عرض مشاركة واحدة
قديم 19/10/2009   #2
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


قصة عن الحب والظلام
ترجمة: جميل غنايم
مراجعة: محمود كيّال
עמוסעוז: סיפורעלאהבהוחושך
Amos Oz: A TALE OF LOVE AND DARKNESS
1

ولدت وترعرعت في بيت أرضي صغير جدًًّا، لا تتجاوز مساحته الثلاثين مترا مربعا، يكاد سقفه يلامس رؤوس ساكنيه، كان سرير نوم والديّ عبارة عن كنبة دُرج كانت تفتح مساء كلّ يوم فتملأ الغرفة من الحائط إلى الحائط. وفي الصباح الباكر كانا يطويانها ويخفيان في أحشاء درجها السفلي الشراشف والمخدات ويكسوانها بغطاء رمادي فاتح وينثران عليها وسائد شرقية مطرّزة، حتى لا يبقيا أثرًا لنوم ليلتهما عليها. وهكذا كانت غرفتهما غرفة نوم وغرفة عمل ومكتبة وغرفة طعام وغرفة ضيوف.
مقابل هذه الغرفة كانت غُريفتي الخضراء، التي احتلت نصف مساحتها خزانة ملابس ضخمة الكرش. كان يربط هاتين الغرفتين الصغيرتين بالمطبخ وكوخ المنافع ممرٌ مظلم وضيق ومنخفض وملتوٍ بعض الشيء يشبه سرداب الهاربين من سجن. مصباح كهربائي ضعيف محبوس داخل قفص حديديّ كان يلقي بضوئه الباهت المتكدّر على هذا الممر في ساعات النهار أيضًا. من الجهة الأمامية لم يكن هناك إلا شباك واحد لغرفة والديّ وشباك واحد لغرفتي، كلاهما محميان بدُرَف حديدية، وكلاهما يحاولان أن يسترقا النظر ليُطلا شرقا إلا أنهما لا يريان إلا شجرة سرو مغبرة وجدارًا من حجارة غير مصقولة. أطلّ مطبخنا ومنافعنا عبر كوّة محدّدة على ساحة سجناء صغيرة محاطة بحيطان عالية ومرصوفة بالأسمنت، فيها كانت تحتضر نبتة خبيزة شاحبة زرعت في صفيحة زيت صدِئة لعدم وصول أشعة الشمس إليها. على قواعد النوافذ كانت تصطف دائمًا مرطبانات مغلقة فيها خيار مخلل وشتلة صبّار مغمومة البال مستحكمة في تراب مزهرية تشقّقت فتحوّلت للخدمة بوظيفة أصيص.
كان ذلك بيت أرضيّ: الطابق الأرضي في هذا المبنى حفر في سفح جبل. كان هذا الجبل هو جارنا الذي خلف الحائط - جار ثقيل، انطوائيّ، واجم ، جبل هرم وكئيب، له عادات أعزب ثابتة، حرص دائمًا على الهدوء المطلق، جبل وسنان كهذا، شتويّ، لم يسبق أن حرّك أثاثًا أو استقبل ضيوفا لم يضايق ولم يضجّ أو يشكُ. ولكن عبر الحائطين المشتركين بيننا وبينه كانت تتسرّب إلينا دائمًا برودة وظلمة وصمت ورطوبة هذا الجار المكتئب مثل رائحة العفونة الخفيفة والعنيدة.
وهكذا كان طوال فترة الصيف يُحتفظ عندنا شيء من الشتاء.
كان الضيوف يقولون: لطيف جدًًّا عندكم في أيام الحر الشديد، بارد وهادئ، بارد فعلا، ولكن كيف تتحملون ذلك في الشتاء؟ أولا تنقل الحيطان الرطوبة؟ أوليس الوضع كئيبا في الشتاء هنا؟

