عرض مشاركة واحدة
قديم 31/05/2006   #2
post[field7] dot
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ dot
dot is offline
 
نورنا ب:
May 2006
مشاركات:
3,276

افتراضي التكملة.


ـ أنت تسألني ماذا فعلت لي, أيها العجوز وانج ـ فو? عاود الإمبراطور وهو يحني عنقه النحيل باتجاه الرجل العجوز الذي أرهف السمع إليه. سأقول لك. ولكن, وكما أن سم الآخرين لايمكنه التسلل فينا إلا عبر فتحاتنا التسعة, ولكي أضعك أمام أخطائك, علي أن أجعلك تذرع ممرات ذاكرتي, وأن أقص عليك حياتي. لقد جمع أبي مجموعة من لوحاتك في أكثر الغرف سرية بالقصر, فقد رأى ضرورة أن تنأى الشخوص المرسومة بها عن نظر الجهلاء, وألا تظهر إلا لمن لا يستطيعون خفض أعينهم عنها. وفي هذه القاعة, أيها العجوز وانج ـ فو, نشأت أنا, وقد نظمت هذه اللوحات من حولي الوحدة التي مكنتني من أن أكبر. ولتجنب أن يتلطخ نموي بتلوث الأنفس البشرية, أبعد عني الحفيف الذي يثيره أتباعي المقبلون, ولم يسمح لشخص بالمرور أمام العتبة, خوفا من أن يصل ظل هذا الرجل أو تلك المرأة لعندي. فحتى القليل من الكهول الذين سخروا لخدمتي لم يخالطوني إلا في حدود الضرورات القصوى, ودارت الساعات دورتها, وكانت ألوان رسوماتك تشتعل مع الفجر, وتشحب مع الغسق. وبالمساء, عندما كان يمتنع علي النوم, كنت أنظر إليها. لعشر سنوات تقريبا, ظللت أحدق فيها كل ليلة. وبالنهار, وأنا جالس على بساط أحفظ تصميمه عن ظهر قلب, واضعا راحتي المبسوطتين على ركبتين من الحرير الأصفر, كنت أحلم بالفرح الذي سيأتي لي به المستقبل. وكنت أمثل العالم لنفسي, وبلاد هان في منتصفه, بما يشبه السهل المستوي المحفورة فيه باليد الخطوط المقدرة للأنهار الخمسة. وكل شيء حولها. البحر الذي تولد فيه الوحوش الخرافية, ووراءه بعض الشيء, الجبال التي تقيم السماء. ولكي أتمكن من بسط الأشياء كلها أمامي, كنت أستعين برسوماتك. لقد جعلتني أعتقد أن البحر يشبه سماط الماء المفرود في لوحاتك القماشية, وأنه أزرق كحجر سائل من الياقوت لايمكن أن يتغير لونه, وأن النساء ينغلقن وينفتحن كالأزهار, وأنهن يشبهن في هذا المخلوقات التي تتقدم, مدفوعة بفعل الريح في حدائقك, وأن المقاتلين الشباب دقيقي الحجم الذين يتناوبون الحراسة في قلاعك الجبهوية كانوا هم أنفسهم السهام التي بوسعها اختراق القلب. وفي سن السادسة عشرة, وجدت الأبواب التي تفصلني عن العالم تتفتح لي, فصعدت إلى شرفة القصر كي أراقب الغيوم, ولكنها كانت أقل جمالا من غيوم غسقك. فأمرت بالمحفة, ورحت أترجرج على الطرقات التي لم أكن أتوقع أن أرى بها الطين ولا الأحجار, وذرعت أقاليم الإمبراطورية فلم أعثر على حدائقك المليئة بالنساء اللاتي يشبهن (الحباحب), نساءك اللواتي كانت أجسادهن ذاتها حدائق. وجعلتني أحجار الشواطئ أمقت المحيطات, ووجدت أن دماء المعدمين أقل احمرارا من الرمان المصور بلوحاتك, وحرمتني حشرات القرى من رؤية جمال حقول أرزك, ونفرني لحم النسوة الأحياء كأنه اللحم الميت المعلق بخطاطيف الجزارين, وأصابتني الضحكات الغليظة لجنودي بالغثيان. لقد كذبت علي يا وانج ـ فو, أيها النصاب العجوز, فالعالم ليس سوى كومة بقع غامضة, ملقاة في الفراغ بواسطة رسام عديم الشعور, تمحوها أدمعنا باستمرار. وليست مملكة هان أبدا بأجمل الممالك, ولست أنا الآخر بإمبراطور. فالإمبراطورية الوحيدة التي تستحق مشقة حكمها هي تلك الماثلة في رسوماتك. أيها العجوز وانج ـ فو, فأنت وحدك الذي تتسلطن في سلام, من خلال الألف منحنى والعشرة آلاف لون,على الجبال المغطاة بالجليد الذي لايذوب, وعلى حقول النرجس التي لاتذبل. وهو ما جعلني, يا وانج ـ فو, أفكر كيف سأعذبك, فأنت صاحب السحر الذي جعلني أكره كل ما أملك, وجعلني أرغب في كل ما ليس لدي. ولكي أسجنك في السجن الوحيد الذي لاتستطيع الخروج منه, قررت أن تسمل عيناك, لأن عينيك, يا وانج ـ فو, هما البابان السحريان اللذان يفتحان مملكتك. كما قررت كذلك قطع يديك, لأنهما الطريقان اللذان يتفرعان عشرة أفرع تقودك إلى قلب إمبراطوريتك. أفهمتني, أيها العجوز وانج ـ فو?.

