عرض مشاركة واحدة
قديم 19/10/2009   #5
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


طوال سنتين كان لنا ترتيب ثابت للاتصال التلفوني مع العائلة في تل أبيب. مرة كلّ ثلاثة- أربعة أشهر كنا نتصل بهم تلفونيا، مع أنه لم يكن عندنا ولا عندهم تلفون. في البداية كنا نرسل رسالة إلى الخالة حاية والعمّ تسفي وفيها نكتب أنه في التاسع عشر من الشهر الذي يوافق يوم الأربعاء، في أيام الأربعاء تسفي ينهي العمل في عيادة صندوق المرضى (كوبات حوليم) في الساعة الثالثة، وعليه، في الساعة الخامسة نتصل بهم من صيدليتنا إلى صيدليتكم. ترسل الرسالة قبل اليوم الموعود بوقت طويل وكنا ننتظر منهم الردّ. في ردّهم يعد العمّ تسفي والخالة حاية بأن يوم الأربعاء الموافق التاسع عشر ملائم لهما تماما وأنهما سينتظران في الصيدلية قبل الساعة الخامسة، وألا نقلق إذا حدث واتصلنا بعد الخامسة بقليل إذ أنهما لن يهربا بكل تأكيد.
أنا لا اذكر إذا كنا نلبس أجمل ملابسنا بمناسبة الذهاب إلى الصيدلية، تكريما للمكالمة مع تل أبيب، لكنني لن استغرب إذا كنا نفعل ذلك. كان ذلك طقس احتفالي. فمنذ يوم الأحد كان أبي يقول لأمّي: فانيا، هل تذكرين هذا الأسبوع هو أسبوع المكالمة مع تل أبيب؟ وفي يوم الاثنين كانت أمي تقول: آرييه، لا تتأخر بعد غدٍ حتى لا يحدث أي طارئ. وفي يوم الاثنين كان كلاهما يقولان لي، عاموس، إيّاك أن تعمل لنا أي مفاجأة، هل تسمع، احترس من أن تصاب بمرض ، أو زكام، أو أن تقع حتى غد بعد الظهر. وفي الليلة الأخيرة كانا يقولان لي: اذهب للنوم مبكرا حتى تكون قويا غدا في التلفون، أنا لا أريدهم أن يسمعوك هناك كمن لم يتغذّ.
هكذا كانا يبنيان الانفعال. كنا نسكن في شارع عاموس، والصيدلية كانت على بعد خمس دقائق مشيا على الأقدام، في شارع تسفانيا، ولكن أبي كان منذ الثالثة يقول:
"لا تبدئي بأي شيء جديد الآن، حتى لا تكوني في ضيق من الوقت."
"أنا على أتمّ الاستعداد، ولكن أنت مع كلّ هذه الكتب، أخشى أن تنسى الأمر كليا."
"أنا؟ أنسى؟ إنني أنظر في الساعة كلّ عدة لحظات وعاموس يذكّرني."
ها أنا في الخامسة أو السادسة وأتحمل مسؤولية تاريخية، ما كانت لي ساعة يدوية ولم يكن بالإمكان أن تكون لي ولذلك كنت اركض كلّ لحظة إلى المطبخ لأرى ماذا يقول المنبّه، وكمن يطلق سفينة فضاء كنت أعلن: بعد خمس وعشرين دقيقة، بعد عشرين، بعد خمس عشرة، بعد عشر دقائق ونصف- وعندما كنت أقول بعد عشر دقائق ونصف كنا نقف نغلق البيت جيدا ونخرج ثلاثتنا إلى الشارع إلى اليسار حتى نصل بقالة السيّد أوستر ثمّ نتجه إلى اليمين إلى شارع زخاريا وشمالا إلى شارع ملآخي ويمينا إلى شارع تسفانيا ومباشرة كنا ندخل إلى الصيدلية، نقول:
"السلام والتحية سيد هاينمن، كيف حالك؟ جئنا من أجل التلفون."
إنه على علم، بالطبع، بأننا سنأتي يوم الأربعاء لكي نتصل بأقاربنا في تل أبيب، كما أنه يعلم بأن تسفي يعمل في عيادة، وأن لحاية كانت وظيفة مرموقة في مجلس العاملات وبان يجئال سيكبر ويصبح رياضيا وبأنهم أصدقاء مقربون لجولدا مئيرسون وميشا كولودني، المعروف هنا باسم موشيه كول، ولكننا مع ذلك ذكّرناه: "جئنا كي نتّصل بأقاربنا في تل أبيب." كان السيّد هاينمن يقول: "نعم، بالطبع. تفضلوا بالجلوس،" وكان يحكي لنا نكتة التلفون الدائمة: ذات مرة في المؤتمر الصهيوني في زوريخ انفجر فجأة صراخ فظيع من إحدى الغرف الجانبية. سأل بيرل لوكر هرتسفيلد: ما هذا الصراخ؟ فأجابه هرتسفيلد بأن هذا هو الرفيق روبشوف يتحدث في التلفون مع بن غوريون في القدس. يتكلم مع القدس! استغرب بيرل لوكر، إذن لماذا يستعمل التلفون؟
كان أبي يقول: "الآن سأطلب الرقم." وأمي: "ما زال الوقت مبكرا، آرييه. بقيت عدة دقائق حتى يحين الوقت." فكان يقول: "نعم، ولكن حتى يتم الاتصال (لم يكن في حينه اتصال مباشر). فتقول أمّي: "ولكن ما يحدث لو أن الاتصال تمّ بسرعة، وهم لم يصلوا بعد؟" وكان أبي يجيبها: "في مثل هذه الحالة نعاود الاتصال مرة ثانية." فتقول أمي: "لا، فهم سيقلقون، فقد يظنون أنهم خسروا المكالمة."