*

الغرفتان، كوخ المطبخ، المنافع وخاصة الممر الذي بينها كانت كلها مظلمة. الكتب عندنا ملأت كلّ زاوية في البيت: عرف والدي القراءة بست عشرة أو سبع عشرة لغة والتحدّث بإحدى عشرة (وكلها بلكنة روسية). أمي تحدثت بأربع أو خمس لغات وقرأت بسبعٍ أو ثمانٍ. كانا يتحدثان بينهما بالروسية والبولندية عندما أرادا ألا أفهم (طوال الوقت أرادا ألا أفهم، عندما زلّ لسان امي مرة وقالت على مسمع مني "حصان فَحل" باللغة العبرية بدلا من الأجنبية، أنّبها والدي بلغة روسية غاضبة: شتو اسْ تبوي؟! فيدش مَلتشيك ريادوم اسْ نامي!). لاعتبارات حضارية قرأ والديّ كتبا بالألمانية والإنجليزية بشكل خاصّ، أما أحلامهما في الليل فقد كانت بالتأكيد بالإيديش. أما أنا فلم يعلماني إلا العبرية لا غير: ربما خشيا من أن معرفة اللغات ربما تكشف لي مغريات أوروبا الرائعة والقاتلة.
في سلم قيم والديّ، كلّ ما كان غربيا أكثر اعتبروه أكثر تحضّراً: تولستوي ودوستويفسكي كانا قريبين إلى نفسيهما الروسيتين، ومع ذلك، يخيّل إليّ أن ألمانيا – بالرغم من هتلر- كانت في نظرهما أكثر تحضّراً من روسيا وبولندا؛ وفرنسا- أكثر من ألمانيا. بريطانيا احتلت في نظرهما مكانة أعلى حتى من فرنسا. أما بالنسبة لأمريكا- لم يعودا على يقين: هناك يطلقون النار على الهنود الحمر ويسطون على قطارات البريد، يحققون أرباحاً خيالية ويصطادون البنات.
كانت أوروبا بالنسبة إليهما بلاد الميعاد المحرّمة، بلاد الحنين والأشواق، وأبراج الأجراس والميادين المرصوفة ببلاط حجري عتيق. بلاد الترام والجسور وأبراج الكنائس، القرى النائية، والينابيع الطبية، والغابات والثلوج والمراعي.
الكلمات " كوخ"، "مرعى"، "راعية الإوزّ" كانت تغريني وتثير انفعالي طوال فترة طفولتي. فقد كانت تحمل نكهة حسية لعالم حقيقيّ، مطمئن، بعيد عن أسطح الصفيح المغبرة، وساحات الخردوات والأشواك وعن سفوح القدس القاحلة التي تختنق تحت وطأة الصيف المتوهّج. كان يكفي أن أهمس لنفسي "مرعى" حتى أسمع خوار البقرات التي عُلّقت أجراس صغيرة في أعناقها وخرير الغدران. كنت أنظر إلى راعية الإوز الحافية بعينين مغمضتين، والتي كانت في نظري مثيرة، بلا حدود، للشهوة الجنسية قبل أن أعي شيئا.

