الموضوع: هيفاء بيطار
عرض مشاركة واحدة
قديم 11/12/2007   #38
شب و شيخ الشباب Moonlights
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Moonlights
Moonlights is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
فوق جبل بعييييييد
مشاركات:
263

افتراضي صديقي التمساح / هيفاء بيطار


صديقي التمساح

سأله التمساح الصغير: أتبكي يا خليل؟
أجاب خليل والدموع تسيل في أخاديد وجهه الممتلئة بالطيبة: أجل كان صدره يفرز زفرات قوية, وهو يحس في كل زفير كم هو مؤلم أن يشعر الإنسان بهذا اليأس كله, رفع عينيه المخضبتين بالدمع ونظر إلى التمساح الأخضر الصغير الذي يحسه أقرب ما في الوجود إلى روحه كان التمساح يحدق إليه بعينين سوداوين خاليتين من النظرات, ياه لن يصدقه أحد لو قال إن هذا التمساح الصغير صديقه, ألأنه هدية من جدته رحمها الله؟ هل يحس أن هذه الدمية متشربة بروح جدته؟
لن ينسى ذلك اليوم أبداً حين قدمت له جدته هديته في عيد ميلاده السادس, مزق الورق الملون بنفاد صبر ليكشف عن تمساح صغير ضاحك من اللونين الأخضر والأحمر, علمته جدته كيف يلبس جسد التمساح بكفه ويحرك أصابعه فيتحرك التمساح, اكتشف متعة الدمى المتحركة ماتت الجدة وصار أباً ثم جداً وظل التمساح صديقه المضل في عالم تبخرت منه الرحمة والتعاطف.
لم يكن يعلم أنه يملك هذا الزخم من الدموع سأل نفسه برقة: أهو التعب يا خليل الذي يجعلك تبكي هكذا؟ كان غارقاً في حنين هائل لأشياء غامضة, غامت صورة التمساح كأنها تذوب في دموعه حدثه بصوت مرتعش: وحدك تعرفني وتشهد علي منذ أكثر من أربعين عاماً, تذكر سعادته البعيدة حين كان يلبس التمساح في يده كقفاز ويحركه ويخاطبه ويخلق حوارات لا تنتهي بينهما.
تمخط بكم بجامته وهو يحدّث نفسه بسخرية مرة: والله لم يتغير شيء وحدك تفهمني أكثر من البشر كلهم, انسكبت أمامه سنوات حياته بسهولة كأنها تتدفق من صدره سنوات متشابهة يلفها سراب تذكر فجأة فكرة عبرت ذهنه عصر هذا اليوم بأنه لن يموت من كثرة مشاغله غابت الفكرة في الازدحام أو ربما ذابت من وهج الشمس الغاضبة, كم يكره الحر أمره مديره أن يصور أوراق الملف بأقصى سرعة ركب قدميه وانطلق بسرعته القصوى إلى محل التصوير كان مرهقاً مكفهر الوجه منهمكاً في تصوير ثلة من الأوراق رجاه أن يصور له الملف وقال إنه سيعطيه مبلغاً إضافياً رشقه الصبي بنظرة باردة وقال وهو يتفحصه ليتبين مدى جديته في إعطائه المزيد من المال: هات.
دفع للصبي ليرات زيادة على الحساب وأسرع إلى مديره يسلمه الملف دخل المطبخ ليعد القهوة لسيدة أنيقة أذابت قسوة المدير بجمالها وغنجها انفلتت من فمه شتائم خرساء لأن المياه مقطوعة, صرخ به المدير : تعال يا خليل النحس, خلال ثانية مثل أمام المدير يتلقى تقريعه: الله لا يعطيك العافية صور هذه الأوراق غير واضحة أين عقلك يا أخي اذهب وصورها مجدداً.
أذعن لأمر المدير, لم يحضر القهوة للسيدة الجميلة, نزل ثمانين درجة قفزاً بسبب تعطل المصعد دخل محل التصوير ذاته قال للصبي بجفاء: هذه الصفحات غير واضحة, أجاب الصبي بغضب: هاتها ناوله الأوراق كاظماً غيظه, أخذ العرق يتصبب منه وهو سصعد الدرجات الثمانين, حلم أنه يغتسل بماء بارد منعش, أو يغطس في البحر, لوهلة تمنى لو يغرق في البحر, وستغرق مشاكله اللانهائية معه وسيرتاح أوف لا راحة للإنسان إلا بالموت هذا ما فكر به وهو يعطي الأوراق للمدير الذي قال له: حضّر الآن قهوة للسيدة.
سألها بلهجة ذل تعودها حتى صارت من طبيعة عمله كآذن: كيف تشربين القهوة؟
أجابت السيدة: سادة.
