عرض مشاركة واحدة
قديم 09/06/2008   #39
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


أو لعلهم كانوا بقصة مأدبة السفاح، وهي ما أشرنا إليه بالقرار الثاني في خلافته، وهو قرار خليق بأن في أيامنا هذه في معاهد السينما كنموذج رائع لحبكة الإخراج، وتسلسل السيناريو وترابطه، ليس هذا فحسب، بل أن القرار قد سبقته (بروفة)، أي تجربة حية في نفس موقع التمثيل.

ولن يشك القارئ في أن كل ما حدث كان مرتباً، وأن الأقدمين كانوا على دراية واسعة بفن التشويق، وكانوا أيضاً على مقدرة كبيرة في تدبير المفاجأة، ثم تبريرها بحيث تمر طبيعية ومتناسقة ومتسقة مع سياق الأحداث، ولنبدأ بالبروفة ولنقرأها معاً كما ذكرها ابن الأثير (الكامل في التاريخ لابن الأثير – ج4 ص 333) (دخل سديف"الشاعر"على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أكرمه فقال سديف:


لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داء دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أموياً

فقال سليمان: قتلتني يا شيخ، ودخل السفاح وأخذ سليمان فقتل)
ومن قراءة ما ذكره ابن الأثير يمكن ترتيب سيناريو الأحداث على النحو التالي:
السفاح يؤمن أحد كبار الأمويين (نجل خليفة سابق) – السفاح يبالغ في تأمينه وطمأنته بدعوته إلى الطعام، وإكرامه – يدخل شاعر على السفاح ويبدو دخوله كأنه مفاجأة – ينطق الشاعر بأبيات تدعو للانتقام من الأمويين وتستنكر معاملتهم بالرفق واللين – يصرخ الأموي قائلاً: قتلتني يا شيخ – ينفعل الخليفة بقول الشاعر فيقتل الأموي – ينتهي المشهد.


والآن إلى القرار أو الحادثة أو الفيلم الكامل لما فعله السفاح بعد ذلك وكرر فيه نفس ما حدث في البروفة، مع إتقان أكثر، وتفنن غير مسبوق في التمثيل (بالأمويين)، ولنقرأ معا ما ذكره ابن الأثير:

(دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم"وفي رواية أخرى سديف"على عبد الله بن علي"وفي رواية أخرى على السفاح"وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلاً على الطعام فأقبل عليه شبل فقال:

أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها بعد ميل من الزمان وباس
لا تقيلن عبد شمس عثارا واقطعن كل رقلة وغراس
ذلها أظهر التودد منها وبها منكم كحر المواسي

أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان والإتعاس (إلى آخر القصيدة..)
فأمر بهم عبد الله (وقيل أنه السفاح) فضربوا بالعمد حتى قتلوا وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا).


والرواية السابقة تبدأ بتأمين السفاح للأمويين الذين زاد عددهم هذه المرة إلى تسعين، والمأدبة هي نفسها، وما دام المضيف هو الخليفة فالكرم وارد، والطمأنينة لا حد لها، وفجأة يدخل الشاعر، ويستنكر اكرامهم، ويدعو للثأر منهم، فيتغير وجه الخليفة، ويقوم إليهم ثائراً، و...

وهنا نتوقف لأن هنا جديداً مفزعاً، فقد أمر السفاح بضرب رؤوسهم بأعمدة حديدية، بحيث تتلف بعض مراكز المخ، ويبقى الجسد حياً، مصطرعاً بين الحياة والموت، وما أن يرى السفاح أمامه تسعين جسداً منتفضاً، تقترب مسرعة من الموت، وترتفع أصواتها بالأنين، حتى يأمر بوضع مفارش المائدة فوقهم، ثم يجلس فوق هذه المفارش، ويأمر بالطعام فيوضع أمامه فوق الأجساد، ويبدأ في تناول عشائه بينما البساط يهمد هنا ويهمد هناك، وبين همود وهمود، يزدرد هو لقمة من هذا الطبق، ولقمة من ذاك، حتى همد البساط كله، ففرغ من طعامه، وتوجه إلى الله بالحمد، وإلى حراسه بالشكر، وإلى خاصته بالتهنئة، ولعله قال لنفسه، أو لخاصته، والله ما أكلت أهنأ ولا ألذ ولا أطيب من هذا الطعام قط !!!!!

فليس أقل من هذا الحديث ما يلائم سلوك السفاح، ذلك الذي يزدرد اللقيمات على زفرات الأنين، ويساعده على الهضم صعود الأرواح، وقد نفهم أن يقتل الحاكم الجديد حكام الأمس، أو أن يتخلص بالقتل من منافسيه على الحكم، أو مناوئيه على السلطة، فقد حدث هذا كثيراً، وأقرب نماذجه مذبحة المماليك بالقلعة على يد محمد علي، لكن ما لا نفهمه، أن يجلس الخليفة فوق الضحايا، وأن يهنأ له الطعام فوق بركة من الدماء، وعلى بساط يترجرج مع اصطراع الأجساد، وعلى أنغام من صراخ الضحايا حين يواجهون الموت، بل ربما وهم يسعون إليه هرباً من الألم والعذاب..

نحن هنا أمام تساؤل تطرحه هذه الحادثة، وأمثالها كثير، قبل السفاح وبعد السفاح، ربما ليست بهذه الروعة في الإخراج، أو الحنكة في التدبير، أو السادية في العبير، لكنها في النهاية تحمل نفس الدلالة وتنقل إلينا نفس الرسالة، يتساوى في ذلك مقتل حجر بن عدي على يد معاوية أو الحسين على يد يزيد أو ابن الزبير على يد الحجاج أو (زيد بن علي) على يد هشام.

والتساؤل عن كنه الخلافة التي يدعون أنها إسلامية وينادون بعودتها من جديد، هل هي إسلامية حقاً فنزنها بمقياس الإسلام، فتخرج منه، وتنبوعنه، وينتهي الحوار حولها إلى موجز مفيد، فحواه أنهم ادعوا أنها إسلامية فأثبتنا أنها لم تكن، وكفى الله المؤمنين شر (الخلافة)، أم أنها كانت حكماً استبدادياً يتستر برداء الدين، فنثبت عليهم الحجة، ونلقمهم حجراً علمانياً حين نوضح لهم الفرق بين استبداد الحكم الديني في العصور الوسطى، عصور الاستبداد والتعذيب والجبروت، وعلمانية العصر الحديث، عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الآدمية.
أحسب أن الأمر لا يخرج عن ادعاء من الادعاءين، وأحسب أيضاً أن الإجابة واضحة في الحالين، غير أن ذلك كله يطرح سؤالاً أكثر وضوحاً، وهو لوضوحه وبساطته لا يحتاج من القارئ إلى جهد أو اجتهاد لإجابته .

لا اله الا الانسان
نشأ الدين عندما التقى أول نصاب بأول غبي
Religion can never reform mankind , because religion is Slavery
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05348 seconds with 11 queries