عند سماع هذه الجملة, سحب التلميذ لينج من حزامه سكينا ثلما وألقى بنفسه على الإمبراطور. وتصدى دونه حارسان فمنعاه. عندئذ تبسم ابن السماء وأضاف وهو يتنهد:

ـ كما أنني أكرهك أيضا, أيها العجوز وانج ـ فو, لأنك عرفت كيف تجعل الناس يحبونك. اقتلوا هذا الكلب.

عندئذ قفز لينج صوب الأمام كي يتفادى أن يصل دمه إلى ثوب الأستاذ فيبقعه. وشرع أحد الجنود سيفه, فانفصلت رأس لينج عن عنقه, كزهرة قطعت من فرعها. وحمل الخدم بقيته, فلفتت انتباه وانج ـ فو اليائس, وشدت إعجابه تلك البقعة الكبيرة القرمزية التي صنعها دم تلميذه على أحجار البلاط الخضراء. وأشار الإمبراطور, فانبرى خصيان وجففا أعين وانج ـ فو.

ـ اسمع, أيها العجوز وانج ـ فو, قال الإمبراطور, جفف دموعك, فليس هذا وقت البكاء. فلابد أن تظل عيناك مضيئتين, حتى لايحترق ما بقي لهما من نور ضئيل بفعل البكاء. وليس الحقد الذي يجعلني أشتهي موتك, ولا التوحش الذي يجعلني أريد رؤيتك تتعذب هما كل ما لدي لك فحسب. فلدي مشروعات أخرى, أيها العجوز وانج ـ فو. لأنني أملك ضمن مجموعة أعمالك الموجودة عندي لوحة بديعة تصور الجبال, ومصاب الأنهار والبحر, بشكل صغير جدا بلاشك, لكن بساطتها تجعل ما فيها من أشكال تتألق, كأنها تكوينات تتباهى على حافة فلك من الأفلاك. لكن هذه اللوحة غير مكتملة, يا وانج ـ فو, رائعتك ما زالت بعد تخطيطا, فبالطبع, في اللحظة التي كنت ترسمها فيها, وأنت جالس في واد فريد, لعلك لاحظت طائرا عبر, أو طفلا يتعقب هذا الطائر. وجعلك منقار الطائر أو ألعاب الطفل تنسى طيات الموج الزرقاء. فلم تكمل أهداب معطف البحر, ولا ضفائر طحلب الصخور. يا وانج ـ فو, أريد منك أن تكرس ساعات الضوء الباقية لعينيك في إنهاء هذه اللوحة. التي ستضم بهذا الشكل الأسرار الأخيرة التي تجمعت على امتداد عمرك. وليس من شك في أن يديك, اللتين على وشك السقوط, لن ترتجفا على نسيج الحرير, وسوف يعبر اللامتناهي عن نفسه في عملك بظلال سوء طالعك. فلايوجد شك في أن عينيك, القريبتين هكذا من الفناء, لن تكتشفا أية علاقات تعبر عن الشعور الإنساني. هذا هو مشروعي, أيها العجوز وانج ـ فو, وبوسعي إجبارك على إتمامه. فلو رفضت هذا العمل, قبل أن تسمل عيناك, سأحرق كل أعمالك, وسيصبح حالك كحال الأب الذي ذبحوا كل أولاده ودمروا آماله في الذرية. ولكن, فكر بالأحرى, لو شئت, في أن هذا الطلب الأخير ليس إلا تعبيرا عن طيبتي, لأنني أعرف أن اللوحة هي معشوقتك الوحيدة التي تغار عليها, لذا فإن أمري بالفرش, وبالألوان وبالحبر لك كي تشغل ساعاتك الأخيرة, كالتصدق ببنت هوى على رجل ذاهب للإعدام.

بإشارة من الإصبع الصغير للإمبراطور, حمل اثنان من الخصيان باحترام اللوحة غير المكتملة التي خط فيها وانج ـ فو صورة البحر والسماء, فجفف وانج ـ فو دموعه وابتسم, لأن هذا التخطيط الصغير ذكره بشبابه. كان كل ما في اللوحة يشهد بطهارة النفس, التي لم يعد بوسع وانج ـ فو بعد أن يدعيها, لكنها كان ينقصها مع ذلك شيء ما, لأنه في الحقبة التي رسمها فيها لم يكن بعد قد تأمل على نحو كاف أشكال الجبال, ولا الصخور التي تسبح خواصرها الجرداء بالبحر, ولم يكن قد أدرك بعد ذلك تلك الأحزان التي تقتحم المرء عند الغروب. وتخير وانج ـ فو فرشاة قدمها له أحد العبيد وشرع يبسط على البحر غير المكتمل سيلا من اللون الأزرق. وأقعى خصي على مقربة منه يهرس له الألوان, ولم يكن يجيد هذا العمل, فتحسر وانج ـ فو أكثر من أي وقت مضى على تلميذه لينج.

