عرض مشاركة واحدة
قديم 29/11/2008   #2
صبيّة و ست الصبايا Marooshe
عضو
-- زعيـــــــم --
 
الصورة الرمزية لـ Marooshe
Marooshe is offline
 
نورنا ب:
Apr 2008
مشاركات:
1,420

افتراضي


ولم تكن يوماً الأفكار الحرة القوية عاجزة عن التعاطي الخلاق مع الحياة، لأنها أفكار معنية بانتاج الحياة التي تليق بالإنسان من حيث كونه الصانع المباشر لها، ومن حيث كونه المستفيد من تطورها وألقها وجماليتها، ولذلك لا تتردد هذه الأفكار في الدفع بالإنسان دائماً نحو مواجهة الظروف التي تسلب منه إرادته وحريته وكينونته، وتدفع به أيضاً إلى مواجهة ذاته التاريخية والتراثية والدينية والمذهبية، ينزع منها حالة الانشداد النفساني والثقافي التلقائي لماضوياتها التراثية المعيقة للتفكير والانتاج والتقدم والتعايش، إنها الأفكار التي تضع الإنسان في مواجهة الذات التراجعية والذات المسكونة بثقافة القدريات والغيبيات، ولذلك فإن الأفكار الحرة والجريئة والمبدعة تتوالد في مناخات التحرر من فروضات الفكر الديني اللاهوتي، الذي يقوم في مجملهِ على تكريس مبدأ العبودية في الإنسان، العبودية التي تعني في مطلق حالاتها ومستوياتها وصورها تبعية الإنسان الكاملة لظروفه وواقعه وموروثاته..

وإذا كانت الأفكار المتخلفة الانغلاقية لا تستطيع أن تصنع اختياراتها، لأنها في الأساس نتاج التكرار التلقيني واليقيني للخيار أو الاختيار الذي وجدت نفسها فيه منذ زمن بعيد، ولا تملك القدرة على الخروج منه أو حتى محاولة امتلاك الحرية في تغييره، فإن الأفكار الحرة المفعمة بالموهبة والجرأة والاقدام والتمرد صانعة حقيقية لاختياراتها، لأنها في الأساس حرة، والحرية في تصورها الأصيل تعني الإرادة الحرة في اجتراح ما تريده من اختيارات تتناسب مع طموحها واندفاعاتها ونظرتها للحياة، وتتناسب مع شخصيتها النقدية والتفكّرية وحتى مع جنونها وتمردها، إنها إرادتها الحرة التي تمنحها موهبة المواجهة مع الظروف والواقع السائد، وتجعلها ترفض الأفكار والظروف التي تقمع فيها روح المجازفة والابتكار، وتجعلها تملك أيضاً أن ترفض الأفكار والظروف التي تسلب منها رغبتها في العطاء والتغيير والتفرد..

وجوهر الأفكار الحرة، القوية، في نتائجها الداعمة للحياة والإنسان، لأنها معنية بابتكار الحياة الملونة والذكية والمبدعة والمنفتحة والملهمة، ولأنها ملهمة لنزعة الإنسان الدائمة نحو الإبداع والتألق والمغامرة، وفي أغلب مراحل التاريخ الإنساني استطاعت الأفكار الحرة أن تثبت إنها قادرة على الانتاج والابتكار والإبداع، ألم تحقق أفكار الفلاسفة الأغريق مثلاً، نتائج رائعة في بلورة (الفلسفة الإنسانية) التي دعت إلى قداسة قيم الإنسان الفردية، من حيث كونها الأساس الذي قامت عليها وانطلقت منها مجمل الإبداعات البشرية في حقول المعرفة والفن والأدب، ألم تكن هذه الأفكار الحرة، خلاقة في نتائجها على تطور الحياة والإنسان، وكان أن استدعت واستحضرت منابر التنوير في أوروبا تلك الأفكار وركزت عليها لمواجهة اللاهوت الديني الكنسي، والخروج بها إلى رحاب الحداثة والتغيير، انتصاراً لقيم الإنسان الفردية في الحرية والاستقلالية والاختيار، وانتصاراً للحياة الخالية من فكر الوصاية والهيمنة والاستبداد، وألم تُحدث بالتالي أفكار الفلاسفة التنويريين تطوراً هائلاً في تقدم الفكر الإنساني، وحققت بذلك نتائجَ باهرة في ميادين الفكر والنقد والفن والتفكير والنظريات، وعظمة الأفكار تقاس بما تستطيع أن تقدمه، وبما قدمته للإنسانية والحياة من ابداع وتطور وتغيير وجمال وحضارة وموهبة..