*

بعد مرور سنوات تبيّن لي أن القدس التي تحت الحكم البريطاني في سنوات العشرين والثلاثين والأربعين، كانت مدينة ثقافية جذابة: كان فيها تجار كبار، وموسيقيون، ومثقفون وأدباء: مارتين بوبر وجرشوم شالوم وعَجنون بالإضافة إلى كثير من الباحثين والفنانين المرموقين. أحيانًا، عندما كانوا يمرون في شارع بِن يهودا أو في جادّة بن ميمون كان أبي يهمس في أذني: "ها هو هناك يمر مثقف صاحب شهرة عالمية". لم أعِ ما كان يرمي إليه. ظننت أن للشهرة العالمية علاقة بمرض في الرِّجلين، وذلك لأنّه، في معظم الحالات، كان ذلك شخصا هرما يتوكأ على عصا تتلمّس له الطريق ورجلاه تتثاقلان، وهو، إلى ذلك، يرتدي في الصيف بذلة صوف ثقيلة.
القدس التي كانت محطّ أنظار والديّ امتدّت بعيدا عن حيّنا: كانت القدس في حي رحافيا المغمورة بالخضرة وبأنغام البيانوهات، كانت في ثلاثة إلى أربعة مقاهٍ ذات ثُريّات مُذهبة في شارع يافا وشارع بِن يِهودا وفي قاعات الواي أم سي إي (جمعية الشبان المسيحيين)، وفي فندق الملك داوود. هناك كان يجتمع محبو الثقافة من اليهود والعرب مع بريطانيين مثقفين ولطفاء، هناك أبحرت – حلّقت سيدات حالمات طويلات العنق بفساتين السهرة وهن يمسكن بأذرع سادة يرتدون البدلات الغامقة (السوداء)، هناك جلس انجليز واسعو الاطلاع والمعرفة مع يهود حضاريين ومع عرب مثقفين، هناك أقيمت الحفلات الموسيقية الفردية، والحفلات، والأمسيات الأدبية، وحفلات الشاي، والمناقشات الفنية الرقيقة. إلا أن قدسا كهذه، مع ثريات وحفلات شاي لم تكن إلا في أحلام سكان "كيرم أفراهام"، أمناء مكتبات، معلمين، موظّفين ومُجلّدي كتب. على كلّ لم تكن عندنا؛ حيّنا كيرِم أَفراهام كان تابعا لتشيخوف.
بعد سنوات، عندما قرأت تشيخوف (مترجما إلى العبرية) كنت متأكّدا أنه واحد منّا: فها هو العمّ فانيا يسكن، فعلا، في الطابق الذي فوقنا، والدكتور سامويلنكو كان ينحني ويجسّ جسمي بيديه العريضتين والقويتين عندما مرضت بالذبحة الصدرية أو بالخانوق (الدِّفتيريا)، لايبسكي صاحب الصُّداع النّصفي المزمن كان ابن عم امي، أما تريغورين فكنا نذهب للاستماع إليه في صباح السبت في قاعة "بيت الشعب".
صحيح أنه كان عندنا أشخاص روس من أصناف مختلفة: كان الكثير من التولستويين، حتى أن بعضهم كان يشبه تولستوي شبها تامّا. عندما اصطدمت بصورة بُنيّة لتولستوي على غلاف كتاب، كنت متأكّدا أنني رأيته عندنا مرارا كثيرة: يتسكع في شارع ملآخي أو في منحدر شارع عوفاديا حاسر الرأس، ولحيته الشائبة تتطاير في الهواء، كله هيبة ووقار مثل سيدنا إبراهيم الخليل، عيناه يتألق وميضهما، وبيده غصن يتخذه عكازا، وقميصه الفلاحي يتدلّى فوق بنطلونه الواسع الفضفاض، مربوط بحبل غليظ حول خصره.
التولستويون في حيّنا (والداي كانا يسميانهم " تولستويتشيكيين" ) كانوا جميعا نباتيين غيورين، مُصلحين، دُعاة أخلاق، يملأهم إحساس عميق نحو الطبيعة، يحبون البشر، ويحبون كلّ مخلوق حيّ، أيّ مخلوق، يملأهم حماس للسلام ومعارضة للحرب والشوق الشديد إلى حياة العمل البسيطة والنقيّة، وكلهم توّاقون إلى حياة الريف، والعمل الزراعي الأصيل في أحضان الحقول والبساتين. ولكنهم مع ذلك لم يفلحوا كثيرا حتى في العناية بأصصهم المتواضعة: ربما سقوا النباتات كثيرا حتى ماتت غرقًا أو ربما فاتهم أن يسقوها فماتت عطشا، أو ربما كانت تلك مسؤولية الحكم البريطاني الذي كان يمزج الكلور بمياهنا.
قسم منهم كانوا تولستويين شديدي الشبه بشخصيات رواية لدوستويفسكي معذّبين، كثيري الكلام، غرائزهم مكبوتة، وآراؤهم مترددة. ولكن جميعهم، التولستويين وكذلك الدوستويفسكيين، كلهم في حي "كيرِم أَفْراهام" كانوا في الواقع يشتغلون عند تشيخوف.
بشكل عام، كلّ العالم كان يسمّى عندنا باسم "العالم الكبير"، مع أنه إضافة إلى ذلك كانت له أسماء عائلة أخرى: المتنور، الخارجي، الحر، المنافق. أما أنا فلم أتعرف عليه تقريبا إلا من مجموعة الطوابع: دنتسيك. بوهيميا ومورافيا. البوسنة والهرسك. أوبنجي- شاري. ترينيداد وطوبغو. كينيا- أوغندا- تنغانيكا. كلّ العالم كان بعيدا، جذابا، فتنا ولكن خطيرا جدًًّا ومعاديا لنا: لا يحبون اليهود لأنهم فطِنون، متوقدو الذهن ومتفوقون وإلى جانب ذلك ضوضائيون ويقفزون في المقدمة. ولا يحبون مشروعنا هنا في أرض إسرائيل لأنهم يحسدوننا حتى على قطعة أرض صغيرة كلها مستنقعات وصخور وصحاري. هناك في العالم جميع الحيطان كانت مغطاة بالكتابات المعادية: "أيها اليهودي الحقير، اذهب إلى فلسطين، "وها قد ذهبنا إلى فلسطين والآن كلّ العالم يصرخ علينا: "أيها اليهودي الحقير، اخرج من فلسطين."

