عرض مشاركة واحدة
قديم 13/07/2007   #2
شب و شيخ الشباب أسير التشرد
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ أسير التشرد
أسير التشرد is offline
 
نورنا ب:
Apr 2006
المطرح:
ع سطح القمر (كندا)
مشاركات:
3,811

افتراضي تتمة...


فلسفة زرادشت:
لقد تأمل زرادشت بمنشأ الشر وسبب الألم، فوجد نفسه أمام ثنائية الألوهة المشطورة. من ناحية يقف الإله الخير "أهور مزدا" وفي ناحية يقف الإله الشر "دروج"، ولكل من هذين الإلهين قدرة على الخلق، فكلاهما قد خلق ما شاءت له الطبيعة من خلق بسببه تتسم هذه الطبيعة بطابع التضاد وتنقسم إلى مظهري الخير والشر.
هذه الفلسفة الزرادشتية في تثنيتها ليست كالتثنية الأولى للدين المزدي، وإنما هي تثنية تنقسم إلى وحدة خيّرة تجعل المنشأ الخير وتهوي بالشر في النهاية إلى هوة العدم، وبالتالي ليست هي تثنية صحيحة بمعناها الصحيح، لأن الذي أوجد الوجود هو "الخير" وأما الشر فسيمحى وسيفنى، ولهذا تنفصل انفصالاً تاماً عن الثنائية المزدية.
الزردشتية هي عقيدة دينية تتمحور حول ألوهة إله واحد مطلق عالمي ومجرد، وقد جاء ذلك على صفحات الـ"أفت" حيث ينبعث صوت زرادشت عبر سطور الـ"جاتها يآسنا" يناجي الإله " أهور مزدا".
إني لأدرك أنك أنت وحدك الإله وأنك الأوحد الأحد، وإني من صحة إدراكي هذا أوقن تمام اليقين من يقيني هذا الموقن أنك أنت الإله الأوحد.. اشتد يقيني غداة انعطف الفكر مني على نفسي يسألها: من أنتِ؟
ولفكري جاوبت نفسي؛ أنا؟ إني زرادشت أنا، وأنا؟ كاره أنا الكراهية القصوى الرذيلة والكذب، وللعدل والعدالة أنا نصير!
من هذه أتفكّر الطيبة التي تحوم في خاطري، ومن هذا الانعطاف الطبيعي في نفسي نحو الخير، ومن هذا الميل الفطري في داخلي إلى محق الظلم وإحقاق الحق أعرفك.
من هذه الانفعالات النفسية والميول الفكرية التي تؤلّف كينونتي وتكوّن كياني ينبجس في قلبي ينبوع الإيمان بأنك أنت وحدك أهورا مزدا، الإله وأنك الأوحد الأقدس الخيّر الحق!!!
"الآي من الجاتها ياسنا" 44
تنـزهت وحدانية "مزدا" عن الشرك تنزهاً إلى درجة محا معها وجود الأرباب وجعلها وهماً، هو إله لا يُسمع ولا يُرى ولا يكلّم، ولكنه يتجلى على صفحة المخيلة سيداً محاطاً بحاشية من الأرواح الطيبة أو الملائكة متفاوتة الرتب يصدر عن حفيف أجنحتها دويٌ يملأ الرحاب السماوي، وبه من كل جانب يحف، تبـرز الملائكة ككائنات مجنحة تكوينها نوري، كائنات نورية، لأنها من الإله نفسه، قد انبثقت وانتشرت في ملكوته السماوي كحاشية له وكجنود بأمره تأتمر بيده لينفرد من بينها ستة هم الرؤوس من الملائكة يحملون أسماء: العقل والحكمة والتقى والسلوك الطيب والخلود.
وهذه أسماء الصفات في الإله نفسه، منه انتشرت ككائنات نورية ولكن هذه الملائكة ليست أرباباً فلا يتجه إليها أحد بالعبادة، بل هي نفسها عابدة تتجه إلى من عليه قد قصرت العبادة.
ومن مقولات الزرادشتية: أن أول ما خلق من الملائكة (بهمن) ثم (ارديبهشت) ثم (شهريور) ثم (خرداد) ثم (مرداد) وخلق بعضهم من بعض، كما يؤخذ السراج من السراج من غير أن ينتقص من الأول شيء. ومن مقالاتهم أن للعالم قوة إلهية هي المدبرة لجميع ما في العالم المنتهية مبادئها إلى كمالاتها. وهذه القوة تسمى (ماسبند) وهي على لسان الصابئة: (المدبر الأقرب) وعلى لسان الفلاسفة (العقل الفعال) ومنه الفيض الإلهي، والعناية الربانية، وعلى لسان المانوية (الأرواح الطيبة).

