عرض مشاركة واحدة
قديم 12/08/2008   #17
شب و شيخ الشباب nabaga
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ nabaga
nabaga is offline
 
نورنا ب:
Aug 2008
مشاركات:
9

افتراضي


إن الحل الذي يراه الطيب صالح في روايته أمام بطله المضطرب المعذب هو أن يعود إلى أصله ومنبعه ليبدأ من جديد هناك . فهذه هي البداية الصحيحة والسليمة . لم يجد نفسه في لندن مهما أخذ من علمها وثقافتها ، ومهما طاردته نساؤها وتعلقن به تعلقاً جسدياً شهوانياً عنيفاً ، لن يجد الطمأنينة ابداً إلا إذا عاد إلى النبـع ، وألقى وراء ظهره بقشور الثقافة الغربية ، وأبقى على جوهر هذه الثقافة ثم مزج هذا الجوهر بواقع بلاده ... هنا فقط سوف يصبح إنساناً منتجاً ... إنساناً فعالاً له دور حقيقي في الحياة .

وهذا هو نفس الحل الذي ارتآه من قبل توفيق الحكيم لبطله محسن ، فقد عاد به إلى الشرق ليبدأ البداية الصحيحـة . وهذا ما رآه يحيى حقي في "قنديل أم هاشم" لبطله "إسماعيل" ... إن اسماعيل لكل علمه لا يمكن أن يقدم لوطنه شيئاً إلا إذا بدأ من السيدة زينب وتزوج من فاطمة الزهراء ابنة هذا الحي الشعبي .. فالذين يتعالون على واقعهم الاصلي ، أو ينفصلون عنه ، لا يمكن لهم أبداً أن يؤثروا على هذا الواقع أو يغيروا فيه أي شئ ، إن مثل هذا الواقع لم يهضمهم ولن يعترف بهم ، بل سوف يرفضهم تماماً مثلمـا يرفض أي جسم غريب وشاذ . لابد أن تكون البداية من الواقع ، من النبع الأصلي ، من القرية ، من السيدة زينب ، من الناس الذين بدأ بينهم الإنسان وخـرج منهم .

على أن هذه الرؤية الحضارية عند هذا الفنان الشاب ترتبط أشد الارتباط برؤية إنسانية أخرى ، استطاع الطيب صالح أن يصورها ويجسدها لنا في روايته بصورة عميقة تسمو إلى درجة عالية من الشفافية والمقدرة الفنية الخلاقة المبدعة .

وهـذه الرؤية الإنسانية تتضح أمامنا بعد تحليل الرواية وتحليل علاقاتها المختلفة .

فمصطفى سعيد بطل الرواية يرتبط في انكلترا بأربع علاقات نسائية ، وتنتهي هذه العلاقات بانتحار ثلاث فتيات ، كما تنتهي العلاقة الرابعة بالزواج ثم بجريمة قتل قام بها مصطفى سعيد .. لقد قتل زوجته في سريرها ، وبعد محاكمتـه في لندن ، والنظر في ظروف القضية ، تم الحكم عليه بسبع سنوات ، قضاها في احد السجون ، ثم عاد إلى احدى القرى السودانية واشترى أرضاً عمل فيها بنفسه وتزوج من احدى بنات القرية وهي حسنة محمود وأنجب منها ولدين .

والعلاقة بين مصطفى سعيد والفتيات الانكليزيات الثلاث لم تتجاوز العلاقة الجسدية ، لم يكن هناك بين هذه العلاقات علاقة حب حقيقية ، بل كانت كلها علاقة شهوة جامحة ، فالفتيات الانكليزيات يرين في مصطفى سعيد مظهراً للقوة البدائية الوافدة من إفريقيا . إنه بالنسبة إليهن ليس إنساناً يستحق علاقة عاطفية كاملة بكل جوانبها الروحية والمادية معاً ، فهو كائن غريب ، يحمل رائحة الشرق النفاذة ، وهو حيوان إفريقي يستحق أن تلهو به هؤلاء الفتيات ، ويستمتعن به فقط .