ليس كلّ العالم وحده كان بعيدا بل أرض إسرائيل أيضًا: هناك في مكان ما، وراء الجبال، أخذ ينمو جنس جديد من اليهود الأبطال، جنس مسفوع، قويّ، سكوت وعمليّ، لا يشبه إطلاقا اليهودي المهجري ولا يشبه إطلاقا سكان كيرم افراهام. فتيان وفتيات، طلائعيون، حازمون، مسفوعون، سكوتون، والذين افلحوا في تحويل ظلمة الليل إلى صديق؛ كما أنهم فيما يتعلق بعلاقات الرجال بالنساء وعلاقات النساء بالرجال قد قطعوا شوطا واجتازوا كلّ القيود ولم يعودوا يخجلون من أي شيء. ذات مرة قال لي جدّي ألِكْسَنْدِر: "إنهم يعتقدون أن الأمر في المستقبل سيكون سهلا جدًًّا، حيث يستطيع الشاب التقدم من الفتاة ويطلب منها ذلك، وربما لن تنتظر الفتيات حتى يطلب الشاب منهن ذلك وربما طلبن هن أنفسهن ذلك من الشباب كما يطلبون أن يصبوا لك كأس ماء." أما العمّ بتسليئل قصير النظر فقد قال غاضبا ولكن بأدب: "ولكن أوليس هذا أمرا بولشِفيًّا من الدرجة الأولى، أن يُهدم كلّ سرية وتكتّم؟! أن تلغى كلّ العواطف والمشاعر؟! أن تحوَّل كلّ حياتنا إلى كأس ماء فاتر؟!" أما العمّ نحميا فكان، من زاويته، يخور فجأة ببيتين من الشعر بدوا لي مثل أنين حيوان يائس: "أواه، تبدو لي الطريق بعيدة جدًًّا، الدرب يتلوّى ويهـرب، أواه يا أماه، أنا اهتزّ ولكنك بعيدة، القمر أقرب إليّ منك..." والعمّة تسيبورة تقول بالروسية: "هيا، كفى، هل جننتم جميعا؟ أوليس الولد يسمعكم!" وعندها ينتقلون إلى الروسية.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06785 seconds with 11 queries