زرادشت والقيم الأخلاقية:
وتدعو الزرادشتية إلى حمل القيم الأخلاقية، وفيها نظام أخلاقي راقٍ يعبر عنه زرادشت بقوله: "إني أشيد بالفكر الطيب، الكلمة الطيبة، العمل الطيب".
إن صرح القيم الأخلاقية بناء تشيده في النفس ثلاثة أركان:
ـ حُمادا أو التفكير الحميد.
ـ حُقاتا أو القول الحق أو الصدق.
ـ خفائر شتا، أو العمل الطيب أو الخير.
وانطلاقاً من ذلك يستطيع الإنسان أن يحدد بأن ما يراه حقاً هو حق بالفعل، وأن العمل الذي يراه خيراً هو حقاً الخير، وذلك على طريق التفريق بين الباطل والخير، فالباطل طبيعته الفناء، و الخير طبيعته البقاء. يا أيها الإنسان، حكِّم العقل منك.. وخالِف الهوى فيك، هذا هو التفكير الحميد، والقول الحق، والعمل الطيب أو الخير.
غرس زرادشت في البلاط في بلخ بذور دعوته، وجعل من تربتها الخصبة ميداناً لنشرها، فاعتنقها الملك الذي ذكرته "الشهنامة" باسم "جُشتاسْب، وبإعلان "جشتاسب" اعتناقه لمذهب زرادشت ديناً واعترافه بأنه الدين الحق، بدأت هذه النواة تنمو في تربة "التُبع" الأول من قبيلة المجوس، الذين أخذوا على عاتقهم التبشير بالزرادشتية وساروا في أرجاء هذه الهضبة الإيرانية يدعون إلى اعتناق هذا الدين، واعتنقتها قبيلة المجوس، ما أدى إلى انتشارها في تلك الهضبة، وعرفت هذه الديانة تبعاً لذلك باسمهم" المجوسية".

