر أساسية في تحريك الحدث الروائي، ولكن هذه الشخصية تحمل في طياتها أيضا وبطريقة دقيقة، ملامح شخصيات تنتمي إلي فئات اجتماعية أخري، سواء كان ذلك من خلال إثارة ذكريات وقعت لأحد نماذجها(32) أو أحداث كان ينبغي أن يتوقف حدوثها(33) وحتي في النهاية من خلال اللوم العنيف الذي يحدث لهذه الشخصيات من الأب أو من المجتمع، هذا اللوم، لأن هذه الفئات الأخيرة لم تتعلم علي الإطلاق (34). من هنا يأتي الإلحاح المستمر والرئيسي في كل أعمال نجيب محفوظ علي أهمية الثقافة.

من خلال الخصال أو الخواص المحددة لأبطال الإنتاج الروائي، يحمل الإنتاج بالضرورة مغزي ورسالة خاصة أن الفئات التي تندرج في ذلك التصنيف أكثر من الفئات التي تندرج تحت التصنيف (المعنوي)، وهو تصنيف تلتقي فئاته في معظم الأحايين مع الفئات التي حددناها آنفا. أما الفئات المندرجة تحت (الخصال أو الخواص المحددة) فهي محصورة بدقة، فهناك الطموحون والمتمردون والخاملون والعقلاء، وكل فئة تحتل موقعها تبعا للنظام الاجتماعي الذي تعيش في إطاره، وتبعا لما إذا كانوا يخضعونه لإرادتهم أو ينكرونه أو يعانونه أو ينهضون بأعبائه.

وإذن، فالشخصية الروائية التي نستطيع أن نحاصرها في مجملها بدءًا من الآن هي حزمة من الخصائص ناتجة من انتمائها إلي فئتين متشابكتين إحداهما اجتماعية والأخري معنوية أو خلقية، وتخصيص كل واحدة من هاتين الفئتين عن طريق الأخري وتعدد إمكانية التناسق التي يولدها ذلك التشابك، هما في النهاية مصدر تميز الحالة الفنية لشخصيات نجيب محفوظ والتي حلت محل الشخصيات الأكثر تقليدية في الفن الروائي، وهي شخصيات التحليل النفسي للذات المفردة.

هل يلعب الزمن دورا محددا في ملامح شخصيات نجيب محفوظ؟

لنسجل أولا أن ألوان الزمن عند نجيب محفوظ شديدة التنوع والاختلاف بدءًا من المسيرة العائلية الكبيرة التي تمتد عشرات السنين حتي الرواية التي تنكشف في بضعة أيام وحتي في بضع ساعات وملامح الزمن التي هي بالتأكيد أحد الاهتمامات الرئيسية لذلك الكاتب، تبدو من النظرة الأولي ذات علاقة مباشرة مع عدد الشخصيات والأبطال الذين يدور بينهم الحدث الروائي. وتبلغ نقطة الاستقصاء إذن مداها مع «اللص والكلاب»، حيث يوجد بطل واحد يتخذ تحت ضغط الحوادث القاطعة في عدة ساعات قراراته الرئيسية، ومع ذلك فإنه يمكن بصفة عامة أن تجد لونا من ثبات النسبة بين الزمن الحقيقي والزمن الداخلي لهذه الشخصيات، وفي الحقيقة فأيا ما كان مقدار الزمن الذي تحياه هذه الشخصيات أمامنا، فإن اختيار الزمن هنا يتعلق دائما بلحظات فريدة في رحلة الوجود، سواء كانت منعطفا في سن النضج، أو كانت سنوات المراهقة وفي كل الحالات، رغم اختلافات الزمن الخارجي، فإن هنالك شريحة من الحياة تؤخذ في لحظة رئيسية ترتبط بها وتستلزم إجابة منها. وفي كلمة مختصرة، فإن كل ذلك يعني بالنسبة للإنسان الذي وجد علي هذا النحو لحظة الميلاد ولحظة الموت.

إن من الخطأ دون شك الحديث هنا عن «شخصيات بلا ماض» مع أن أبطال نجيب محفوظ يأخذون به مواقفهم في مواجهة الأوساط المحيطة بهم، وفيما يتعلق بالشخصيات التي يمكن أن تأخذ خصائص الشخصيات الرئيسية فإن من المسلم به أن الماضي لا يلعب دورا مهما في المواقف التي ينبغي اتخاذها إزاء الأحداث الفاصلة فهم يعيشون داخل لحظتهم، والسمة الروائية للزمن هنا تبدو في مظهر سلسلة من اللحظة ذات الدلالة الخاصة.