وما أن ينتهي الجدّال بينهما حتى تصبح الساعة الخامسة تقريبا. كان أبي يرفع السماعة، وهو واقف لا جالس، وكان يقول لعاملة المقسم: "تحياتي لك يا سيدتي. أطلب تل أبيب 648" (أو شيئا من هذا القبيل. في حينه عشنا عهد الأرقام الثلاثة). في بعض الأحيان كانت عاملة المقسم تقول: "رجاء الانتظار بضع لحظات، أيها السيّد، فإنّ مدير البريد يتحدث الآن." أو السيّد سيطون أو السيّد النشاشيبي. أما نحن فكنا نشعر بالضيق شيئا ما، إذ ماذا سيحدث؟ ماذا سيظنون بنا هناك؟
استطعت فعلا أن أرى ذلك السلك الوحيد الذي يربط القدس بتل أبيب وعبرها - بكل العالم، وهذا الخط مشغول، وما دام هذا الخط مشغولا – فنحن مقطوعون عن العالم. هذا السلك يلتوي في الصحراء وفوق الصخور يتلوى بين الجبال والتلال وقد اعتقدت أن هذه معجزة كبيرة. وقد ارتعدت فرائصي: ماذا سيحدث لو أن بعض الحيوانات الضارة جاءت في الليل وأكلت هذا السلك؟ أو قام عربي شرير بقطعه؟ أو تتسرب إليه مياه الأمطار؟ أو يحدث حريق في الأشواك؟ من يدري. كانت تملؤني مشاعر الشكر لأولئك الأشخاص الذين قاموا بمد هذا الخط، شجعان، ماهرون إذ أن ليس من السهل مد خط من القدس إلى تل أبيب، من التجربة عرفت كم كان الأمر صعبا: ذات مرت مددت سلكا من غرفتي إلى غرفة إلياهو فريدمن على بعد دارين وساحة من بيتنا، سلك رفيع ومتين، ورشة كاملة، الأشجار في الطريق، والجيران، مخزن، جدار، درج وشجيرات.
بعد أن انتظر قليلا، كان أبي يخمن بأن مدير البريد أو السيّد النشاشيبي قد أنهيا مكالمتهما، فكان يرفع السماعة ويقول لعاملة المقسم: "عفوا، يا سيدتي، أظنني قد طلبت الاتصال بتل أبيب 648." فكانت تقول: "سجلت طلبك أمامي، أيها السيّد، رجاء الانتظار" (أو "أرجو أن تتحلّى بالصبر"). فكان أبي يقول: "أنا انتظر، يا سيدتي، بالطبع أنني انتظر ولكن هناك أشخاص ينتظرون أيضًا على الطرف الآخر." وبذلك كان يلمّح لها بأدب بأننا حقا أناس حضاريون ولكن يوجد حد للصبر وضبط النفس. صحيح أننا أناس مؤدّبون جدًًّا ولكننا لسنا ساذجين يمكن الضحك علينا؛ لسنا غنما تقاد إلى المسلخ لذبحها. لقد انتهت وإلى الأبد إمكانية أن ينكّل أي شخص باليهودي وأن يفعل به كلّ ما يحلو له.
وعندها كان التلفون يرن فجأة هناك في الصيدلية، وكان هذا دائمًا رنينا صاخبا يرجف له القلب ويقشعرّ له الظهر، لحظة سحرية خارقة، وكانت المكالمة تتم على النحو التالي تقريبا:
" هالو تسفي؟"
"يتكلّم."
"هذا آرييه. من القدس."
"نعم آرييه، تحياتي، هنا تسفي، كيف حالكم؟"
"عندنا كلّ شيء على ما يرام. نحن نكلمكم من الصيدلية."
"ونحن كذلك. ما الجديد؟"
"لا جديد. كيف الحال عندكم؟ ماذا تقول؟"
"كلّ شيء على ما يرام. لا شيء خاصّ. عائشون."
"إذا لم يكن هناك أي جديد، فهذا جيد. لا جديد عندنا أيضًا. نحن جميعا بخير. كيف الحال عندكم؟"
"كذلك."
"جيد جدًًّا. إذن الآن ستكلمكم فانيا."
ومرة أخرى نفس الشيء: كيف حالكم؟ ما الجديد؟ وبعد ذلك: "الآن عاموس سيكلمكم عدة كلمات."
كانت هذه هي المكالمة كلها. كيف الحال؟ جيدة. إذا كان الأمر كذلك سنكلمكم ثانية قريبا. ما أجمل أن نسمع صوتكم. ما أجمل أن نسمع صوتكم أنتم أيضًا. سنرسل إليكم رسالة نحدد موعدا للمكالمة في المرة القادمة. سنتكلم. نعم. بالطبع سنتكلم. قريبا. إلى اللقاء. حافظوا على أنفسكم. نتمنى لكم كلّ الخير. نتمنى لكم أنتم أيضًا كلّ الخير.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05127 seconds with 11 queries