قوانين زرادشت وتشريعاته:
سنّ زرادشت قوانين تنظم المجتمع تعتبر مثالاً راقياً في مجال حقوق الإنسان، فنهى عن حياة الغزو ودعا إلى حياة السلم، وترك للناس حرية الاختيار في اعتناق مذهبه أو رفضه، فهو لم يجبر أحداً لا من قومه ولا من أعدائه التورانيين على اتباع تعاليمه، وإنما سلك في دعوته المسلك المثالي.
وقال باستقبال المشرق حيث مطلع الأنوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث.
سقط قتيلاً بيد تورانية طعنته من الخلف في اللحظة التي كان فيها غارقاً يتعبد "الخير" ويسأله: "يا مزدا متى تشرق شمس انتصار الخير على العالم؟!".
"الآي من الياسنا" 46
وقد شكل السقوط بهذه الطريقة العامل الجوهري في نشر دعوته الخيرية، فقد أمر "جُشتاسب" أن تسجل التعاليم الزردشتية وأن يحملها المبشرون إلى سائر مناحي هذه الهضبة معلنين أن الإله الخير قد بعث زرادشت بشيراً بالخير وداعياً إلى الدين الحق، وذلك عن طريق غرسه في النفوس بوسيلة المعرفة، وطريق المعرفة التعليم.
كما يقول زرادشت" إن على الإنسان أن يؤدي صدقتين: "الصدقة العملية والصدقة العلمية..".
ففي مجال الصدقة العملية يقول "من يعاون الفقير البائس يسهم في إقامة دولة آهورا مزدا".
ويقول أيضاً: "إن الذي لا يجود بماله مع ما أوتي من سعة الرزق سوف يُساق إلى هاوية الفقر، سوقاً، ولتنصّب المصائب انصباباً على الأشحاء الذين لا يتصدقون".
أما الصدقة العلمية فيوجبها زرادشت على أهل المعرفة لتسد الحاجة العقلية والروحية للجهلاء! والإيمان بوحدانية الإله الخير، وتقويم انحراف أفراد المجتمع الذين حادوا عن الخلق الطيّب حتى يزول من نفس الأفراد الجهل، وتذوب في اضمحلال من هذه النفس شهوة الشهوات.
دعا زرادشت إلى مكارم الأخلاق، وجعل دعائم الأسرة تقوم على أسس قوية من قواعد الأخلاق، فاعتبر أن الرباط العائلي عن طريق الزواج هو جزء من الدين وفي البيت الزوجي تبلغ الدنيا أقصى سعادتها: "إنه البيت الذي يضمّ زوجة صالحة ويمرح فيه أطفال وتزداد فيه التقوى".ويقول إن البيت السعيد هو البيت الذي تتناسل فيه الماشية ويكثر فيه غذاء الحيوان ويكون الكلب فيه سعيداً.
لا تكلّف شريعة "مزدا" تكاليف مادية، فلا تفرض طقوساً ولا تلزم بشعائر يؤديها معتنقوها، فالمطلوب هو نقاء الفكر والعمل.
كان زرادشت طبيباً وإلى طب الجسد امتدّ إصلاحه، وشريعته تنصّ على الشروط التي ينبغي أن تتوفر في طبيب الجسد وهي: أن يعرف تشريح أعضاء الجسم وألا يزاول العلاج إلا بعد معرفة تامة بأنواع الأدوية وأسماء الأعشاب المختلفة وخصائصها، وأن يحرم من ممارسة الطب إذا عالج ثلاثة أشخاص فماتوا.
وهذا ما جعل الطب يتطوّر ويتقدّم في إيران، فكانت مدرسة "جنديسابور" من أهم مدارس الطب قبل الإسلام، وظلت كذلك إلى القرون الإسلامية الأولى.
اعتبر زرادشت أن العمل الزراعي هو العامل الأول لنهضة الأمة، لأنها توفر للأمة قوتها وتقيها في سنين الجفاف شر القحط، والقحط باعث على إثارة شهوات الغزو في النفس وباعث على الحروب، ومن ثم كانت الزراعة عامة من أهم النواحي التي دعا زرادشت أتباعه إلى النهوض بها بقوله: إنّ زرادشت سأله ربه عن خير الطرق لإعلاء كلمة دين مزدا، فأجابه: "إنها زراعة القمح، فمن زرع القمح يزرع الاستقامة ويعين دين مزدا"، لأنه "حين تبذر حبوب القمح تذعر الشياطين.. وحين تنبت تضطرب وتمرض.. وحين ترى سيقانها تبكي.. وحين ترى سنابلها تدير ظهرها".
"من الأفت"
وبالمقابل حرّمت الشريعة الزرادشتية على المؤمن إهمال الأرض وفرضت عليه إصلاحها..
وقد جاء في قانون أردشير فيما بعد أنه كانت تنـزع ملكية الأرض البور التي لم يفلحها صاحبها، وتعطى لمن يقدر على إصلاحها وزرعها.
اعتبر زرادشت أن الكون ساحة يدور عليها الصراع الدائم بين الخير والشر في العالم، في الأسرة، في نفس الإنسان.. وعلى الإنسان أن يحارب في هذه الميادين الثلاثة والنصر بجانبه إذا بدأ بنفسه.. إن جهاد النفس أشقّ الجهاد..

  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04972 seconds with 11 queries