أما الشخصية الثانوية، فإن لها بالتأكيد ماضيها داخليا، ولكن لا يبدو أمامنا من هذا الماضي إلا ما يؤثر بطريقة رئيسية علي مواقفهم، فاللحظة الزمنية تحتفظ دائما بطابع الجدة غير القابلة للتقادم وتربطها ردود الأفعال بسلسلة الطارئ غير المتوقع، حتي بطل «اللص والكلاب»، عندما يلجأ إلي الماضي، لكي يفسر تصرفاته التي سبقت دخوله السجن لا يفعل إلا أن يثير مجموعة من الأحداث، هي التي صنعت واقعه الآن، ولكنه لا يفسر الاتجاه الرئيسي لشخصيته، فهو لم يولد سفاحا، والإحالة لفترة من الزمن، ماضية، بالقياس إلي زمن الحديث الروائي لا تغير إذن، طبيعة ذلك الماضي ذاتها، التي تكونت هنا، بصفة أساسية، من خلال الظروف، وليس من خلال الاختيار الواعي، أو اللاواعي للشخصية.

وهذه النقطة، شأن كل ملامح إنتاج نجيب محفوظ، ترتبط بمفهوم تطوري زمني، فلا تعود حياة البطل، إلي نقطة البدء، ففي «السمان والخريف»، حيث يجري أقل قدر من الأحداث علي المستوي الخارجي، لا يصبح التساؤل: هل سيبقي الموظف أم يعزل، ولكن هل سيستطيع في هذا الموقف، مواجهة الإنسان الجديد الذي تكون داخله علي المستوي الاجتماعي، وتلك النهاية التي سوف تذيبه بصفة قاطعة داخل الليل تحمل معها الإجابة، فالموظف المعزول، الذي يحتفظ مع ذلك احتفاظا كاملا، بفرصته كاملة في التعرف علي الحياة الجديدة، يتحول إلي هيكل رخو أشل موعود فيما يبدو بالأقدار المحورة.

وأقصي نقاط التطور الزمني في معاناة البطل، هي في معظم الحالات، الموت المعنوي، أو الجسدي حيث يموت الشخص، أو تموت شخصيته، ومن هنا يأخذ إنتاج نجيب محفوظ طابعا إن لم يكن هو طابع التشاؤم الأساسي، فإنه علي الأقل طابع واضح وعميق. يتمثل في نوع النجاح الذي سجله أبطاله، هؤلاء الأبطال الذين يتسمون بصلابة، وشجاعة في مواجهة الحياة اليومية، دون أن يتحقق لهم مطلقا النجاح السهل وعلي مستوي البناء الفني الروائي، فإن هذا «الحضور» للموت وذلك الشعور، بوجود التطور الزمني، الذي لا يدعي أبدا مجالا لثبات «السعادة» يعطيان للإنتاج الفني هنا، واحدا من أهم ملامح أصالته ذلك أن الأبطال، كما رأينا في ارتباطهم الشديد بحركة الزمن التي لا تدعهم يستريحون، ولا يلتقطون أنفاسهم وحيث لا يلتقي أحدهم بماضيه لا يأملون في شيء من تلك المغامرة التي يشدون إليها فتحسين في بداية ونهاية يحقق أحلامه شيئا فشيئا من خلال إرادته ومعاونة الآخرين له، ولكنه يفقد هذه الخاصية التي بفضلها تتحقق الأحلام بصفة رئيسية، وهي الثقة في كل شيء، وكلما زاد نجاحه قل اعتقاده في هذا النجاح، وذلك لأنه يزداد وضوحا له، إنه مع ذلك النجاح وحيد ومنعزل وأن الأحداث في الحقيقة تسحقه. ولا شك أننا نلمح من هنا ومن هناك، ومن خلال «دردشة» الطلاب علي نحو خاص، وعود المستقبل، ولكن هذه الأحداث تـظل علي مستوي الحدث الروائي أحلاما، لا تنجح في تظليل فجاجة الحاضر والمستقبل القريب.

نستطيع إذن في هذا المجال، وفيما يختص بالإجابة علي السؤال الذي طرحناه من قبل أن نقول: إن الزمن يعد هنا عنصرًا أساسيا من عناصر التكوين النفسي للشخصيات، وهو لا يدع لهذه الشخصيات إلا أحد خيارين: الموافقة أو الرفض لتطور يقودهم نحو المستقبل، يبدو أن الصراع والسقوط والموت هي أكثر معطياته ثباتا.

إن الزمن الروائي إذن يعد هنا مظهرا من مظاهر القدرية والحتمية، لكن تحقيق ذلك لا يتم دفعة واحدة، والأبطال لا يصلون إلي لحظة التغيير، إلا بعد سلسلة من الأطوار، يتلقون خلالها تأثير الحدث الرئيسي، وتأثير الحدث الذي يكون عقدة الرواية ذاتها كما رأينا، والزمن كذلك محصور حول عدد من المشاهد الرئيسية التي تبدو وكأنها النبضات الكبيرة للإنتاج والتي تبدو وكأنها مستلهمة من قرب من طريقة التجزيء في الفن السينمائي واللقطات السينمائية المتتالية إذا استطعنا أن نستعيد هذا المصطلح هنا وهي محددة علي نحو خاص في اللص والكلاب، ذلك لأنها مميزة من خلال اللقاءات سواء كانت ودية أو عدائية، بين الأبطال، وشخصيات حياتهم الماضية. وذلك التكتيك الذي يهب الرواية جزءا كبيرا من حياتها يتأكد من خلال فن الحوار.

