عرض مشاركة واحدة
قديم 19/10/2009   #4
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


تل أبيب في تلك الأيام كانت خلف جبال الظلام أيضًا، مكان مثير جاءتنا منه الصحف، والإشاعات حول مسرح وأوبرا وباليه وكباريه وعن فن حديث، الأحزاب، صدى النقاشات العاصفة، وكذلك بعض الأقاويل الغامضة. رياضيون كبار كانوا هناك في تل أبيب. وكان هناك بحر، والبحر هناك كله مملوء باليهود المسفوعين الذين يجيدون السباحة. من يجيد السباحة في القدس؟ مَن، أصلا، سمع مرة عن يهود يسبحون؟ هؤلاء هم من طينة أخرى. طفرة. "كأعجوبة ولادة الفراشة من الدودة."
كلمة "تل أبيب" وحدها كان لها سحر خفي خاصّ. عندما يقال "تل أبيب" كنت أرى في الخيال للتوّ صورة شاب قوي كهذا، بفانيلا الشغل الزرقاء، مسفوع، عريض المنكبين، شاعر-عامل- ثوريّ، شاب لا يعرف الخوف، اعتبروه "سهل المعاشرة"، مجعّد الشعر، يعتمر قبعة "كاسكت" بإهمال- وتأنّق، يدخن سجائر "ماتوسيان" وهو "محلّيّ" في هذا العالم: يعمل طوال النهار في التبليط أو الأسمنت، وفي المساء يعزف على الكمان، وفي الليل يرقص مع الفتيات أو يغني لهنّ أغاني حزينة بين الرمال على ضوء البدر، وقبيل الفجر يسحب من مخبئه مسدسا أو رشّاشا ويخرج خلسة في قلب الظلام ليحمي الحقول والبيوت.
كم كانت تل أبيب بعيدة! طوال سنوات طفولتي كنت في تل أبيب خمس أو ست مرات لا أكثر: كنا نسافر لقضاء العيد مع الخالات. ليس الضوء وحده في تل أبيب في ذلك الوقت كان مختلفا عن الضوء المقدسي أكثر مما هو مختلف عنه الآن، بل حتى قوانين الجاذبية كانت مختلفة تماما. ففي تل أبيب مشوا بشكل مختلف: قفزوا- حلقوا، كما فعل نيل آرمسترونج على القمر.
أما عندنا في القدس فكانوا يمشون دائمًا كمن يمشون في جنازة، أو كمن يدخلون متأخرين إلى كونسرت: أولا يضعون طرف الحذاء ويتذوقون بحذر الأرض. بعد ذلك عندما يكونون قد وضعوا القدم لا يسرعون في تحريكها: بعد ألفي سنة وجدوا موقع قدم في القدس، إذن لن يتنازلوا عنها بهذه السرعة. إذا رفعنا القدم – فورًا سيأتي شخص آخر ويأخذ منا قطعة أرضنا، التي لا تسمن ولا تغني من جوع. من جهة أخرى، إذا كنت قد رفعت رجلك – لا تسرع وتعود إلى وضعها: من يدري أي شِلّة أفاعٍ، معادية، تحيك المؤامرات، يمكن أنها تحطّ هناك. أولم ندفع خلال آلاف السنين ثمنا من الدماء مقابل تسرّعنا، المرة تلو المرة وقعنا في أيدي عدو وخصم لأننا وضعنا أقدامنا دون أن نفحص أين. هكذا تقريبا كان المشي المقدسيّ. ولكن في تل أبيب، ما هذا! المدينة كلها كانت جندبا. تدفّق الناس وتدفّقت البيوت والشوارع والميادين ورياح البحر والرمال والجادات وحتى السحب في السماء.
في إحدى المرات جئنا إلى تل أبيب للاحتفال بليلة عيد الفصح، وفي الصباح الباكر عندما كان الجميع ما زالوا نياما لبست ملابسي وخرجت من البيت ورحت لألعب وحدي في ساحة ما صغيرة وفيها مقعد أو مقعدان، أرجوحة، وصندوق رمل، وثلاث – أربع شجرات صغيرة كانت العصافير التي عليها قد بدأت تزقزق. بعد ذلك بعدة أشهر، في رأس السنة، سافرنا مرة أخرى إلى تل أبيب، وإذا الساحة قد اختفت. نقلوها بأشجارها الصغيرة والأرجوحة والمقعد والعصافير وصندوق الرمل إلى طرف الشارع الآخر. ذهلت: لم افهم كيف يسمح بن غوريون والمؤسسات المسؤولة بالقيام بمثل هذا العمل. كيف ذلك؟ من يقوم فجأة بنقل ساحة؟ ما هذا، غدا يمكن أن ينقلوا جبل الزيتون؟ برج داوود؟ حائط المبكى؟
كانوا عندنا يتحدثون عن تل أبيب بحسد وافتخار، وتقدير وبنوع من السرية: كأنّ تل أبيب هي نوع من مشاريع الشعب اليهودي السرية والحيوية، مشروع من المفضل عدم التحدّث عنه أكثر من اللازم، للحيطان آذان، المبغضون وعملاء الأعداء موجودون في كلّ مكان.
تل أبيب: بحر، ضوء، سماء زرقاء، رمال، سِقالات، يهود، أكشاك في الجادّات، مدينة عبرية بيضاء، بسيطة الخط، تنمو بين البيارات والكثبان. ليست مجرد مكان تشتري تذكرة وتسافر إليه في حافلة شركة "إيجد" بل قارة أخرى.

*

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05235 seconds with 11 queries