ولا نستطع أن نقول أن الإغفال النقدي كان مطلقا وإنما الدور النقدي ذاته قد اختلف من اللهجة الاحتفالية، ليتحول إلي اللكنة الهادئة النبرة التي تنزع إلي التحليل، ولعل تغير طبيعة العمل النقدي قد أثر في وجدانات مبدعين كانوا يحلمون بأن يقوم النقد لهم بمثل ما قام به للأجيال السابقة أي (صناعة النجوم) في حين أن هذا الدور لم يعد صالحاً لهذه المرحلة.
الملاحظة الثانية أنه في الوقت الذي بدأ فيه جيل جديد من الشعراء عطاءه، وفد إلي الساحة هذا الاتجاه السرطاني المدعو بـ (البنيوية) الذي حول الإبداع إلي جداول رياضية وألغاز علمية، ولقد انتشر هذا الاتجاه تحت تهديد سافر بأن من لا يعتنقه فهو متخلف إبداعيا، والذين روجوا لهذا الاتجاه - (الذي مات في بلاده) - هم أنفسهم الذين يواجهوننا بالنفي والإنكار، وبدا الوسيط النقدي الذي كان لزاما عليه إرساء الشرعية للجيل الجديد ومنجزاته مشغولا بقولبة نفسه مع الآخرين وأشاح بوجهه عن الذين يرسمون ملامح مرحلة جديدة، ولعل هذا كان من دواعي عرقلة الحركة الشعرية السبعينية وما بعدها.. رغم المواهب الحقيقية التي أسفرت عنها هذه المرحلة وما بعدها.
لقد أخفقت الحركة النقدية في أن تلعب دورا مواكبا لهذا الإنتاج، والتيار النقدي الذي احتوي المخاض الإبداعي للحلم القومي انطوي علي نفسه في حالة من الرثاء الشخصي بعد انكسار هذا الحلم.
ولكنني لا أستطيع انكار المجهود النقدي المعاصر.. الذي تمثل في ميلاد جيل جديد من النقاد الواعين والمتيقظين والمتعاطفين مع ما هو جديد.
رغم وجود بعض المجلات المتخصصة التي اتحفظ عليها مثل «فصول» التي غلبت علي طابعها العام الدراسات النظرية والتي زايدت بها علي الجوانب التطبيقية، وقد غلبت الرؤية الغربية علي آرائها النقدية، وهي لم تقدم أي مؤازرة للإبداع بل جعلت من النقد كهنوتا يهاب منه ومنفصلا عن الإبداع، وكأنها تبتكر لغة سرية، لا نقدية.
وهل كان لهذا الغياب المرحلي لدور النقد إزاء تقديم التيارات الجديدة أثره علي انحسار جمهور الشعر، وكأن القصيدة تصرخ في آبار مهجورة فلا يرتد لها سوي أصدائها الخاصة ؟
أعتقد أن جمهور الشعر الحديث ليس وحده هو الذي انحسر، ولكن تضاؤل المهتمين بكل ما هو جاد وبكل ما يمثل قيمة فنية حقيقية، بما في ذلك القراءة عموما ولكننا أصلا ليس لدينا خريطة واضحة تتعلق بقراءة الشعر الحديث أو بأسلوب إعادة طرحه علي مائدة اهتمام القارئ، ليس لدينا خطة سوي من خلال توزيع المجلات الأدبية وأري أن هذا التوزيع يجتاز أزمة حقيقية بالفعل.
كما أن عدم تبني الصحف اليومية لنشر نماذج رفيعة المستوي شعريا قد أدي إلي تراجع اهتمام الجمهور بالشعر.
إن ما ينشر في الصفحات الأدبية في الصحف الرسمية يقترب من مستوي الفضيحة الشعرية، فهي قصائد هزيلة في معظمها، ولا أدري كيف يتم نشرها... علينا أولا أن نشذب تلك الذائقة المتخلفة للقارئ العادي الذي يحرص علي اقتناء الجريدة اليومية كذلك هناك مجلات أدبية لا يصل توزيعها إلي نسبة توزيع كتاب لكاتب مجهول.
أيضا هناك أزمة إعلامية... حيث لا يقوم الإعلام بالتقديم الكافي أو اللائق للقصيدة الحديثة.
وأضيف في النهاية - مما أشرت إليه في إجابة علي سؤال سابق - عدم المواكبة النقدية التي لم تقدم تفسيرا نقدياً للحركة الجديدة من القصائد الحداثية.
كل هذه العوامل دون ذكر غيرها.. كفيلة بتراجع شعبية القصيدة المعاصرة بالتحديد.
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|