اندلقت القهوة ولطخت سطح الغاز الأبيض وهو شارد في كلام زوجته الذي استعاده كلمة كلمة, كل صباح تبدأ بمخاطبته بلهجة الأمر الجافة: لا تنسَ أن توصي السيد كمال بطلب توظيف ميساء في المصرف, قلبه يحترق على ميساء, ابنته البكر المتخرجة من كلية التجارة منذ خمس سنوات وتبحث باستماتة عن وظيفة, وعده مديره أن يكلم صديقه مدير المصرف بشأن ميساء, في الحقيقة خدمه الرجل, وحدد له موعداً من مدير المصرف, الذي قابله بلطف مصطنع هو وابنته, ورغم إحساسه أن مدير المصرف كان يتأمل ابنته بنظرات شبقة غض النظر وهو يرى يد المدير تشد على يد ابنته ويقول لها: راجعيني بعد أسبوع.
قرر أن يذكره هو بدلاً من ابنته, هكذا أوصته زوجته مؤكدة: يجب أن نلاحق مصالحنا أفهمت يا خليل.
يجيب متململاً: لكن الناس يملون منا, من كثرة الإلحاح.
تقاطعه: لا يهم, يجب أن نصل لأهدافنا.
كلما تحدثة زوجته عن الأهداف, يتخيل الكرة تدخل في الشبكة, إنه لا يستطيع أن يفهم أبداً أن هناك أهدافاً, ثلاثون سنة وهو يكدح وراء اللقمة وهو بحالة ذعر من ألا يتمكن من تأمين الطعام لأسرته المؤلفة من أربعة أولاد وزوجته, هل يصح أن يعتبر رغيف الخبز هدفاً؟ إنه دائري وكروي أحياناً, يشبه الكرة التي تتقاذفها الأرجل لكنه يحس أن أرجلاً خفية تتقاذفه هو بدل الرغيف!
اضطر أن يحضر القهوة مجدداً للسيدة الجميلة التي صعقت المدير, شتم على شروده, وفكر بقلق إن كان من المناسب أن يطلب من مديره السماح له بالذهاب إلى المصرف, تشجع وهو يقول لنفسه: سيسمح لي بالتأكيد كي يخلو له المكان مع السيدة الجميلة, أذن له المدير كما توقع, بل قال له بأنه لا يريد منه شيئاً وبأنه يستطيع أن ينصرف حتى دوامه بعد الظهر.
تخيل أن المدير سيغلق باب المكتب, ويعري السيدة من ملابسها ويمارسان الجنس على الأريكة الجلدية الواسعة, أحس بإثارة شاحبة, تذكر أنه منذ سنوات طويلة لم يعد يقرب زوجته, تحديداً لم تعد هي تقربه بعد أن ابتلى بداء الصدف, ياه ما حيلتي في مرضي؟ ما ذنبي؟ كان لا ينفك يتساءل بألم ما ذنبه أن ينام على فرشة في الصالون الضيق؟
لكنه مع الزمن اعتاد وحدته مع نفسه, وتآلف مع حياة العزوبية لدرجة أنها الأكثر طبيعية.
لكم يكره الحر, وصل أخيراً إلى المصرف مهدوداً من التعب والعطش, تخيل أن أول شيء سيفعله شرب الماء البارد, لكنه سرعان ما نسي عطشه مستسلماً لبرودة المكيف المنعشة, وتركز اهتمامه كله على مقابلة المدير.
قالت له السكرتيرة وهي ترمق ثيابه باستخفاف: المدير يترأس اجتماعاً هاماً ولا يستطيع أن يقابلك.
قال لها متوسلاً: وهو الذي طلب مني أن أذكره بطلب توظيف ابنتّي ميساء.
ابتسمت بسخرية لحظها: أعدك أن اذكره نيابة عنك.
سألها وهو يحس كم هو متعطش لحديث إنساني يحمل في طياته أملاً.
-هل وافق؟ أقصد هل سيوافق؟
قالت: لا أعرف, لكن هناك أكثر من مئة طلب توظيف.
جف حلقه وتكثف إحساسه بالعطش, حدق في الموظفة وتوسل إليها بنظرته أن ترد عليه كما يرجو: لكن المدير وعدنا, قال لميساء بأنها كفؤاً...
قاطعته الموظفة باسمة: المتقدمين كلهم من حملة الشهادات الجامعية.
أحس بالتقهقر وهو يهبط الدرج ويعود للحر الرطب, وصل بيته البعيد وهو يلهث, في الأشهر الأخيرة صار يلهث كثيراً, قال له صديقه بأن هذا دليل مرض قلب, لم يبالِ لسببٍ وحيد كونه لا يملك المال لمراجعة طبيب سيخضعه للعديد من الفحوصات المكلفة.
ما أن وصل بيته حتى سألته زوجته بلهجةٍ متحفزةٍ للقتال: خير, قال وقد فهم قصدها: لك أتمكن من مقابلة مدير المصرف لأنه يترأس اجتماعاً.. قاطعته وهي منهمكة في فرط الحصرم: يعني لم تره!
لا, السكرتيرة ستكلمه نيابة عني.
رمت بعصبية عنقود حصرم من يدها, وقامت إلى المطبخ تشتم الظروف والحظ, كان يعرف تماماً أنها حين تشتم حظها فهي تعنيه, لم يكن يجرؤ أن يرد عليها, لعله في أعماقه يتعاطف معها, ألا يكفيها الفقر, ومرضه المقرف الذي يجعل لجلده قشوراً سميكة, إنها تعاني من حرمان كتعدد الوجوه, لكن لماذا تصر على إهانته؟!
