عرض مشاركة واحدة
قديم 19/10/2009   #6
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


إلا أن هذا لم يكن مضحكا: فالحياة كانت معلقة بخيط رفيع. الآن أنا أدرك بأنهم لم يكونوا متأكدين إذا كانوا سيتكلمون فعلا مرة أخرى، أم لا، ربما هذه هي المرة الأخيرة، إذ من يدري ماذا سيحدث، هل ستحدث اشتباكات، تحدث مذبحة، مجزرة، يقوم العرب ويذبحوننا جميعا، تندلع حرب، تحدث كارثة، أولم تصل مدرعات هتلر إلى عتبتنا من جهتين: من شمال أفريقيا وكذلك عبر القفقاز، من يدري ما الذي بانتظارنا. هذه المكالمة الفارغة ليست فارغة إطلاقا - لكنها كانت هزيلة.
الشيء الذي تنوّرني به الآن تلك المحادثات التلفونية هو كم كان من الصعب عليهم – على الجميع، وليس على والديّ فقط - أن يعبّروا عن مشاعرهم الخاصة. في التعبير عن الشعور العام لم تواجههم أية صعوبة- فقد كانوا أناسا حساسين، وأحسنوا التعبير. أواه كم أحسنوا التعبير، كانوا قادرين على أن يتناقشوا ثلاث - أربع ساعات بحماس كبير حول نيتشه، ستالين، فرويد، جابوتنسكي، وأن يضعوا في ذلك كلّ قوّتهم، وأن يصلوا إلى دموع الشفقة، وأن ينشدوا الأناشيد، حول الاستعمار، واللاسامية، والعدالة، و"قضية الأراضي"، وحول "قضية المرأة"، وحول "قضية الفن إزاء الحياة". ولكنهم في اللحظة التي حاولوا فيها التعبير عن شعور خاصّ، صدر عنهم شيء منكمش، مقفر، وربما حتى مرعوب، والذي هو ثمرة أجيال تلو أجيال من الكبت والتحريم. تحريم مضاعف، منظومتان من الكوابح: ضاعفت الأعراف الأوروبية البرجوازية من قوّة القيود التي فرضتها البلدة اليهودية المتدينة. كلّ شيء تقريبا كان "ممنوعا" أو "غير مألوف" أو "غير لائق".
بالإضافة إلى ذلك كان هناك نقص كبير في الكلمات: لم تصبح اللغة العبرية بعد لغة طبيعية بما فيه الكفاية، وبالتأكيد لم تصبح بعد لغة حميمية، كان من الصعب أن تعرف ماذا يبدر منك عندما كنت تتكلم العبرية. لم يكن الناس واثقين أبداً بأنه لن يصدر عنهم شيء سخيف، ومن السخف كانوا يخافون ليل نهار. خافوا حتى الفزع. حتى أن أشخاصا كوالديّ الذين أتقنوا العبرية جيدا، لم يتمكّنوا منها بشكل عملي.كانوا يتكلمون العبرية وهم يرهبون الوقوع في الخطأ، يتراجعون أحيانًا كثيرة ويصوغون من جديد ما قالوه لتوهم: ربما هكذا يشعر سائق قصير النظر وهو يتحسس طريقه في الليل في شبكة الطرقات الضيقة لمدينة غريبة في سيارة لم يسقها من قبل.
ذات مرة، جاءت لضيافتنا يوم سبت، صديقةٌ لأمّي تعمل معلمة اسمها ليليا بار سمخا. دار حديث، وكانت الضيفة تقول دائمًا "أنا أضرط خوفاً" ومرة أو مرتين قالت أيضًا "كان يضرط خوفاً" وقد انفجرت بالضّحك وهم لم يفهموا ما المضحك، أو أنهم فهموا وتظاهروا بأنهم لا يفهمون. كذلك كان الأمر عندما قالوا بأن العمّة كلارا دائمًا "تخرأ" البطاطا المقلية، وكذلك عندما تحدّث أبي عن سباق التسلّح بين الدول العظمى أو عبر عن معارضة غاضبة لقرار دول حلف الناتو البدء في تسليح[1] ألمانيا من أجل ردع ستالين.
والدي، من جهته، كان يتجهم وجهه في كلّ مرة كنت استعمل فيها بكلمة "يدبّر" وهي كلمة ساذجة تماما تخلو من أي تورية، ولكنني لم افهم، ولو لمرة واحدة، لماذا كانت هذه الكلمة تثير غضبه، وهو بالطبع لم يشرح، ولم يكن بالحسبان أن أسأله. بعد سنوات علمت بأنه قبل ولادتي، في الثلاثينيات، كانت كلمة "يدبّر" تعني يحبّل المرأة، وليس هذا فحسب بل يحبلها ولا يتزوجها. على ما يبدو أنهم ببساطة قصدوا، أحيانًا، في التعبير "يدبّرها" القول بأنه ضاجعها: "في تلك الليلة في مشغل تغليف البرتقال دبّرها مرتين، وفي الصباح تظاهر، الحقير، بأنه لا يعرفها إطلاقا." ولذلك إذا قلت بـ"أن أوري دبّر أخته" كان وجه أبي يتجهم وينكمش قليلا منبت أنفه. من المؤكد بأنه لم يشرح ذلك إطلاقا- وهل كان ذلك ممكنا؟
في اللحظات الخصوصية لم يتحدثا بينهما باللغة العبرية. ولربما في اللحظات الخصوصية جدًًّا لم يتكلما إطلاقا. صمتا. عاش الجميع في ظل الخوف من أن يُرى أو يسمع شيء سخيف.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03447 seconds with 11 queries