والأفكار الحرة بالضرورة تستدعي ظروفاً حرة، وتستلهم منها الرؤى الرائعة لصناعة الحياة البهيجة، الجميلة والمبدعة، إنها الأفكار التي لا تحشر الحياة في ثقافة الموت والقبور والعذابات والأهوال، إنها صانعة للبهجة والفرح والحب والفن البديع، ونابذة بالمقابل لثقافة الموت والكآبة والخوف والتردد والعبودية، لأن مَن يعش بين نعيق تلك الثقافات كيف له أن يرى الحياة مسرحاً للإبداع والجمال والتألق والتمرد والجنون الملهم، وإنها الأفكار التي ترى في الحياة فضاءً يجب أن يزدحم بالألوان الباعثة على الجمال والبهجة والموهبة والذكاء، وإنها الأفكار التي تمنح الحياة فتنة المنجز الإنساني الجمالي المتحرر من ثقافة الموت والكآبة والخوف، وإنها الأفكار التي لا ترى في المنابر الضاجة بصراخ الكآبة والخراب والموت والفناء والوعيد، سوى تخريب وتشويه لجمال الحياة البهية، وتطاول صارخ على حق الإنسان في اختيار ظروفه الحرة والنظيفة..

وهل تستطيع الأفكار التي تشرّع المحرمات والممنوعات، وتجعل الإنسان مسكوناً على الدوام بعقدة الابتعاد والتخلص والتطهّر من الآثام، وفقاً لتعاليمها وتوجيهاتها وفروضاتها وتحذيراتها، وتجعله دائماً في حالةٍ من تأثيم الذات، هل تستطيع أن تبني حياةً وظروفاً نابضة بدفق التألق والإبداع والحرية .؟ وهل تستطيع أن تبني إنساناً يهوى المجازفة والمغامرة والتغيير والاقتحام والتمرد، ويتفوق بالرفض والتحديق والنقد والمساءلة .؟ بالطبع لا، لأن هذه الأفكار هادمة للرغبة والإرادة الإنسانية، ورافضة للعقل والتفكير، وقامعة للذاتية والحرية والتحرر والاستقلالية، إنها الأفكار التي دائماً وأبداً تتعقب الإنسان بالمحرمات والممنوعات، وهي الأفكار ذاتها التي تجد في المحرمات والممنوعات والتأثيمات والتعنيفات والتوبيخات ترسيخاً لثقافة الكآبة والموت والعبودية، وتأكيداً على ثقافة الوهم والخرافة، ودعوة للاستسلام للظروف والواقع وثقافة القدريات والغيبيات، وتحسب ذلك كله ابتلاء واختبار للإنسان، ابتلاء واختبار يتجرّع بهما الكآبة والموت والدمار، ويستزيد بهما استسلاماً وخنوعاً لكل تلك الثقافات الهالكة، بينما الأفكار الحرة، الصانعة لظروفها الحرة، تستنهض في الإنسان نزعة الذات التفكّرية والاستقلالية والإبداعية والتساؤلية، وتستدعي فيه الرغبة والإرادة والاقتحام، وتبعث فيه روح المواجهة والحياة، واحتمالات الخلق والتغيير..

محمود كرم، كاتب كويتي...
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04195 seconds with 11 queries