أحضرت له طعام الغداء المطبوخ منذ يومين, رز بالعدس. وباذنجان مقلي, لم يشعر بجوع, لكنه ابتلع طعامه في لقمات كبيرة دون مضغ يذكر, حدثته زوجته وهي تدير له ظهرها: أفرط ما تبقى من الحصرم, والله أكاد أموت من التعب.
قال محتجاً: لكن, أنا متعب أيضاً.
ردت بنزق: متعب! هل غسلت الثياب حتى اهترأت يداك؟ أم هل كويت أكواماً من الثياب؟
قال: حسناً حسناً, سأفرط الحصرم, والله يعطيك العافية.
أخذ يفرط حبات الحصرم التي أحدث صوت ارتطامها بقعر الوعاء إيقاعاً جعله يدخل بحالة تشبه الغيبوبة, شعر بألم مفاجئ في صدره, يعرف أنه ألم الشوق, كم يشتاق إلى ابنه الذي ضاقت به سبل العيش, وهده الحرمان, فهج إلى البحر, ترى ماذا يعمل في الباخرة الضخمة؟ حذره من عالم التجارة الذي لا يطمئن له قلبه, لكن ابنه ضحك وقال: لا تخشى علي, فأنا رجل, شاب في الثانية والعشرين, لا يستطيع أن يهبه سوى حب كبير من قلب أعزل يتلقى صدمات الحياة بصبر.
انبثقت قطرة حمض من الحصرم ودخلت عينه, أحرقتها فسالت قطرات من الدم وانزلقت في خطوط وجهه, لم يمسحها لأنه كان يتابع عمله يآلية, اقتربت منه فادية ابنته الصغرى ذات العشر سنين, وسألته: باب متى ستشتري تلفزيوناً ملوناً؟
كم أضحكه سؤالها, ربما ضحك لأنها كشفت له كم هو عاجز.
قال قريباً أن شاء الله
لكنك وعدتني منذ ثلاث سنوات؟
آه يا فادية , قالها وكأنها خارجة من بخار روحه المختنقة منذ ربع قرن.
ساعتان وهو يفرط الحصرم, غسل يديه ووجهه وانطلق مجدداً إلى عمله, فكر هل يطلب من مديره أن يتحدث إلى مدير المصرف غسل فنجان القهوة ومسح الأرض, ونظف صحن السجائر, كان عطر المرأة يغمر المكان, تنشقه بعمق, ياه! في حياته كلها لم يملك زجاجة عطر! بدت له تلك الحقيقة مثيرة ومؤلمة في آن, إنه لا يعرف سوى صابون الغار والعطور ومزيلات الروائح كلها مجرد صور يتأملها في التلفاز والمجلات. اتصل به مديره يأمره أن يترك المكتب حالاً, ويذهب لإحضار السمك من البائع الذي يتعامل معه المدير, ويأخذه إلى بيت السيدة التي زارته صباحاً, أملى عليه عليه عنوان بيتها, حلم وهو يحمل الأسماك أن يشوي سمكة ويأكلها, تجلت طعماً مبهماً في فمه, يبدو أنه لم يعد يتذكر طعم الأسماك؟! فكر ماذا لو سرق بضع سمكات؟ لكن – حدث نفسه – لم تلوث يديك يا خليل أبداً, فأي خاطر شيطاني يغريك بسرقة السمك!
تسلل سؤال خبيث إلى روحه: هل أنت شريف مؤمن بالأخلاق, أم لأنك تخشى العقاب؟
ارتجفت مفاصله من هذا السؤال, أحس أن انفعاله المبالغ به ليس سوى دلالة على شيء من غش في نزاهته وشرفه.
حين عاد مساءً إلى بيته, كانت مصيبة بانتظاره, ميساء تبكي وتخبره أن فتاة غيرها قبلت في الوظيفة وكانت زوجته تشتم حظها والفقر والنحس.
لم يستطع أن يتفوه بكلمة, أحس أنه يجف كعود, ويصير حطبة سرعان ما احترق بعود ثقاب, كان يتمنى بجوارحه كلها لو يحترق ويفنى, هرب من نظرات زوجته التي كانت تحب أن تعاقبه بلا رحمة على ذنوب لم يقترفها!
كم هي ثقيلى الحياة, كم هي ثقيلة! جلس على كرسيه المهدود من التعب, مثله تماماً, في المطبخ الضيق, يرشف شاياً ويأكل بضع حبات من الزيتون تنبّه للتمساح يحس به, ابتسم من المفارقة المضحكة: يتهمون التمساح بقلة الإحساس.... والنفاق, يقولون دموع التماسيح! لكن أي زمن هذا يكون فيه تمساح أكثر رحمة من البشر!!
هيفاء بيطار

We ask the Syrian government to stop banning Akhawia and all Syrian sites

القمر بيضوّي عالناس
والناس بيتقاتلوا .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.08758 seconds with 11 queries