إن علاقة مصطفى سعيد بهؤلاء القتيات ليست علاقة عاطفية إنسانية صحيحة قائمة على التوازن والمساواة ، بل هي علاقات حسية قائمة على الاستغلال ، وهذا النوع من العلاقات يذكرنا ولا شك بالعلاقات بين الاستعمار والبلاد المحتلة ، فالاستعمار يستغل بلداً من البلدان ويستنزفها بقسوة لكي يستمتع بما فيها من ثروات وإمكانيات ، ولو أننا لاحظنا تمسك الاستعماريين ببلدان إفريقيا على سبيل المثال لوجدنا أن هذا التمسك فيه رائحة خارجية سطحية من المحبة والعشق بل والهوس العاطفي ، لقد كان الفرنسيون يتركون الجزائر بعد استقلالها وهم يذرفون الدموع الغزيرة ، وفي جنوب إفريقيا نجد أن الاوروبيين لا يريدون أن يتركوا الارض الإفريقية ، إنهم يتمسكون بها كما يتمسـك العشاق بشئ عزيز عليهم ... ولكنهم في حقيقتهم ليسوا عشاقاً ، وإنما هم يستغلون ويستثمرون الأرض والناس .

هكذا كانت فتيات لندن يجدن في مصطفى سعيد صحة وقوة وإثارة لخيالهن الجامح حول إفريقيا وما فيها من عنف وحيوية ، ومن هنا أقبلت عليه الفتيات كالفراشات ، أو أن أردت صورة أقبح وأصدق : فإنهن قد أقبلن عليه كما يقبل الذباب على قطعة من الحلوى .

أكان من الممكن أن يحب مصطفى سعيد مثل هؤلاء الفتيات ؟ كلا بالطبع ولا واحدة منهن أثارت فيه عاطفة سليمة . وقد كان هو نفسه مشحوناً – من الداخل – ضد أوروبا ، وضد التشويه الإنساني الذي حملته أوروبا إلى إفريقيا والإفريقيين في نفس الوقت . ولذا كانت نظرته إلى الاوروبيات إليه نظرة غير إنسانية ، ومن هنا اقتصرت هذه العلاقات كلها على الجانب الجسدي ، ثم سئم منهن في النهاية فتركهن وانتهى بهم الأمر إلى الانتحار ، لا بسبب عاطفة صادقة ، ولكن بسبب عادة جسدية عنيفة ضاعت وضاع معها كل ما حولها من خيال جامح . ثم جاءت علاقة مصطفى سعيد بالفتاة الانكليزية التي تزوجها . ظل في البداية يطاردها وترفضه رفضاً كاملاً ، واخيراً طلبت منه أن يتزوجها . وتم الزواج بالفعل ، ولكنها تعودت على أن تثيره بشتى الوسائل والاساليب العنيفة دون أن تسمح له بالاقتراب منها ، إنها تشتهيه وتحتقره في نفس الوقت . تريده وتنكره بل وتنكر على نفسها أنها تريده . وظلت هكذا تعذبه وتعمل على تهديم أعصابه بلا رحمة حتى هددها بالقتل فلم تعبأ بالتهديد . وجاء يوم قرر فيه أن يقتلهـا بالفعل ، فاستسلمت للقتل كما تستسلم لأي علاقة جسدية تريدها في هوس مجنون . وكان مقتل هذه الفتاة عنيفاً غريباً ، وكانت هي نفسها تشتهي هذا القتل وتطلبه وتتمناه ، لأنها كانت تجد في مصطفى سعيد مثالاً مجسداً للعنف الإفريقي ، وكان لديه ولا شك الكثير من "السادية" أو الرغبة في تعذيب الآخرين ، كما كان لديها أيضاً الكثير من " الماسوشية" أي الرغبة في تعذيب النفس .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06518 seconds with 11 queries