إن طريقة السرد المباشر والتي تظهر في مجمل الإنتاج، تلعب هنا دورا رئيسيا، فهناك ومن خلال الربط الذي يتم بين الشخصيات المختلفة، وردود الأفعال الناجمة عنه، يتحقق في الواقع تطور الرواية. وإن لم يبلغ المؤلف في ذلك براعة روائيين آخرين.

لكن نجيب محفوظ يحقق ذلك التطور، من خلال أجزاء الحوار، التي تتلاقي تقسيماتها غالبا من تقسيم الفقرات، ويحمل كل منها نصيبه من اللبنات التي يسهم بها في البناء الروائي، فهنالك القليل من الأحاديث النظرية، والقليل من الموضوعات المطروحة، ولكن هنالك الديالوج الشديد الحيوية، حيث يستطيع الأبطال أن يعوضوا بدقة من خلال أنغام إنسانية، ما يمكن أن تقدمه مواقعهم الخاصة، بانتماءاتها إلي شريحة ما اجتماعية أو خلقية من تصرفات تخالف المألوف.

هذه الوسائل في معالجة الزمن الروائي، والقائمة علي اختيار لحظة ذات أهمية خاصة، وأبطال يتجهون إليها بصفة أساسية، وقيمة قدرية تمارس تأثيرها من خلال موجات متتالية، هي وسائل كثيرة التردد في روايات نجيب محفوظ، وهي وسائل تتناسي الفروق الظاهرية إلي حد ما والتي يتميز بها الزمن الخارجي والصدفوي الذي يغطي مجمل الحدث الروائي، ويتركز الزمن الخارجي فيما يبدو، في مجموعة صغيرة من الشخصيات المرتبطة بالحدث.

إن رواية نجيب محفوظ تقدم دون جدل للأدب العربي الحديث، صوتا جديدا من خلال أبعادها، ومن تلك المقدرة الممتعة علي الكتابة التي يحس بها المرء عند مؤلفها الذي حرر الأدب العربي في هذا المجال من دورانه فقط في المحور القصصي، لقد أنهت أعمال نجيب محفوظ نجاح «عصر» المحاكاة والتقليد الذي كانت الرواية العربية متعلقة خلاله تعلقا غير محمود بهياكل تلقيدية محلية أو أجنبية. إن المرء يجد نفسه هنا حقيقة مشغولا برواية مصرية تهيئ قدرا غير محدودمن المتعة النادرة، وهي متعة نجدها حتي بعد أن نظن أننا استفدنا ألوان المتعة الكامنة في لون فني معين فإذا بنا نكتشف فجأة زهرة جديدة غير متوقعة.

ومع ذلك، فإن هذه ليست القيمة الوحيدة لروايات نجيب محفوظ، فدون أن نتحدث عن الفائدة التي يمكن أن يقدمها إنتاج نجيب محفوظ في حقل تاريخ الأفكار الاجتماعية، أو تاريخ اللغة العربية، فإن هذا الإنتاج يمكن أن يقارن بالإنتاج الروائي الآخر خارج إطار الأدب العربي، وهنا ينبغي أن يتم التناول والحكم المنهجي.

إن روايات نجيب محفوظ ليست بالتأكيد من طراز «رواية منتصف الليل» ولا تمسها اهتمامات بعض الاتجاهات الجمالية المعاصرة إلا قليلا فعلي مستوي التصور الفني للرواية، يظل نجيب محفوظ مرتبطا بالمدرسة الكلاسيكية التي تعد الرواية عندها التعبير الأدبي عن مغامرة إنسانية معادا ترتيبها داخل سياقاتها الزمنية والمادية والنفسية. وإذا أردنا أن نحدد جانب الأصالة الذي يحتل بسببه إنتاج نجيب محفوظ مكانة في التاريخ العام للرواية، فإنه بالتأكيد ليس راجعا لا إلي معالجة الزمان ولا إلي معالجة المكان وقد تحدثنا عن ذلك، ولكن الأصالة بالتأكيد راجعة إلي طريقة تقديم الشخصيات، وهنا يكمن في رأيي النجاح الرئيسي لنجيب محفوظ، هذا الاعتدال المتزن بين الوفاء بالملامح الفردية الضرورية للرواية، وبين نموذجية الأبطال المنتمين إلي حقبة تاريخية وطنية يراد تقديمها، وهذه الدراسة لشعب بأكمله من خلال بعض الشخصيات التي تقف في منتصف الطريق بين الأصالة الروائية والتمتمة الملحمية، تحقق دون أدني قدر من الشك معني كون الإنسان يعيش عصره.

ولسوف يكون من شأن عالم الاجتماع في وقت لاحق، الحكم علي ما إذا كان طموح نجيب محفوظ قد استطاع أن يجعل ألوان الوعي الوطني تتلاقي في داخل إنتاج فني لكن الناقد الأدبي يستطيع من الآن أن يقول: إن هذا الوعي الذي اضطلعت به عبقرية نجيب محفوظ، قد أعطي إنتاجه أصالة رئيسية في إطار الأدب العربي، وحتي في إطار الرواية العالمية.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05764 seconds with 11 queries