وشرع وانج في وشي طرف جناح سحابة تتكئ على جبل باللون الأحمر. ثم أضاف لسطح البحر بعض تغضنات صغيرة جعلت الإحساس بسكينته يزداد عمقا. وابتل بلاط اليشب فجأة على نحو غريب, ولم يلحظ وانج ـ فو, المستغرق في رسمه, أنه كان يعمل وهو جالس بالماء.

وتحت ضربات فرشاة الرسام, تضخم زورق هزيل وصار يحتل مقدمة اللوحة الحريرية, وراحت الضجة المنتظمة لمجدافيه تتعالى في المدى فجأة, وتشارعت ونشطت كأنها خفقات أجنحة. واقتربت الضجة أكثر, وغمرت بنعومة كل القاعة, ثم توقفت, وتعلقت قطرات مرتجفة بمجدافي البحار.

وانطفأ الحديد الأحمر المصوب جهة أعين وانج على جمر الجلاد. وشبت المحظيات المشلولات بفعل المراسيم, واللاتي غمرهن الماء للأكتاف على أصابع أقدامهن. وارتفع الماء في النهاية حتى بلغ مستوى قلب الإمبراطور. وصار الصمت عميقا لدرجة سمع فيها صوت تساقط الدموع.كان بحار الزورق هو لينج, بثوبه القديم الذي ظل يرتديه دائما, وبكمه الأيمن الذي بدا حاملا آثار تمزقات لم يجد في الصباح وقتا لرتقها. قبل حضور الجند, وكان يلف رقبته بلفاع غريب أحمر.

قال له وانج ـ فو بصوت خفيض وهو يستمر في الرسم:

ـ لقد اعتقدت أنك مت.

ـ إنك حي, قال لينج باحترام, فكيف لي أن أموت?

وأعان لينج الأستاذ على الصعود للزورق. وانعكس سقف اليشب على الماء, بما أوحى أنه يبحر في مغارة. كانت ضفائر المحظيات الطافية تتموج على سطح الماء كالثعابين, وكانت رأس الإمبراطور الشاحبة عائمة عليه كأنها زهرة لوتس.

ـ انظر, يا تلميذي, قال وانج ـ فو بأسى, هؤلاء التعساء سوف يهلكون, إن لم يكونوا قد هلكوا. أنا لم يخطر لي أبدا أن بالبحر ماء يكفي لإغراق إمبراطور. فهل هذا ما حدث?

ـ لاتخش شيئا, يا معلمي, غمغم التلميذ. فسرعان ما يجدون أنفسهم قد جفوا ولن يذكروا حتى أن الماء بلل أكمامهم, فقط الإمبراطور هو الذي سيحتفظ في قلبه ببعض المرارة تجاه الماء. هؤلاء الناس لم يخلقوا ليتوهوا داخل لوحة.

وأضاف لينج:

ـ البحر جميل, والريح حسنة, وطيور البحر تقيم أعشاشها. لنرحل, يا أستاذي لبلاد ما وراء الموج.

ـ لنرحل, قال الرسام العجوز.

وأمسك وانج ـ فو بالدفة, وعكف لينج على المجدافين, وغمر إيقاع التجديف القاعة كلها من جديد, على نحو ثابت ومنتظم كضربات القلب. وانخفض مستوى الماء بشكل غير محسوس حول الصخور المنتصبة التي صارت من جديد أعمدة, وسرعان ما راحت تلتمع بعض برك الماء القليلة على البلاط الكابي لليشب, وجفت أثواب المحظيات, ولكن ظلت هناك سبخة زبد عالقة بهدب معطف الإمبراطور.كانت اللوحة التي أكملها وانج ـ فو موضوعة لا تزال على الطاولة المرجانية. وقد احتل كل مقدمتها زورق, راح يتباعد شيئا فشيئا, تاركا خلفه أثرا دقيقا راح ينغلق وراءه البحر الساكن. ولم يعد بمقدور أحد أن يميز وجهي الرجلين بالمركب. لكن البعض كان مازال يلحظ لفاع لينج الأحمر, ولحية وانج ـ فو الطائرة في الريح.وضعف دفق المجاديف, ثم توقف وتلاشي بفعل المسافة. وراح الإمبراطور, المنحني للأمام, وهو يضع يده على عينيه, يراقب ابتعاد زورق وانج الذي لم يعد بعد إلا بقعة لا يلحظها أحد في شحوب الغسق. وتعالى بخار ذهبي ثم انعطف على البحر. وأخيراً, دار الزورق حول صخرة تسد مدخل عرض البحر, وسقط ظل شاطئ صخري عليه, فانمحى الأثر على السطح المقفر, واختفى الرسام وانج ـ فو وتلميذه لينج إلى الأبد في بحر اليشب الأزرق الذي أبدعه.
__________________

13-05-2007

مدونتــي :

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 


  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04717 seconds with 11 queries